قبل خمسين عاما تماما بدأ الجيولوجيون السوفيت بحفر بئر فائق العمق في شبه جزيرة كولسكي في أقصى شرق الاتحاد السوفيتي. وقد أدرج هذا المشروع العلمي الطموح في كتاب غينيس للأرقام القياسية "كأعمق اختراق قام به الانسان للقشرة ألأرضية" – 12262 مترا داخل الأرض. كان العلماء الجيولوجيون السوفيت يخططون للوصول الى حدود القشرة الأرضية وغلاف المانتل (Mantle) العميق.

   من اجل العلم

   في بداية الستينات بدا العمل في الاتحاد السوفيتي بوضع نظام لحفر الآبار فائقة العمق. وكان بئر شبه جزيرة كولسكي هو الثالث في هذا المشروع ، ولهذا سمي باسم رمزي(СГ-3). ولغاية عام 2000 تم تحديد مواقع حفر 14 بئرا من هذه الآبار، ولكن جرى حفر بئر واحد منها فقط وهو بئر كولسكي وليس لأغراض الاستكشاف او استخراج المعادن، انما من منطلقات علمية بحتة.

   وقد تحدث عن حفر هذا البئر وزير الجيولوجيا السوفيتي السابق، الدكتور في العلوم التقنية البروفسور يفغيني كوزلوفسكي الذي كان يشرف شخصيا على المشروع.

   "بدأ موضوع حفر بئر كولسكي فائق العمق بالظهور نتيجة مناقشات علمية جدية. وسبق اتخاذ القرار اجتماع كبير للعلماء وممثلي الأوساط الجيولوجية. وجرى الحديث عن حفر عدد من الآبار فائقة العمق في تلك التراكيب الجيولوجية في الاتحاد السوفيتي التي كانت بحاجة الى تدقيق بنيتها الداخلية العميقة. وأكدنا بضرورة البدء بهذا العمل".

   وتظهر في شبه جزيرة كولسكي على سطح الأرض صخور قديمة العهد للغاية يبلغ عمرها ثلاثة مليارات سنة تقريبا. أما أي الصخور تقع تحتها فكان من المهم معرفة ذلك. وافترض الجيولوجيون : ان البئر على عمق 10 – 15 كيلومترا سيخترق غلاف "المانتل" العميق. واعطى الجيوفيزيائيون نفس التنبؤات.

   مشروع معقد للغاية

   وخلال السنوات الأربع الأولى، والى عمق 7263 مترا، استخدمت معدات حفر "أورال ماش – 4 Э" التي كانت تستخدم لاستخراج النفط والغاز. بعد هذا العمق كان الحفر يتطلب لاستخدام معدات خاصة. ولم يكن آنذاك بدائل لهذه المعدات، حيث لم يتوصل أحد الى حفر مثل هذه الأعماق. بالاضافة الى أننا استلمنا اوامر من قيادة البلاد بضرورة عدم اللجوء الى المساعدة الأجنبية. وحاولنا عدم الافشاء بأسرار المشروع.

   ويقول كوزلوفسكي : "ان الحفر الى اعماق 10 -15 كيلومترا مسألة معقدة للغاية. وهنا يجب تثمين جهود العلماء من اكاديمية العلوم ومعاهدنا الجيولوجية الرئيسية فقد عملوا بعقلانية كبيرة. وقبل كل شيء وضعوا قائمة بالمسائل التي تستوجب الاجابة عنها. وسمح هذا بالتوصل الى فهم التصميم الهندسي للبئر.

   وبالنتيجة توصلنا بعد عام الى انتاج جهاز الحفر "أورال ماش – 15000" ، الذي اعد لحفر 15000 متر. ومن الناحية الفنية كان هذا الجهاز اكتشافا جديدا مطلقا – حيث كانت تدور برينة الحفر فقط بواسطة جهاز توربيني وليس انبوب الحفر بأكمله الممتد لآلاف الكيلومترات. وسميت هذه الطريقة بالحفر التوربيني. كانت كل العمليات تجري اوتوماتيكيا عدا عمليات انزال وسحب أنابيب الحفر.

   استوجب عملنا صنع انابيب حفر خاصة خفيفة عالية المتانة من سبيكة الألمنيوم. لأن الفولاذ الاعتيادي لا ينفع في الأعماق الكبيرة بسبب خطر انقطاع انبوب الحفر جراء وزنه الذاتي – كانت كتلته تتعدى 200 طن.

   وفي صيف عام 1984 انعقد في موسكو المؤتمر الجيولوجي الدولي برئاسة يفغيني كوزلوفسكي ، والذي اعلن من منصة المنتدى للعالم عن نجاحات بئر كولسكي : تمكنا من حفر 12066 مترا. اثار هذا الخبر ضجة. الاتحاد السوفيتي سبق الجميع. وجرى الكشف عن جميع الأعمال،  ونقلوا وفود المؤتمر الى شبه جزيرة كولسكي ، أما ابحاث أعماق الأرض فقد خصص لها قسم خاص في علم الجيولوجيا.

   علامة مميتة

   في أيلول/ سبتمبر عام 1984 استمر حفر البئر الذي كان قد توقف خلال انعقاد المؤتمر، وعند اول انزال لأنبوب الحفر انقطع الانبوب البالغ طوله خمسة كيلومترات وبقي في البئر. وبعد محاولات يائسة دامت سبعة اشهر لسحب الأنبوب التجأنا الى حفر بئر جديد ابتداء من عمق سبعة آلاف متر. وبحلول عام 1990 فقط تمكنا من جديد الوصول الى عمق 12 كيلومترا، آنذاك ضربنا رقما قياسيا جديدا بحفر 12262 مترا. بعد ذلك جرى حادث جديد، وفي عام 1992 توقف تمويل البئر ( بسبب احداث انهيار الاتحاد السوفيتي – المترجم) ثم ألغي المشروع.

   واصبح عمق سبعة آلاف متر مميتا لمشروع ( СГ-3 ) . بدأنا الحفر من جديد من هذا العمق أربع مرات لأن العلماء عند تخطيط حفر البئر كانوا يتصورون بنية القشرة الأرضية بشكل آخر تماما.

   البنية الداخلية للأرض لم تكن كما كان يتصورها العلماء

   كان الجيولوجيون والجيوفيزيائيون يعتقدون ان صخور الغرانيت الظاهرة على سطح الأرض ( متعرضة للتعرية ) في شبه جزيرة كولسكي ستتبعها على عمق 5 – 7 كيلومترات صخور البازلت الأكثر صلابة. ولكن تبين خطأ هذه الفكرة. فبدل الصخور الصلبة الصماء عثرنا على صخور متشققة غير صلدة كانت تتهشم بين طبقة واخرى مسببة ضغطا على انابيب الحفر.

   لم نعثر على صخور البازلت لا على عمق 7 كيلومترات ولا على 12 كيلومترا. لم يكن لها وجود تماما حتى في عينات الصخور داخل انبوب الحفر. أصبح واضحا ان حدود الطبقات المرسومة على اساس المعلومات السيسمولوجية لا تفصل الطبقات ذات التركيب الصخري المتباين ، انما الصخور ذات الخصائص الفيزيائية المختلفة.

   وبدل صخور البازلت تم العثور في الأعماق على نفس صخور الغرانيت والغنيس ولكن مخترقة بكميات كبيرة من الشقوق وذات صلابة ضعيفة ، وكانت هذه حالة غير متوقعة ابدا بالنسبة الى الأعماق البالغة عدة كيلومترات حيث يستثني الضغط الهائل على ما يبدو ظهور المسامات الصخرية المفتوحة. بالاضافة الى ذلك عثر العلماء على الماء في هذه الشقوق والمسامات. وهذا ليس هي المفاجئة الوحيدة.

   حرارة الأرض

   كما تبين ان درجة الحرارة في الأعماق كانت أكبر بكثير مما كان متوقعا. فقد كانت سرعة ارتفاع درجة الحرارة قرب سطح الأرض، او كما يقول العلماء، المعامل الجيوحراري ، يبلغ 11 درجة لكل كيلومتر، وعلى عمق كيلومترين – 14 درجة ، واعمق من ذلك – الى 24 درجة لكل كيلومتر ، رغم ان نماذج الخطط الموضوعة كانت تتوقع درجات اقل من الدرجات المذكورة بمرة ونصف. وعلى عمق 7 كيلومترات كانت الحرارة تبلغ في قاع البئر 120 درجة مئوية ، وعلى عمق 12 كيلومترا – 230 درجة مئوية.

   يقول كوزلوفسكي لم يكن بامكان الأجهزة ان تعمل بدقة في مثل هذه الظروف الباطنية – لهذا كنا بحاجة الى استخدام معدات تبريد خاصة كانت تنزل الى داخل الأنابيب لغرض تبريد المجال المحيط بالبئر.

   رئيسي ولكن ليس الوحيد

   بدأ في عام 1989 أول برنامج دولي لدراسة بنية الأرض بمساعدة "الجيوترافرسات" او "ترانسيكت" – المقاطع الجيوفيزيائية الاقليمية الممتدة بين الآبار العميقة وفوق العميقة. وكانت هذه المقاطع في الاتحاد السوفيتي تربط بين اكثر من 30 بئرا الواقعة على مسافة 3 – 5 آلاف كيلومتر الواحد عن الآخر. وكان أحد هذه الآبار – بئر كولسكي فائق العمق.

   وبين كوزلوفسكي : "ان حفر بئر كولسكي ، كما هو الحال بالنسبة الى حفر أي بئر آخر ، يعطي فكرة خاصة عن البنية الجيولوجية. وتكمن النتيجة الأساسية في اننا ربطنا الآبار فائقة العمق بشبكة من المقاطع الجيوفيزيائية وهذا سمح لنا ضمن مساحة واسعة للغاية وبشكل اوتوماتيكي بتسجيل الموجات السيسمولوجية سواء من الزلازل (من الترددات) الطبيعية او الاصطناعية ومن ثم تدقيق التركيب الجيولوجي للمنطقة المتقاطعة "بالجيوترافرسات" ، وبعد ذلك رسم المقطع الجيولوجي الحقيقي للمنطقة.

   كانت هذه طريقة جديدة من الناحية المبدئية لدراسة البنية الداخلية لعدد من المناطق والقائمة ( الطريقة) على اساس الاستخدام المشترك لمعطيات الحفر العميق والجس السيسمولوجي والأساليب الجيوفيزيائية والجيوكيميائية الأخرى. وخلال سنوات تمكن العلماء من تقييم آفاق اعماق الأرض بالنسبة الى جميع اراضي الاتحاد السوفيتي ، وحددوا وجود مناطق المعادن الواعدة وحقول النفط والغاز. وهذه أهم نتيجة تطبيقية للحفر في شبه جزيرة كولسكي.

   حياة ثانية

   كان من المتوقع ان يصبح بئر كولسكي بعد الانتهاء من المشروع مختبرا طبيعيا فريدا من نوعه لدراسة العمليات الباطنية الجارية في القشرة الأرضية. لكن انهيار الاتحاد السوفيتي قد شطب كل هذه الخطط.

   في عام 1995 توقفت جميع الدراسات العلمية بسبب انعدام التمويل ، وألغي مشروع حفر بئر كولسكي. وبشكل تدريجي تحول المجمع الانتاجي الى وضع خطير. وفي عام 2008 أقدموا على تدمير جميع المعدات المهمة في منطقة البئر.

   وعلى عتبة الذكرى اليوبيلية للمشروع في 20 آيار/ مايو هذا العام اعلنت نائبة محافظ اقليم مورمانسك أولغا كوزنيتسوفا ان سلطات الاقليم تناقش امكانية تحويل منطقة بئر كولسكي الى مركز سياحي. وللأسف يمكن الحديث في هذه الحالة عن المكان فقط حيث جرى كل شيء ولأنه لم يبق من البئر نفسه أي شيء. وحتى الأنابيب العتيقة وحفارات البئر اعطيت لمصانع صهر المعادن. (انها جريمة لا تغتفر ونتيجة من نتائج انهيار الاتحاد السوفيتي – المترجم).

  • "وكالة ريا نوفوستي"