الكتاب الذي صدر مؤخراً عن دار الرواد المزدهرة بعنوان (دور وتأثير الأجهزة الأمنية والمخابراتية على حركة الأنصار الشيوعيين في العراق) للكاتب فيصل الفؤادي، يشكل بحق حكاية منصفة وموضوعية عن فتية مسكونين بهاجس تحدي الخراب والصعاب وبعشق بلاد سُميت بالعراق، حكاية أنصار الحزب الشيوعي العراقي، وتجربتهم المتميزة أبان ثمانينات القرن الماضي، في مقارعة أعتى دكتاتورية فاشية عرفها العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

يبدأ الكتاب بإستعراض مسيرة الحزب قبيل قيام تحالفه مع سلطة البعث في عام 1973، وماحدث في السنوات الخمس من عمر ذلك التحالف، من تحولات جوهرية في طبيعة السلطة، وكيف إنتقل الحزب الى الكفاح المسلح لإسقاط نظام البعث الفاشي وكيف واجه حرب هذا النظام ضده وأساليب التخريب المتنوعة التي إستخدمت في تلك الحرب وما رصد لها من ثروات وخبرات وتكنولوجيا.

ولعل أبرز ما يتمتع به الكتاب، كحكاية ممتعة وخارقة في بساطتها، قدرته على التعريف بفتية بسطاء، جياع وشبه عراة، نحتوا في الصخر عالماً حراً متوهجاً، واجهوا به زحفاً تترياً وقنابل خردل ومجرمين مدججين بالسلاح وبتقنيات متطورة، إنتهكوا بها وبدم بارد كل الحرمات. 

كما يطرح الكتاب في ثناياه، سواءً عبر قراءة جلية للأحداث أوشهادات فاعلين بارزين فيها، حزمة من اسئلة، تثير شهية القارئ للبحث عن إجابات لها وفق قناعاته ورؤاه. فهو يطرح ذات التساؤل عن صحة التردد في إستلام السلطة عام 1959، وهل كان ممكناً أن يقبل الغرب نظاماً إشتراكياً في مركز الشرق الأوسط وفي أكثر البلدان ثروة نفطية، وهل كان بمقدور السوفيت أن يصونوا هكذا نظام بالقوة، أم إن قرار الحزب حينها قد جنّب العالم مثلاً أفغانياً مبكراً؟

كما نرى فيه دهشة وإمتعاض مشروع، من إتهام البعض للشيوعيين العراقيين بالتبعية لموسكو، وهم الذين رفضوا بإصرار، تعاويذ كهنة الكرملين الداعية لحل الإحزاب الشيوعية والذوبان في أحزاب "الديمقراطية الثورية"، وأجهضوا خط آب الذي تبناه بعض منهم، ممن أنصت بخشوع لأولئك الكهنة!

وعن أسباب فشله بإسقاط الحكومات الدكتاتورية الفاسدة، يجري التساؤل عما إذا كان ضعف العامل الذاتي جراء الهجمة الإرهابية التي شنت على الحزب عام 1963، وخسارته لقيادته ومعظم كادره، خاصة خطوطه العمالية والعسكرية، ومن ثم تفكك وحدته بإنشقاق عام 1967، سبباً وحيداً أم إن العوامل الموضوعية كغياب وحدة الحركة الوطنية العراقية وتذبذب القيادة الكردية في مواقفها مع الحزب و مع السلطة وغيرها، قد لعبت الدور الأرأس في هذا النكوص؟

ويتساءل الكتاب بشكل خفي عما إذا كانت أجيال اليوم قد درست، وبأناة الباحث عن الحقيقة وحكمة من يخشى تكرار المآسي، أحداث فترة 1964 – 1968، والتي كانت في تقديري أسوأ فترات تاريخ الحزب ضعفاً، من الناحية العددية، حيث الكثير من الكوادر في السجن وحيث إستشهد الآلاف، ومن الناحية الفكرية حيث لم يكن هناك وضوح في الرؤية عما يجب أن يُفعل، وفي الوحدة الحزبية حيث الصراعات بين الكوادر الشابة والمخضرمة وبين الجزعين والصبورين وحيث الوعي متدنِ والجزع متسارع والرومانسية الثورية طاغية ترنو لجيفارا سواءً قبيل إستشهاده أوبعد تلك المآثرة! ويتواصل التساؤل عن ما إذا كانت إفرازات تلك الأيام قد ساهمت في تآكل المعارضة الشديدة لقيام تحالف مع البعث الحاكم، وهل يحق لنا أن نحّمل فرداً، تراجع عن معارضته لأسباب غير خافية، مسؤولية كارثة حلت بالحزب، جراء ذلك التحالف؟ وهل كانت قراءة دروس التجارب وتقييمها مفيدة ومحكمة، أم تتطلب دوماً تنقيحاً وتطويراً، لاسيما إذا ما وضع المرء حكمة غرامشي أمام عينيه وهو يقرأ تلك الدروس (نحن لا نخشى حين يكون الهدف بعيداً .. لكننا نخشى أن يكون الهدف غامضاً)؟

وأخيراً، هل لعبت الأخطاء وأساليب العمل التقليدية وغياب الروح النقدية وضعف المبادرة وعدم إتقان سماع الأخر وتزمّت حراس المعبد ويقينهم بأن لا أحد غيرهم يمتلك الحقيقة، دوراً في نجاح خطط العدو التخريبية، وخسارة الحزب للعديد من رفاقه والكثير من معداته اللوجستية؟    

وهكذا جاء كتاب الفؤادي، إستعراضاً سياسياً وتاريخاً مهما، لا يفتخر به الشيوعيون وحدهم بل وخيرة أبناء شعبنا، الذين يجددون اليوم ثقتهم بقدرة الحزب الشيوعي العراقي على تجاوز المحن، وإعادة بناء الهوية العراقية الجامعة وإقامة مجتمع سياسي مستقر، خال من العنف والفوضى، مجتمع الحرية الحقيقية والعدالة الاجتماعية.

أمتعني كتاب الصديق الفؤادي وعرّفني بالكثير مما كان غائباً عني، فله تحية على هذا الجهد النبيل، ولقلمه مزيداً من التألق.

عرض مقالات: