خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، بدت النضالات من أجل «الاعتراف بالاختلاف» مشحونة بوعد تحرري. كثيرون من الذين التقوا تحت رايات الجنسانية والجندر والإثنية و«العِرق» لم يطمحوا فقط إلى توكيد هويات لا تزال تعاني من الإهمال، وإنما أيضا إلى إضافة بعد جانبي أكثر ثراء لمعارك إعادة توزيع الثروة والسلطة. عشية القرن الجديد، زادت مركزية مواضيع الاعتراف والهوية لكن العديد منها بات محملاً بمحمول مختلف: من راوندا إلى البلقان كانت مسائلُ الهوية تغذّي حملات التطهير العرقي إن لم نقل حملات إبادة أجناس، التي حفزت بدورها حركات مناوئة لها.

لم يتغير طابع النضالات فقط، تغير مستواها أيضا. فمطالب الاعتراف بالاختلاف تحرك الآن العديد من النزاعات الاجتماعية عبر العالم: الحملات من أجل السيادة الوطنية والحكم الذاتي للجماعات ما دون وطنية، ومعارك التعددية الثقافية، والحركات التي زخمت حديثا من أجل حقوق الإنسان على النطاق الدولي، وهي الساعية إلى الترويج للاحترام الكوني للإنسانية المشتركة والتمايز الثقافي في آن معا. وقد غلبت حركات الاعتراف تلك داخل الحركات الاجتماعية مثل الحركات النسوية التي كانت سابقا في صدارة إعادة توزيع الموارد. بالتأكيد، فإن هذه النضالات تغطي مروحة واسعة من التطلعات، من التطلعات التحررية الصرفة إلى تلك التي تستدعي الإدانة الحاسمة (ولعل معظمها يقع في منزلة بين المنزلتين). ورغم ذلك، فإن اللجوء إلى لغة مشتركة يستحق النظر فيه. لماذا اليوم- بعد انهيار الشيوعية من النمط السوفييتي وتسارع وتيرة العولمة- يتخذ مثل هذا العدد الكبير من النزاعات هذا الشكل؟ لماذا تغلف العديد من الحركات أهدافها بمصطلح «الاعتراف»؟

إنّ طرح هذا السؤال يعني أيضا ملاحظة التراجع في المطالبات بإعادة التوزيع ذات الطابع المساواتي. إن لغة التوزيع أقل بروزا في أيامنا هذه بعدما كانت اللغةَ المهيمنة على الاحتجاج السياسي في وقت مضى. المؤكد أن الحركات التي تجرأت على المطالبة سابقا بحصة من الموارد والثروة، لم تختف كليا. لكن تقلص دورها كثيرا تحت وطأة الهجوم النيوليبرالي الحثيث والمتكلّف ضد نزعة المساواة، وغياب أي نموذج ناجع لـ«اشتراكية قابلة للتحقيق» ووسط الشكوك واسعة الانتشار في جدوى كينزية الدولة التي تعتمدها الاشتراكية الديموقراطية في وجه العولمة.

إننا نواجه إذن كائنات جديدة في لغة التعبير عن المطالب السياسية وهي مثيرة للقلق لاعتبارين اثنين. الأول، هو أن النقلة من إعادة التوزيع إلى الاعتراف تتم بالرغم من تسارع العولمة الاقتصادية، أو أنها تتم بسببها، في وقت تفاقم فيه رأسمالية عدوانية توسعية الفوارق الاقتصادية على نحو جذري. في هذا الصدد، فإن مسائل الاعتراف لا تخدم في تدعيم وتعقيد وإثراء نضالات إعادة التوزيع قدر ما تخدم في تهميشها وحجبها وانزياحها. سوف أسمي هذه المشكلة «مشكلة الانزياح». الاعتبار الثاني: تجري نضالات الاعتراف في لحظة من التنامي العظيم للتفاعل والتواصل العابر للثقافات، حيث الهجرات المتسارعة ووسائل الإعلام الكونية قد ضاعفت عدد الأشكال الثقافية وزادت في تهجينها. على أن السبل التي تسلكها تلك النضالات لا تخدم الترويج للتفاعل اللائق بين أطر ثقافية تتكاثر عددا، وإنما تخدم في التبسيط المروّع للهويات الجماعية وفي تشييئها. فتسعى إلى تشجيع الانفصال والتزمت والشوفينية والبطريركية والتسلط. وسأسمي هذه المشكلة «مشكلة التشييء».

تتساوى مشكلتا الإزاحة والتشييء في خطورتهما البالغة، فبالقدر الذي تتولى فيه سياسات الاعتراف إزاحة سياسات إعادة التوزيع، فإنها قابلة لأن تفاقم بذلك من اللامساواة الاقتصادية. وبالقدر الذي تتشيّأ فيه الهويات الجمعية، فإنها تهدد بخطر تكريس التعدّيات على حقوق الإنسان وتجميد التناقضات ذاتها التي تزعم أنها تتوسط بينها. فلا عجب إذن أن يغسل العديد أيديهم من «سياسات الهوية» أو أن يقترحوا التخلص من النضالات الثقافية بالجملة. قد يعني ذلك لبعضهم إعادة الاعتبار للطبقة على حساب الجندر والجنس و«العرق» والإثنية. وقد يعني لبعض آخر إحياء النزعة الاقتصادوية. وقد يدفع ذلك آخرين إلى رفض كل المطالب «الأقلويّة» بالجملة والإصرار على الاندماج حسب القواعد التي تفرضها الأكثرية باسم العلمانية والكونية والمبادئ الجمهورية.

يمكننا أن نتفهّم ردود الأفعال تلك. ولكنها في خطل عظيم أيضا. ليست كل سياسات الاعتراف مضرّة، فبعضها يمثل ردود أفعال تحررية حقة على مظالم خطيرة لا يمكن معالجتها بواسطة إعادة التوزيع وحدها. ثم إن الثقافة ميدان شرعي، بل ضروري، للنضال، إنها ميدان مظالم بذاتها ولكنها تتداخل بالعمق مع اللامساواة الاقتصادية. إذا ما أدركنا نضالات الاعتراف بطريقة سليمة، يمكنها أن تساعد على إعادة توزيع السلطة والثروة وعلى تشجيع التفاعل والتعاون في ما يتجاوز نواقص الاختلاف.

كل شيء يتوقف على كيفية مقاربة الاعتراف. أريد المحاججة هنا بأننا في حاجة إلى طريقة لإعادة التفكير في سياسة الاعتراف بطريقة تسمح بحل مشكلات الانزياح والتشييء أو بالتخفيف منها على الأقل. هذا يعني البلورة النظرية للنضالات من أجل الاعتراف بحيث يمكن دمجها في النضالات من أجل إعادة التوزيع، بدلاً من إزاحتها وتخريبها. وهذا يعني أيضا تنمية رصيد للاعتراف يتسع لكل تعقيد الهويات المجتمعية، بدلا من رصيد يروّج للتشييء والنزعة الانفصالية. وإني أقترح في ما يلي طريقة في إعادة التفكير بالاعتراف.

النموذج الهويّاتي

تبدأ المقاربة المألوفة لسياسة الاعتراف- التي سأسميها «النموذج الهوياتي»- من الفكرة الهيغلية التي تقول بأن الهوية تُبنى بالحوار من خلال عملية اعتراف متبادل. يعيّن الاعتراف عند هيغل علاقة تبادل مثالية بين فاعلين، يرى كل واحد إلى الآخر على أنه مساوٍ له ومنفصل عنه في آن معا. وهذه العلاقة عنصر مكوّن للذاتية: يصير المرء ذاتا فردية فقط بفضل الاعتراف، وبفضل أن تعترف به ذات أخرى. من هنا إن اعتراف الآخرين جوهري لتنمية الإحساس بالأنويّة. أن تُحرَم من الاعتراف- أو أن «يساء الاعتراف بك»- يعني أن تعاني من تشويه في علاقتك بذاتك وأن تصاب بجرح في هويتك.

ينقل دعاة النموذج الهوياتي صيغة الاعتراف الهيغلية إلى الميدان الثقافي والسياسي. يزعمون أن الانتماء إلى جماعة تبخِس الثقافة المسيطرة من قيمتها يعني إساءة الاعتراف بها، ومعاناتها من تشوّه في علاقتها بذاتها. ونتيجة تكرار المجابهات مع النظرة التعييرية الصادرة عن الآخر المسيطِر ثقافيا، يستبطن أفراد الجماعة المعيّرة صورا ذاتية سلبية عن ذواتهم ويحرمون من تنمية هوية ثقافية صحية بجهودهم الذاتية. وفق هذا المنظار، تهدف سياسات الاعتراف إلى إصلاح هذا الانزياح الذاتي بأن تضع موضع تساؤل صورة الجماعة كما تظهر في عين الثقافة السائدة. وتقترح على أعضاء الجماعات مبخوسة القيمة أن ترفض تلك الصورة لصالح تصورات ذاتية جديدة من صنعها هي، فتنبذ الهويات المستبطنة والسلبية وتتكتل جماعيا لإنتاج ثقافة خاصة بها تفرض نفسها بنفسها لكسب الاحترام والتقدير من المجتمع ككل وقد تجهزت بتلك الثقافة. والحصيلة، عندما تكون ناجحة، هي «الاعتراف»، أي العلاقة غير المشوّهة بالذات.

ما من شك في أن نموذج الهوية هذا يحتوي على بعض النظرات النافذة إلى الآثار النفسانية للعنصرية والتمييز الجندري والاستعمار والإمبريالية الثقافية. غير أنه نموذج إشكالي نظريا وسياسيا، فهو إذ يساوي بين سياسات الاعتراف وسياسات الهوية، يشجع على تشييء الهويات الجماعية وعلى إزاحة إعادة التوزيع.

استبعاد إعادة التوزيع

لننظر أولاً في الطرائق التي تتجه بها سياسات الهوية إلى أن تحل محل النضالات من أجل إعادة التوزيع. بسبب التزامه الصمت المطبق إلى حد كبير على موضوع اللامساواة الاقتصادية، يعالج نموذج الهوية عدمَ الاعتراف على أنه أذى ثقافي قائم بذاته: يتجاهل العديد من دعاته الظلم في التوزيع ببساطة وبالجملة، ويركزون حصرا على الجهود المبذولة لتغيير الثقافة. فيما يدرك آخرون، في المقابل، جدّية سوء التوزيع ويرغبون بصدق في تصحيحه، ومع ذلك فالتياران ينتهيان باستبعاد مطالب إعادة التوزيع.

يتهم التيار الأول عدم الاعتراف بأنه مشكلة تبخيس ثقافي. فجذور الظلم موجودة في التصورات التحقيرية، لكن هذه لا يُنظر إليها على أنها ذات أرضية اجتماعية. فأصل المشكلة في نظر هذا التيار هو الخطابات الطائشة وليس الدلالات والقواعد الممأسسة. وإذ يجسد الطرفان الثقافة، يجردان عدم الاعتراف من أرضيته المؤسساتية وينشران الغموض على تقاطعه مع الظلم التوزيعي. فقد يتغافلون مثلا عن الروابط (الممأسسة في أسواق العمل) بين مقاييسَ ذكورية تبخّس من النشاطات المسماة «أنثوية» من جهة وبين الأجور المنخفضة للنساء العاملات من جهة أخرى. وهم يتغافلون بالمثل عن الروابط الممأسسة داخل أنظمة الرعاية الاجتماعية بين المقاييس التي تجرّم المِثلية من جهة وبين إنكار موارد وميزات المثليين والمثليات. وإذ يخلطون تلك الروابط، يجردون عدم الاعتراف من جذوره المجتمعية البنيوية ويساوون بينه وبين الهوية المشوّهة. وإذ تُختزل سياسات الاعتراف إلى سياسات هوية، تجري إزاحة سياسات إعادة التوزيع.

أما التيار الثاني من تيارات سياسات الهوية فلا يكتفي بمجرد تجاهل سوء التوزيع بهذه الطريقة. إنه يعترف بأن المظالم الثقافية غالبا ما تكون مرتبطة بالمظالم الاقتصادية، لكنه يسيء فهم طبيعة تلك الروابط. ونظرا لالتزام دعاة هذه النظرة الصارم بالنظرية «الثقافوية» للمجتمع المعاصر، يفترضون أن سوء التوزيع إن هو إلا أثر ثانوي من آثار عدم الاعتراف. يرون إلى الفوارق الاقتصادية على أنها مجرد تعبير عن تراتبات ثقافية، وهكذا يصير الاضطهاد الطبقي أثرا فوقيا لتبخيس قيمة الهوية الثقافية للبروليتاريا (أو لـ«الطبقية»، كما يقال في الولايات المتحدة). فينتج من هذه النظرة أنه يمكن معالجة كل سوء إعادة توزيع بطريقة غير مباشرة من خلال سياسة اعتراف: أي أن إعادة الاعتبار للهويات المحرومة ظلما تعني في الآن ذاته التصدي للموارد العميقة للامساواة، فلا حاجة بالتالي لسياسات إعادة توزيع معلنة.

بهذه الطريقة يكرّر دعاة سياسات الهوية الثقافويون ادعاءات شكل سابق من أشكال الاقتصادوية الماركسية المبتذلة، فيسمحون لسياسات الاعتراف بأن تزيح سياسات سوء التوزيع، مثلما سمحت الماركسية المبتذلة ذات مرة لسياسات إعادة التوزيع بأن تزيح سياسات الاعتراف. والواقع أن الثقافوية المبتذلة ليست أكثر ملاءمة لفهم المجتمع المعاصر ممّا كانته الاقتصادوية المبتذلة.

الأكيد، قد يكون للثقافوية معنى إذا كان المرء يعيش في مجتمع لا توجد فيه أسواق تتمتع باستقلال ذاتي نسبي، ولا تدار ترسيمات القيمة الثقافية وفق علاقات الاعتراف وحدها وإنما بناء على علاقات إعادة التوزيع أيضا. في ذاك المجتمع، تنصهر اللامساواة الاقتصادية مع التراتب الثقافي بلا أي نتوءات، فيترجم تبخيس الهوية ترجمة كاملة ومباشرة إلى الظلم الاقتصادي، ويقود عدم الاعتراف مباشرةً إلى سوء التوزيع الاجتماعي. ويمكن بالتالي معالجة شكلَي الظلم بضربة واحدة، فإذا نجحت سياسة الاعتراف في معالجة عدم الاعتراف تكون قد تصدت لسوء التوزيع في الآن ذاته. إن فكرة مجتمع «ثقافي» صاف لا علاقات اقتصادية فيه قد تكون فكرة ساحرة بالنسبة لأجيال من الانثروبولوجيين، لكنها بعيدة كل البعد عن الواقع الراهن، ذلك أن الاقتصاديات السوقية قد اخترقت كل المجتمعات، بهذه الدرجة أو تلك، الأمر الذي أدى على الأقل إلى فصل ولو كان جزئيا لآليّات التوزيع الاجتماعي عن أنساق القيمة والهَيبة الثقافيتين. والأسواق المستقلة نسبيا عن تلك الأنساق، تتبع منطقها الخاص، فلا هي مقيدة كليا بالثقافة ولا خاضعة لها؛ والحصيلة أنها تنتج مظالم اقتصادية ليست مجرد تعبيرات عن مراتب الهوية. في مثل تلك الظروف، الفكرة القائلة إنه يمكن للمرء أن يصحح كل أنواع سوء التوزيع من خلال سياسة اعتراف فكرةٌ واهمة كليا، لن تكون نتيجتها الصافية غير إزاحة النضالات من أجل العدالة الاقتصادية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فيلسوفة وناقدة ونسوية أميركية، معروفة بنقدها لسياسات الهوية وللحركات النسوية الليبرالية المتخلية عن العدالة الاجتماعية

مجلة “بدايات” الفصلية – العدد 32 – 2021

عرض مقالات: