سيف زهير

يتعرض المواطن خلال مراجعته بعض الدوائر لإنجاز معاملة ورقية ضرورية، إرهابا نفسيا واقتصاديا كبيرا. حيث يتوجب عليه لتمشية معاملته، التحلي بقدرة تحمل غير عادية، لمواجهة شراسة الاجراءات والروتين والاساليب التي تعتمد عليهما لفرض الرشى والفساد. وبذلك تكون المعاملة التي قد تستغرق ساعة واحدة أو أيام قليلة، رهينة لأسابيع وشهور ومصدر ابتزاز ومساومة للمواطنين.

المعاملات الورقية أداة للابتزاز

رغم الخطاب الحكومي المستمر، بشأن تقليل الاعتماد على المعاملات الورقية، والتوجه نحو الأتمتة، لمحاصرة الفساد، إلا أنه لم يتحقق أي شيء يذكر بخصوص المعاملات، باستثناء حالات توطين الرواتب وتفاصيل أخرى ليست بالكبيرة. وبقي الكلام حبرا على ورق للشروع في المشروع.

وبنظر الخبير الاقتصادي ماجد الصوري، فأن "الاعتماد على النظام الالكتروني لإنجاز المعاملات، أو اعتماد الأتمتة بشكل عام، أمر ينقسم إلى جانبين مهمين، أولهما تسهيل انجاز المعاملات الورقية، بشكل يضمن التواصل المباشر بين المواطن والموظف الحكومي دون أي وسيط آخر، وبالتالي تخفف الإجراءات الروتينية وما يترتب عليها، وتتاح للمواطن فرصة الحصول على معاملات منجزة عبر المراسلات الالكترونية، والمواعيد المحددة والواضحة. بينما يضمن الجانب الثاني، ضبط سير التدفق والإنفاق المالي الحكومي لموازنة البلد، عبر القنوات الالكترونية الرصينة، سواء على صعيد وزارة المالية، أو أي مؤسسة ودائرة حكومية أخرى، وبهذا يكون الخناق قد زاد على الفساد".

أن تأخير الاعتماد على النظام الالكتروني لإدارة مؤسسات البلد، ارتبط بتبريرات يعتقد الكثير من المراقبين إنها تتعلق بالفساد والإصرار على ابقاء البلد متخلفا لمصالح عديدة. والدليل أن فترة الجائحة الحالية، عندما فرضت نفسها على الحكومة، أجبرت الأخيرة أن تقظي الكثير من مهامها بشكل أو آخر، عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة.

يعاود الخبير الصوري، تأكيده على إهمال هذا الجانب الحيوي لمواجهة الفساد، عندما يذكر أن "إحدى الشركات الأجنبية قدمت عام 2004 على هامش اتفاقية مبرمة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، مشروعا لإنشاء النظام الإلكتروني، عبر أجهزة تقنية مختصة لإدارة الموازنة العامة للبلد بشكل سليم، إلا أن اعتراضً ابدته أطراف في الجهاز الإداري الحكومي، مدعية عدم قدرتها على تنفيذ هكذا مشروع، وبالتالي تمت عرقلته، ليشهد البلد فصولا مريعة من الفساد المالي والاداري".

لذلك يرى الخبير، أن "المشروع لو نفذ، فانه سيحقق نسبة عالية من النزاهة، لما يوفره من مزايا سهلة للحكومة والمواطن. وأما إصرار البعض على تأخير العمل فيه، يوضح أن مواقفهم تنطلق من ارتباطات اقتصادية وتجارية مع أطراف داخلية وخارجية مستفيدة من الوضع الحالي، علما أن الحكومة الحالية قادرة على تحقيق الأمر لو امتلكت الارادة الحقيقية، لأن تنفيذ هذا المشروع مرهون بالإرادة الصادقة قبل كل شيء".

مشروع تبسيط الإجراءات

أن زيادة الحلقات الإدارية بين المواطن والجهة الحكومية التي يريد انجاز معاملته فيها، تجعل تلبية الإجراءات المطلوبة أمر شبه مستحيل، لأن المواطن يشتت بين هذه الحلقات ويضيع بين شروط كثيرة ومزاجيات وعوامل لا حصر لها، ولطالما تمت اعادة مواطن قادم من منطقة بعيدة جدا، بسبب توقيع أو هامش مطلوب، أو جلب وثيقة أو تنفيذ إجراء هو غير مسؤول عنه ولم يبلغ بشأنه، لذا يلجا للخروج من هذه الدوامة إلى الطرق غير الشرعية مثل تقديم المال مقابل انجاز خدمة حكومية مجانية وواجبة.

واستنادا على هذه المعاناة التي تنال من كرامة المواطن وتشجع على الفساد، يلفت مصدر رفيع في رئاسة الوزراء، إلى أنه "خلال عام 2015 باشرت الحكومة آنذاك، في مشروع تبسيط إجراءات المعاملات في مؤسسات الدولة، لكنها توقفت مع انتهاء عمر حكومة العبادي، على الرغم من أن المشروع يلبي متطلبات اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، من خلال تبسيط الإجراءات الحكومية".

ويؤكد المصدر الذي لم يكشف عن أسمه، أن "الحاجة كانت ماسة لإيجاد البنى التحتية للقيام بمثل هكذا مشروع، وعلى هذا الأساس، بنت وزارة الداخلية قاعدة بيانات كبيرة للبطاقة الموحدة وتم توطين رواتب موظفي الدولة والقوات الأمنية والمتقاعدين، إلا أن الجانب الذي يتعلق بمراجعات المواطنين إلى الدوائر الحكومية، لم يتم العمل على تنفيذه ضمن هذا المشروع، رغم أن تحقيقه سيختصر الكثير من الحلقات عبر المراسلات المباشرة. علما أن للأمر تحديات أخرى مثل ضعف المعرفة وأعداد الأمية بين المواطنين والحاجة إلى بنى تحتية متطورة ومؤسسات مؤهلة".

القضية الأخرى التي يراها المصدر الحكومي مهمة، هي "قدرة المشروع الذي يقلل من التعامل الورقي، على إنقاذ المواطنين والمواطنات من الابتزاز المالي والجنسي والرشى، وضمان كرامتهم في بيئة سليمة".

تصريحات مخالفة للنوايا

ومن الصفات السيئة التي يشهدها النظام السياسي الحالي، هي الغزارة في تقديم الوعود، والسهولة في تغييبها أو التخلي عنها. ويرتبط ذلك بالبهرجة الإعلامية التي افتعلها الكثير من المسؤولين بشأن اعتماد الوسائل الالكترونية، دون أي منجز يذكر.

الأكاديمي مزهر الساعدي، يعلق على هذه القضية قائلا: "هنالك بعض المسؤولين في المؤسسات الحكومية يدعون علانية أنهم مع الأتمتة، ولكنهم يعملون خلافا لذلك لأسباب تتعلق بالفساد، لأن اعتماد الوسائل الحديثة في انجاز المعاملات سيوقف الأموال التي يتم نهبها من المواطنين"، مبينا أن "العرقلة للمشروع تأتي من أطراف داخلية تقف خلفها جهات كثيرة منتفعة، تتلاعب بالكثير من المعاملات القانونية وتعرقلها لهذا الغرض، كما يبقى الأمر في الفترات الماضية وصولا إلى الحكومة الحالية، متعلقا بتوفر الإرادة الحقيقية لتطبيق هكذا مشروع".

وعلى هذا الأساس ينوه الساعدي إلى أن "الحديث عن الأتمتة بقي كموضوع يُستغل إعلاميا دون أي تنفيذ للحد من بشاعة الفساد، علما أن الدولة بحد ذاتها بحاجة للنهوض بالمشروع لأنه يتعلق بقضايا مهمة مثل إجراء الاحصاء وضبط نسب الفقر والبطالة وإنجاز ملفات تتعلق بالجوانب الإنسانية للمواطنين".

عرض مقالات: