توقيت الإصدار مهم بالنسبة لكتب العلوم السياسية، فسرعة ما يحدث وسرعة التنافس هنا على أشدها. وهذ يجبر الكتاب على تسليم نتاجاتهم في مواعيد محددة، والا سيكون المطبوع متاحا على الانترنيت وبسعر متواضع.

كان توقيت الإصدار، بالنسبة لأستاذة العلوم السياسة النمساوية ناتاشا شتروبل هو الانتخابات الفيدرالية الألمانية في ايلول 2021، لتصدر كتيبها “تحليل تيار المحافظة المتطرفة”. لأنها لاحظت بشكل صحيح: ان “العديد من أحزاب يمين الوسط التقليدية في حالة تدهور أو على الأقل في معضلة: هل ينبغي عليها الانفتاح على الأوساط الحضرية التقدمية؟ أم تفضل رؤيتها المحافظة؟ في حين مثلت أنغيلا ميركل أحد النموذجين، مثل سياسيين مثل دونالد ترامب أو المستشار النمساوي سيباستيان كورتس النموذج الآخر”. تشهد الديمقراطية الألمانية حاليا تطورا مشابها للتطور الذي عاشته في السابق دول أوروبا الغربية الأخرى، ولكن مع شيء من التأخير: يتعلق الأمر بالأزمة التي نوقشت كثيرا في الحزبين الشعبيين الكبيرين، الديمقراطي الاجتماعي والمسيحي الديمقراطي، اللذين شكلا في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية ملامح السياسة في أوروبا الغربية وصولا الى القرن الحادي والعشرين. وكان متوقعا أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي لن يحافظ في الانتخابات الأخيرة (2021 )، على قوته التصويتية التي رافقته في العقود الأخيرة وبالتالي هناك ضرورة لمراجعة تشمل الكادر القيادي والمحتوى والأسلوب السياسيين.

تحليل الاسلوب السياسي

ومع ذلك، لم تكتب ناتاشا شتروبل كتابا عن الاتحاد المسيحي بشقيه، الحزب الديمقراطي المسيحي، والحزب الاجتماعي المسيحي، لكنها قدمت تحليلاً لأسلوب سياسي سمته “المحافظة الراديكالية” وقد أوضحت من خلاله تناول سياسات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والمستشار النمساوي سيباستيان كورتس، الذي استقال أخيرا من منصبه.

يبدو أن مسيرة سيباستيان كورتس، الذي تم التودد إليه أيضا في ألمانيا باعتباره “معجزة سياسية”، قد انتهىت. لقد أصبح كتاب شتروبل الآن موضوعا أيضا لأنه يعالج علاقة كورتس الفاسدة بوسائل الإعلام، وشرائه التقارير الجيدة بأموال دافعي الضرائب. في تغريده لها إشارت الكاتبة الى أهمية كتابها بقولها انها “بدأت في كتابته عندما كان كورتس وترامب في مركز السلطة. في هذه الاثناء أصبح كل شيء من الماضي”. بعد شهر من نشر الكتاب، لم يعد كورتس مستشارا للنمسا. وبالتالي ما كان ممكنا ان يصدر كتاب “المحافظة الراديكالية” في وقت متأخر..

لكن ماذا يعني المصطلح في الواقع؟ المحافظة، كما يعلمنا علم السياسة، هو أحد التيارات السياسية الرئيسية الثلاثة للحداثة والتي ظهرت في أعقاب الثورة الفرنسية. إن الحفاظ على الظروف القائمة بالمعنى المادي والمثالي هو مطلبها الأكثر أهمية. ومع ذلك، فإن النزعة المحافظة ليست أيديولوجية مضادة للتيارين السياسيين الرئيسيين الآخرين في التاريخ الأوروبي، الليبرالية والاشتراكية. وأكثر من هذا، لديها “مخزون أيديولوجي” خاص بها: التسلسلات الهرمية الواضحة وما ينتج عنها من عدم المساواة تضمن النظام الاجتماعي وفق صورتها للمجتمع، وعلى الرغم من عدم المساواة الاجتماعية، يتم الحفاظ على فكرة الانسجام الطبقي. تعتبر الملكية الخاصة، التي يجب أن تحميها الدولة، ذات أهمية خاصة، مثلها مثل “القيم” والمواقف التي غالبا لا يتم تحديدها بدقة أكبر، وكذلك المعتقد الديني، الذي يُنظر إليه على أنه مساوٍ على الأقل، إن لم يكن أعلى من العقل البشري.

الفاشية بالمقابل هي وليدة القرن العشرين. إنها تشارك المحافظة في فكرة عدم المساواة، ولكنها على عكس الأخيرة، لا تريد الحفاظ على ما هو موجود بالفعل أو العودة إلى الماضي الحقيقي فقط، بل ومن المفارقات انها تريد السير قدما إلى ماض خيالي محير بواسطة نضال عنيف، وبتوظيف خطاب ثوري. والعلاقة بين المحافظة والفاشية محفوفة بالمخاطر، فكلا الأيديولوجيتين لا تقفان على خط مستقيم واحد ولا يتقاطعان مع بعضهما البعض. وهذا مهم لفهم مفهوم شتروبل عن “المحافظة الراديكالية” لأن مادتي التحليل، سيباستيان كورتس ودونالد ترامب، يتحركان في مكان ما بين الفاشية والمحافظةن اذ يمكن العثور على أمثلة لكليهما (المحافظة والفاشية) في خطاب الرجلين وممارساتهما السياسية. يضاف إلى ذلك، ان الظواهر السياسية لا تبدو على الشاشة في شكلها النقي، كما هي، في العلوم الاجتماعية.

برجوازية “خام”

إذن، هل “المحافظة الراديكالية” كشكل مختلط بين الفاشية والمحافظة هو التوجه المعاصر لليمين السياسي في القرن الحادي والعشرين؟ هل يمكن وصفه بأنه تيار سياسي منفصل ومتماسك على الإطلاق؟ تجيب ناتاشا شتروبل: لا، نحن إزاء أسلوب سياسي أكثر من كونه بناء فكريا جيد الصياغة. ان “المحافظة الراديكالية”، كما تعبر عن نفسها اليوم، تشبه بشكل مربك الشعبوية اليمينية على النحو المحدد في العلوم السياسية: برجوازية “خام” في شكل نضال ثقافي مستمر ضد مساعي التحرر الاجتماعي. فبدلاً من الدخول في مفاوضات مجتمعية، تطرح استقطاب العدو- الصديق، وفي تعاملها السياسي تضع الإرادة المزعومة للشعب في تناقض مع النخبة المعزولة.

المحافظون المتطرفون والشعبويون اليمينيون يجعلون مجموعات خيالية قادمة من الخارج كبش فداء للكارثة الاجتماعية ويبنون قيادة استبدادية بدلاً من المشاركة الديمقراطية كقوة مناهضة للمؤسسة. وفي الأخير هناك أيضا اختلاف جوهري: ان الطابع المناهض للمؤسسة في الأحزاب الشعبوية اليمينية التقليدية له جوهر حقيقي، إذا جاز التعبير، حيث تدخل هذه الأحزاب كمنافس جديد للأحزاب الرئيسية السائدة. ومفردة “القائمة” او السائدة في لغة دعاية الأحزاب اليمينية الشعبوية تعني شتيمة للأحزاب الأخرى. في حين يظهر “التيار المحافظ الراديكالي” داخل الأحزاب المحافظة القائمة: كورتس في حزب الشعب النمساوي، وترامب في الحزب الجمهوري الأمريكي. يتجه الخطاب السياسي وأسلوب هذه الأحزاب نحو اليمين المتطرف. وبذلك، يذيبون صورة العدو، التي يرسمها اليمين المتطرف التقليدي في صورة الليبرالية الجديدة. وتقوم سياساتهم على استراتيجية استقطاب دائمة، تستهدف بشكل أساسي القوى اليسارية والليبرالية. ولا يأخذون المعطيات والحقائق على محمل الجد. في النهاية، ما يبقى هو “مجتمع مشدود” لا يستطيع في كثير من الأحيان التمييز بين الأحداث المحلية والعالمية؛ المعايير تضيع. الهمسات والشائعات تحل محل التفكير المنطقي ومعها تضيع محاولات حل المشكلات الاجتماعية بالعقل والاعتدال. تقوم ناتاشا شتروبل بتحليل ووصف هذا النمط الجديد المفترض للسياسة وأسلوب الحكم بشكل جيد للغاية، مستخدمة العديد من الأمثلة. الا إن نقطة الضعف الحقيقية في الكتاب تكمن في أن المؤلفة تحصر نفسها بشخصيتي كورتز وترامب ، واحيانا تشير الى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في حين  في ايطاليا البلد المجاور للنمسا، كان هناك  على سبيل المثال قبل 25 عاما رجل من فصيلة دونالد ترامب: رجل الأعمال سيلفيو برلسكوني، الذي فصل حزب فورزا إيطاليا تماما على مقاساته كزعيم. كان صعوده إلى السلطة ممكناً فقط لأن الحزب الديمقراطي المسيحي المحافظ، الذي حكم إيطاليا لسنوات عديدة، غرق في بداية التسعينيات في مستنقع هائل من الفساد. لم يكن برلسكوني عدوا للمرأة فقط، مثل ترامب، بل رأى أنه يتعرض للاضطهاد والملاحقة من قبل “مدعين عامين” وقضاة حمر، تماما مثل ما فعل  الرئيس الأمريكي السابق ترامب، والمستشار النمساوي سيباستيان كورتس. إن هجمات كورتز وبرلسكوني على المدعين العامين المسؤولين عن الفساد تكاد تكون متطابقة بمفرداتها. وهناك جسر رابط بين تصريحات برلسكوني المتعالية بشأن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الذي وصفه بأنه “شاب وسيم و ذو سمرة جيدة”، وتصريحات ترامب. ومن الواضح أن رجالا مثل دونالد ترامب وسيلفيو برلسكوني، أو رغم كل الاختلافات، سيباستيان كورتس يجدون دائما أنصارهم في الديمقراطيات الغربية. كان بإمكان ناتاشا شتروبل أن تشرح بشكل أكثر وضوحا في كتابها متى وتحت أي ظروف حقق هؤلاء القادة الاستبداديون أغلبية ديمقراطية. وبدلا عن ذلك، تستخدم التوصيفات اليسارية العامة للأزمة، والتي تلاحقنا منذ فترة طويلة، على الرغم من أنها ربما تكون بطريقة معينة “الأزمة الدائمة” التي تسمح لأشخاص مثل ترامب وكورتس وبرلسكوني، بالتسلق (مع فارق زمني). عندها لن نتعامل مع شيء جديد جوهريا في ظاهرة “التيار المحافظ الراديكالي”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نقلا عن جريدة “نويس دويجلاند” (المانيا الجديدة) الألمانية

عرض مقالات: