في الحادي والثلاثين من كانون الثاني إستأنف المقهى الثقافي العراقي في لندن نشاطه بعد توقفه الاعتيادي في شهر كانون الاول من كل عام حيث موسم الاعياد في بريطانيا .. فدشن موسم عام ٢٠٢٠ بأمسية استضاف فيها الفنان المسرحي العراقي والكاتب الروائي المقيم في بلجيكا حازم كمال الدين ليتحدث فيها عن تجربته في مسرح الحركة والجسد وعن آخر رواياته "مروج الجحيم "، أدار الأمسية الناقد عدنان حسين أحمد الذي إستهل الأمسية :" أمسيتنا هذا اليوم واسعة بسبب السيرة الذاتية للأستاذ حازم كمال الدين والأجناس الإبداعية التي يكتب فيها ويعمل فيها متعددة جدا ومع ذلك فقد إرتأينا ان تكون هذه الأمسية حوارية نتجاذب فيها أطراف الحديث مع ضيفنا في المسرح والرواية ..ممكن القول وبإيجاز ان نقول ان ضيفنا مخرج وممثل ومؤلف ومدرب مسرحي وسينوغراف ومترجم ". ثم استعرض مدير الأمسية بعض محطات من سيرة الضيف فعرفنا انه كان :
---مديرا سابقا لمؤسسة "زهرة الصبار" المسرحية ومدرسا لمادة الإرتجال الحركي في معهد مسرح الحركة ومادة التأليف المسرحي ( فيما بعد الدراما) ومحاضرا زائرا في جامعة "غرينتش" في انكلترا وفي خنت في بلجيكا وكان مشرفا للمعهد العالي للمسرح "داس آرت" في هولندا، وقال انه "بدأ منذ يفاعته بكتابة القصة القصيرة والشعر ثم كرس حياته للمسرح لأكثر من أربعين عاما ليصبح في خاتمة المطاف روائيا متميزا ومختلفا ، في الحقيقة ، عن الروائيين العراقيين والعرب في الداخل والخارج "
وتوقف الناقد عدنان حسين احمد عند محطات رئيسية في رحلة كمال الدين فقال :" لقد عمل منذ عام ١٩٧٥ ولحد الآن ممثلا ومخرجا ودراماتورغيا ومديرا فنيا في سبع فرق مسرحية عراقية وعربية وأجنبية نذكر منها فرقة المسرح الفني الحديث العراقية وفرقة نوح إبراهيم الفلسطينية وفرقة دي شفارته كوميدي ومحترف بوستايم ٩٣ وجماعة زهرة الصبار"، وذكر ايضا انه حاز على جائزة أفضل مؤلف مسرحي عام ٢٠١٤ عن الهيئة العربية للمسرح وعرضت أعماله المسرحية الـ ٤٩ في مختلف المهرجانات المسرحية الدولية خاصة في بلجيكا وهولندا وبريطانيا والمانيا وكندا وفي بغداد أيضا .. ألف حازم ٢٥ نصا مسرحيا نشر بعضها بصيغة كتب بين عامي ٢٠٠٠ و٢٠١٨ومن هذه الكتب التي صدرت مسرحية "العدادة" و "عند مرقد السيدة" و "السادرون في الجنون" ومسرحيات للممثل الواحد "المونودراما" ..كما وأنجز العديد من الأبحاث المسرحية التخصصية نشرت منها لحد الآن في ثلاثة كتب هي :(مسرح الصحراء ) و(بيت القصب) و(المسرح والهوية)، كما كتبت عنه ابحاث وأطاريح جامعية متعددة ، خمس منها لبلجيكيين وسادسة لعراقي هو محسن الدراجي ، وأقام العديد من الورشات المسرحية في التمثيل والدراماتورغ وتكوين الممثل والصوت والإلقاء ولغة الجسد.. اضافة الى انه ترجم العديد من الكتب ومنها كتاب للكاتب (يان فابر) والذي احتوى على ثلاثة عناوين هي ( قيصر الخسارة ) و( ملك الإنتحال) و(سادن الجمال) .
ثم بدأ الناقد عدنان حسين أحمد بالتحاور مع ضيفه الفنان كمال الدين فكان محور المسرح:
حازم : (معلقا) لقد تكلمت عن هذا الشخص كثيرا .. ترى هل ما يزال على قيد الحياة ( ضحك من القاعة)
عدنان : هل سبب قبولك في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد عام ١٩٧٤ ، ثم إنضمامك الى فرقة المسرح الفني الحديث، قطيعة كاملة مع الأسرة الدينية الكريمة التي تنتمي اليها ؟ مع انك ، بطبيعتك ، شخص متحرر، ومتنور، ويساري؟
حازم : قبل هذا في ١٩٧١ حاولت الدراسة في معهد الفنون الجميلة ، حالت عائلتي دون ذلك ، لكني بعد ثلاث سنوات أعدت الكرة وقدمت الى الاكاديمية ، فطردت من البيت ، لمدة سنة٬ وتوسطت والدتي بإعادتي اليه ، فأضطر والدي لإرجاع ابنه (العاق).. واضافة الى كوني فنانا٬ كنت آنذاك شيوعيا ، لكنني كنت أصر على ان لا أكون مكشوفا ، وحافظت على سرية إنتمائي الحزبي ، ومنذ سنتي الأولى انتميت الى فرقة المسرح الحديث رفقة مجموعة من زملائي في الأكاديمية .. وكنا قد شكلنا مجموعة ( المسرحيين الشباب).
عدنان : تولي في حياتك المهنية الأهمية الكبيرة للـ"بروفة" وقد أشرت مرارا انك تعلمت من ابراهيم جلال الرائد المسرحي الراحل اثناء التمرينات اكثر مما تعلمته اثناء الدرس؟
حازم: في الاكاديمية درسنا على ايدي اساتذة كانوا فنانين كبارا لكن في الحقيقة لم يكونوا في الوقت نفسه أساتذة كبار .. بمعنى إنهم لم يعلموننا الشيء الكثير .. كان شاغلهم الشاغل الابداع في فنهم .. لكنني في الأعمال المسرحية التي عملت فيها واثناء التدريبات ، كنت أتعلم الكثير، وكان هذا منذ البدايات فمثلا عملت مع ابراهيم جلال في مسرحية ( رحلة الصحون الطائرة) وكنت مساعدا لمدير المسرح .. وكان المخرج وقتذاك يصنع ممثلا وكان بعض الاساتذة انفسهم ممثلون فكانوا يصغون لبعضهم ، ويتعلمون من بعضهم البعض، كانوا يصغون لما يقوله الآخر ويحترم احدهم الآخر أيما احترام وتقدير تحدوهم جميعا غاية تجويد الأداء .. انهم كانوا كبارا كبشر .. وكان لكل منهم براعة في العمل فمثلا قاسم محمد كان يركزعلى الموضوع الجسدي وعلى الدراما تورغية وموضوعة سامي عبد الحميد على الصوت والحضور الكاريزمي .. كانوا لا يعرفون الصراع الشخصي انما على العكس يسود بينهم الانسجام والتعاون اللذان يصنعان الشخصية ويؤسسان للهارمونية في العمل .. تعلمت كل هذا وغيره اثناء "البروفة" وبشكل عملي أكثر مما تعلمته في غرفة الدرس. كانت "البروفة" هي معلمي الأول والحقيقي . منها تعلمت كيف أكتشف الممثل وأعزز ثقته، أرسخ في أعماقه بأنه هو الذي يصنع الشخصية التي يمثلها وليس انا كمخرج .ولهذا انا أولي للـ "بروفة " الأهمية القصوى وكل عمل يستغرق مني مئات الساعات لإنتاج عمل جماعي يشارك فيه الجميع .. المخرج عندي هو الخميرة بين الماء والطحين التي تنتج رغيف الخبز.
عدنان : لكي نصل الى منابعك المسرحية .. فقد قرأت في العراق بريخت وستانسلافسكي .. لكن قلت ان ترجمة طريقة كل منهما كانت مشوهة ولم تكن بالمستوى المطلوب.. وحينما انتقلت الى الخارج وقرأتهما بشكل أفضل٬ وزدت عليهما بقراءة غروتوفسكي وأرتو .. هل هذه هي المنابع الأولية التي شربت منها الكأس الأولى؟
حازم : نعم .. كما قلت ان مستوى التدريس في الأكاديمية كان ضعيفا ، بالنسبة لي على الأقل، وكما ذكرت إن جل ما تعلمته كان من ابراهيم جلال، هذا في فترة السبعينات، كان ماركسيا ، وكان بريختيا ، ومنه تعلمت كيف أبتعد عن الشخصية بمسافة وكيف أقترب منها ، وكيف تمزج ما بين هذه وتلك ، كان عبقريا في علاقته مع الممثل وفي حلوله الإخراجية وفي السينوغرافيا.. ولهذا تشربت بريخت في داخلي في وقت كانت الأكاديمية فيه قد اتخذت منهج ستانسلافسكي اسلوبا في التدريس ، وهذا كما أشرت كان ضعيفا، للأسف لم تتح لي الفرصة لأن ادرس على يد قاسم محمد الذي كان غزير المعلومات .
عدنان : حينما انتقلت الى بيروت وقدمت عملا مسرحيا لممدوح عدوان ، وفيه حاولت إسقاط التراث على الواقع ، واستمررت على هذا النهج لفترة من الزمن .. ما سر تعلقك بالتراث في حين ينبغي ان تكون ثقافتك مضادة له ، ومنفتحة على الآخر ، على الكائن الكوسموبوليتاريCosmopoitanism٬ الشخص اللامنتمي لوطن " ؟
حازم : العلاقة الأولى بالتراث، بدأتها حينما كنا في العراق ، كنا نتابع ما يعمله شخص إسمه الطيب الصديقي احد البارزين في المسرح العربي المعاصر ، كان يشتغل على موضوع التراث وعلى موضوع العرض وكان يعيد انتاج التراث بطريقة معاصرة .. وكان عندنا في العراق قاسم محمد أتخذ نفس الوجهة وصار يبحث في التراث ، وقدم اعمالا عديدة في هذا المضمار ، فكان تعاملنا نحن مع التراث بمثابة إضاءة نقدية له ، وليس الوقوع في أسره ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية نحن كنا بصراحة ، وهذه حقيقة يتلمسها ويتذكرها الجميع ، وهي ان المسرحيات التي يكتبها العرب اسقاطات على الواقع المعاصر ولكن بسبب الرقابة الصارمة للدكتاتوريات من جمال عبد الناصر الى البعث ...الخ٬ كان الناس يضطرون الى اعادة انتاج الثقافة لكي يسقطون على التراث المقولات المعاصرة .. في بيروت عندما اشتغلت على مسرحية "الرجل الذي لم يحارب " لعدوان وجدت نفسي في فضاء من حرية وانفتاح يتيحان لي ان أقرأ وأعمل ما أشاء ، عندها سألت نفسي لماذا علي التعامل بإسقاط التراث على الواقع فحولت المسرحية من تراثية الى معاصرة ، وكل المشاهد الذي كتبها ممدوح عدوان الى مشاهد واقعية تحدث في العصر الراهن .ومنذ ذاك تحول فهمي للتراث ورأيت اذا لم يجب التراث إجابة نقدية على الحاضر فلا داعي له . وجدت شيئا جديدا في التراث٬ شيئا أصيلا ..صرت كشيوعي وكعلماني وكماركسي أخاف ان انظر له كي لا أتهم ..لكنني حين وصلت الى لحظة (كاثارسيسCatharsis..التطهير) والتخلص من الاوهام بالعودة الى أمي التي لم تكن تعلمني الأفكار الشريرة لكن تلك كانت ثقافة مجتمعها .. هذا ما رسخ عندي البعد النقدي للمجتمع ذاته وهذا ما جعلني أنسجم مع نفسي مرة أخرى .
ثم انتقل مدير الأمسية الناقد عدنان حسين أحمد الى المحور الثاني وهو الرواية والسرد عند حازم وعلاقتهما بمسرحه:
عدنان : لكي نربط هذا الجانب بالجانب السردي .. فقد نشرت العديد من القصص القصيرة .. هل نستطيع ان نعد كتابتك لتلك القصص هي بداية ولعك السردي لاحقا؟
حازم : كنا في المسرح نتعامل مع الدراما والشعر والفلسفة واجناس ابداعية شتى ينطوي عليها المسرح أصلا ، وفي بداياتنا تعاملنا مع تيار الوعي والرواية الفرنسية الجديدة وكنا نبحث عن كتب فوكنر ونتأبطها زهوا .. كنا تحت هذه التأثيرات مجتمعة ..والمستوى السردي والطابع الحكائي في المسرح هو الذي دفعني الى كتابة القصة القصيرة إضافة الى التأثر بالتداعي وتيار الوعي وأدغار آلان بو ..الخ .. وفي لحظة ما يفرض عليك ان تختار فتركت الشعر وهذا الترك استمر الى عام ٢٠٠٢.
عدنان: كمؤلف مسرحي حينما تكتب النص المسرحي لأول مرة يتناسل الى مسرحيات أخرى متعددة، بدءا من " دمية المساء " وانتهاء مثلا بـ"ساعات الصفر"ما سبب هذا التوالد للقصص والحكاية المسرحية في اكثر من نص وقد يصل الى أربع أو خمس نصوص متأتية من نص واحد؟
حازم: نعم .. انا تعلمت بحياتي بسبب المسرح ان كل شيء هو "بروفة" وكنهها التصحيح المستمر لما سبق ..أنا بين قوسين كـ"مؤلف مسرحي" انا لا اكتب مسرح ..لكي لا اكذب عليكم ..انا حينما يكون عندي "ثيمة" أعمل على مادتها الخام: مثلا، اكتب نصا غير مكتمل .. وأذهب بهذه المادة الى "البروفة" وهناك فيها ممثلون نعمل سوية ومعنا دراماتورغ وسينوغراف ونواصل العمل بالأعادة والتغيير والتصحيح ونفكك ونركب ونمزق ورق الى ان يكتمل النص وهو بالواقع نتاج جماعي وتشكل تحت عنوان "دمية المساء " وعندما انتقل الى العمل مع مجموعة أخرى وأريد ان أعمل نفس النص السابق ففي ظل ظروف "البروفة " الجديدة ومع مجموعة جديدة أعيد الكرة معهم واتعامل مع النص السابق كمادة خام أخضعها الى التغيير وفعلا تتغير فتصبح نصا آخر لا يمت بصلة الى النص السابق الا بخيوط واهية والنتيجة الجماعية تحتم تغيير عنوان العمل ومثل هذا حدث حين عملت على نفس النص مع مجموعة اخرى ساهمت معي بتغيير النص لمرة ثالثة فالنص الذي بدأته بعنوان "دمية المساء" انتهى به المطاف مع المجموعة الثالثة الى عنوان "ذئاب البوادي ".. فالحياة هي "بروفة" مستمرة .
عدنان: حصلت مسرحيتك " السادرون في الجنون " على جائزة الهيئة العربية للمسرح ، ما هي "ثيمة" هذه المسرحية ؟ ولماذا حصلت على هذه الجائزة؟
حازم : نعم حصلت هذه المسرحية على جائزة الهيئة العربية كأفضل عمل مسرحي عربي لعامي ٢٠١٤ و٢٠١٥.. اما لماذ حظيت بهذا التقييم فحقيقة لا أعرف لأن لجنة التحكيم لم تعلن الأسباب التي دعتها لمنحها الجائزة، وانا لم أعرف اي من أعضاء هذه اللجنة ولم يطرحوا علي لماذا أعطوني الجائزة. اما موضوع المسرحية فهو عن مدينة معاصرة وعن أخلاق السلطة في تلك المدينة والتي لم تكن تنتمي الى الأقتصاد وحركة التاريخ وانما هي مشاكل بين خليفة وزوجته التي تخونه مع ابن عمه الذي يطمع بالخلافة .. تعالج المستوى المنحط في العلاقات البشرية والعشق .. فكرتها ان هذه العلاقات هي المطبخ الداخلي للسلطة المتكونة من شخوص يتصارعون فيما بينهم لا يتوانون عن فعل أي شيء في سبيل غاياتهم الدنيئة حتى بممارسة ما يسمى بزنى المحارم .. لم اتناول السلطة باعتبارها هذا الجبروت الكلاسيكي الذي تعودنا عليه ، انما اعتبرته كيانا هزيلا في داخله آليات تعمل مثل الدود يأكل بعضهم البعض الآخر٬ يخون بعضهم البعض دون وازع أخلاقي أوتأنيب ضمير .. وهؤلاء نفسهم الذين يحكمون الآن.
عدنان: في مسرح الجسد والحركة الذي انهمكت به، لفترة طويلة ، كمخرج ومدرب.. تتعب الممثل الى درجة الإعياء ..هل هذا الاسلوب تتبعه في نمط معين من المسرح ..ام في كل الأنماط؟
حازم : هذا النمط علمني عليه عمي الذي يدعى (غروتوفسكي) ..ان ما وراء هذه الفكرة مسألة في غاية البساطة ..فأنت حينما تصل الى مستوى من الإجهاد .. صديقي الطبيب في القاعة محمد جواد يعرف ذلك بحكم إختصاصه ..تصبح عندك عملية فصل ، اي تشعر بتحرر بالدماغ ، لأن هذا المستوى من الإجهاد يجعل الجسد في حالة مختلفة عن الحالة الفكرية التي كانها ، فيتحرر وتتولد عنده القدرة على انتاج مادة ليست حكائية وليست تشخيصية وانما مادة تجريدية ، مادة نابعة من الطاقة ، لكن في نفس الوقت يبقى دماغك يعمل ، لكن بمستوى ثان .
عدنان : سمعت بل قرأت معلومة ان الجسد ينطوي على مليون و ٢٠٠الف حركة يستطيع التعبير بها دون الحاجة الى اللغة المنطوقة ..هل هذا الكلام منطقي ومعقول من وجهة نظرك؟
حازم: لا أعرف ان هناك هذا المستوى من الحركة ..انا اعرف شيئا واحدا مهما بالنسبة لنا..أنا إختصاصي (مسرح الحركة) .. فالمعروف ان الأكثر تطورا في تاريخ انتاج البشرية هو اللغة.. فهي القادرة على التكثيف والإيجاز..وعلى ان تبعث على التأويل الى مستوى مهول ..كل حركة تريد أن تحكي حكاية هي حركة خطأ ..لأن اللغة قادرة على أن تحمل بشكل هائل ..متى تصبح الحركة ضرورية ؟ في اللحظة التي تصبح فيها اللغة غيرقادرة على تحميل المعنى ..في تلك اللحظة فقط تكون الحركة ضرورية٬ حينما تعجز الكلمة.
عدنان : ننتقل الآن الى الرواية لأن هناك مجموعة من الأسئلة لكي نربط بين الرواية والمسرح للفترة التي اشتغلت عليها بين الرواية والمسرح الطويلة جدا ..أصدرت حتى الآن خمس روايات والشيء اللافت للنظر في كل هذه الروايات ان هناك مفارقة في العنوان وأنت تعرف ان العنوان عتبة نصية يدخل من خلالها القارىء الى الفضاء الروائي ..لماذا إعتمدت على (Paradox "البرودكس" المفارقة او التناقض) : فعناوينك :"مروج جهنم" "مياه متصحرة" " جثمان حي " وهكذا .. فيها المفردات المتناقضة ٬ اذن لماذا تتقصد المفارقة في العنوان؟
حازم : سوف لا أتفلسف.....
عدنان: لا أرجوك ( ضحك في الصالة)
حازم: القصة بسيطة .. كنت أعمل مع دراماتورغ اسمها (إيلسا) ..فجأة قالت لي:" عندك شكل من أشكال (Duality ديوالتي٬-الثنائية)".. حينها لم أفهم ما معنى هذه الكلمة.. عرفت انها تعني الإزدواج.. فتساءلت من أين آتى لي هذا .. تفحصت نصوصي كثيرا فوجدت فيها ان الذكر هو مؤنث وفي نفس الوقت مذكر..الفكرة التراجيدية هي في نفس الآن فكرة كوميدية ..فبحثت عن مصدر هذا الشيء ومن أين آتى؟ من المحتمل ان اكون (Bisexualبي سكسوال٬ ثنائي الجنس) مثلا .. محتمل ان يكون عندي "شيزوفرينياSchizophrenia٬ إنفصام الشخصية" .. ما هي قصتي؟ هذا البحث قادني الى ان الهوية التي أنتمي اليها بدأت تتغير اثناء وجودي في أوربا ..وعند كل إنسان الهوية كائن متغير فإنها ليست كائنا ثابتا..هذا التغير بدأ في الحقيقة يخلق شخصيتين في داخلي :الشخصية الشرقية التي تعتمد الطقوس والتقاليد والشخصية الأخرى التي تحمل العقلية الغربية والتي تريد أن تتواصل مع العالم الجديد الذي تعيش فيه ..اذن هذا (Dualityالديوالتي) بدأ ايضا يعكس نفسه بشكل روائي أكثر داخل النصوص ، لكنه يبدو للوهلة الأولى ان هناك تناقضا في حين في حقيقة الأمر ليس هناك تناقضا .. فمثلا السبب في عنوان عملي الموسوم "الجثمان الحي" ذلك لأنه يتحدث عن كائن مستلب الى درجة انه في الحقيقة ميت الا إنه في نفس الوقت على قيد الحياة ..اذن هذه الإزدواجية التي عندي لم أأخذها بشكل ميكانيكي وكأنني قلت لنفسي بما انت شرقي وانت غربي فأعمل هذا اسود وذاك ابيض .. كلا لم أعمل هذا .. انما جاء تلقائيا من عمق النص "الجثمان الحي" مثلا و أيضا "مياه متصحرة" .. انا أرى ليس هناك تناقضا انما يوجد (Metaphorميتافور٬ تشبيه أو إستعارة) المستحيل وكأنه يستحيل لي ان أنسجم مع نفسي وفي نفس الوقت أنفصل عن نفسي ....(يتساءل ) هل تفلسفت؟!
صوت من القاعة : قليلا ( ضحك).
عدنان: طالما ان حديثنا يدور عن " مروج جهنم" .. من يقرأ هذه الرواية يجد فيها ان النسق الروائي فيها ينقسم الى عدة فصول.. كل فصل ممكن أن يقرأ كقصة قصيرة..أنا أرجع هذه القصص القصيرة المنفصلة ..لأنك كتبت القصة القصيرة وأعرف انك تقدر وقت القارىء المعاصر في هذا الزمن المتسارع جدا ..فلهذا تقنية الرواية غريبة من جهة إنه من الممكن أن يقرأ القارىء الفصل الأول أو يقرأ الفصل الأخير ..لا فرق يعني ..اويقرأ فصلا من المنتصف ..ففي هذه الرواية هناك ما يشبه الريبورتاج ما يشبه اليوميات ما يشبه السرد العادي او البوح العادي الذي يبوح به الإنسان لكن كل هذا جاء ضمن نسق روائي مختلف .. اذن هل فكرت وانت تكتب بموضوعة الإختلاف عما هو سائد ؟
حازم : كلا ..لم أفكر بموضوع الإختلاف فأنا لا أفكر في موضوع الإختلاف ولا في موضوع التميز او انني يجب ان اكون كذا أو كذا ..لا لقد فكرت في قضية بسيطة جدا هي اننا في عالم متغير وسريع ..وأنا شخصيا غير قادر على ان أقرأ رواية من ٦٠٠صفحة لأن وقتي لا يسمح لي بذلك وعندي "بروفات" فان اتاح لي وقتي ان اخصص ساعتين للقراءة عندها لا استطيع ان أنجز الرواية إلا في بحر فترة طويلة ..فتغير عصرنا يجبرنا ان نتعامل مع النصوص بطريقة مختلفة ..لكن انت في نفس الوقت لديك مادة روائية وتبقى محافظا على العلاقة الطازجة فيما بين النص وما بين المتلقي .. حضرتك الان اسميتها قصة قصيرة ..انا في "مروج جهنم" اشتغلت في البدء على تأسيس الفصول على اساس: احدهم قصة قصيرة وآخر كمنلوغ مسرحي وآخر باعتباره ريبورتاجا صحفيا وفصل آخر على أسس أخرى كل فصل بالأساس يختلف عن الفصول الباقية ..كان دافعي في ذلك ، اني كنت أريد، وما أزال ، أقول ان القارىء الذي يأتي بعد يوم عمل متعبا ، ويأتي ينشد الراحة او النوم ، فيقرأ ١٠ الى ١٢ صفحة فيتعب ويخلد الى النوم .. فقلت لنفسي لأكتب الفصول بهذا النسق .. تصورت بهذا الرواية وكأنها قطارا يسير بين محطات والقارىء مسافر ينزل في محطته .. حين يصل وجهته .. فلماذا يكون علي تعذيبه وأجباره على إكمال الرواية لذا كتبت فصلا متكاملا يستطيع ان ينسجم مع الفصول الأخرى فاذا تمت قراءته لوحده فهو نص قائم بذاته فهنا لا أعذب القارىء الذي سيقول انه لم يستطع اكمال قراءة الرواية لانها طويلة ويخشى ان يتهم بانه ليس مثقفا لأنه لم ينجز قراءة رواية ما لطولها .. لندع القارىء حرا يحدد ايقاعه الشخصي .
عدنان : عن (الميتاMetafiction٬ ماوراء السرد٬ ماوراء القصد) في هذه الرواية .. هل وضعت في ذهنك أدغار آلان بو في المخطوطة؟أم لا ؟ أم جاء ت من عندك؟
حازم :أن الجملة الأخيرة الموجودة في الرواية عن أدغار آلان بو هي في الحقيقة بمثابة نقد للتقنية الروائية العربية المعاصرة ..لن أذكر اسماء لكنكم تعرفون كيف تكتب الروايات٬ مثلا مؤلف مسرحي يجد دفترا فيه مخطوطة لذكريات معتقل فيكلف بدراسة هذا الدفتر ويعيد صياغة كتابته مرة أخرى ويعمل منه رواية ، آخر يترجم من اللغة الفلانية عملا محددا فيخون الترجمة ويصيرها مادة أخرى بإسمه هذه التقنيات هي نفس تقنية أدغار آلان بو عام ١٨٨٣ حينما كتب قصة ووضعها في قنينة جاء أحدهم لينتشل تلك القنينة من البحر وكتبها صارت قصة وصارت هذه التقنية عند اخواننا العرب يعيدون ويصقلون وينسجون على منوال هذه التقنية اليس هناك شيئا آخر في هذا العالم الضاج بالتغيرات في كل لحظة ويشهد تحولات هائلة ..لنبحث عن شيء جديد.
عدنان : لكن في نفس الوقت هناك إشارة تاريخية ..أنت استعملت ( الميتا Meta ٬ القصدية ) مثلا في عام ١٨٣٣ هذا الذي قصدته بـ"الميتافورMetaphor" ٬ أعني إنك وظفت التاريخ ، حتى هذا الرقم يحرض القارىء على معرفة ما الذي حدث في عام ١٨٣٣.
حازم : هذا عمل ازدواجي وتستطيع ان تأخذه بهذا السياق ..فالذي حدث في عام ١٨٣٣..انتم تعرفونه فأنتم تعيشون في بريطانيا .. إنه العام الذي أعلنت فيه بريطانيا الغاءها للعبودية .لكن كل الرواية تتحدث عن عبدة عاشت طيلة حياتها أسيرة تحت نير الجلاد.
عدنان: "مياه متصحرة " التي جئت على ذكرها قبل دقائق تتجلى فيها النرجسية الكاملة في شخصية حازم كمال الدين .
حازم : صحيح.
عدنان: يعني أنت نرجسي.. تحول حازم الى بطل في هذه الرواية فهو الشخصية الرئيسية فيها..في حين انت تؤكد في المسرح على ان الفنان المسرحي ، وأنت كممثل ، يجب ان يمثل دوره هو ولا ينجر الى أدوار الآخرين .. ما تسمي هذا الاسلوب ؟
حازم: انت اسميته نرجسية وهو في الحقيقة غير ذلك فانا تعلمت في المسرح ان الممثل ليس دمية بل انه انسان من لحم ودم وعندما يشتغل على المسرح يجب ان يشتغل على نفسه بحيث يكون هو نفسه بالنهاية فالشخصية المسرحية هي وسيط تحرض الممثل لتحليل شخصيته من الداخل فيعيد اداءه بطريقة بحيث يكون هو نفسه ..هذه الطريقة تعلمتها من (غروتوفسكي) وهذا عين الشيء الذي أعمله في الرواية فأنا أضع نفسي فيها ولا أريد أن أستغل آلام الآخرين وأصبح كاتبا كبيرا .. لا اريد ان اسبغ القصص والمآسي لفلان وفلان ثم اقول انا كتبت عن هذا ..كلا.. فانا أعيد كتابة نفسي.
عدنان: سؤال عن التقنيات التي تستعملها في كتابة الرواية ..انت تؤكد نفي إهتمامك بكل المدارس الأدبية والفنية..ولكن في موضع ما قلت انك (Minimalist) يعني انك تستعمل (Minimalism٬ التكثيف) في الرواية ام في المسرح أم في الإثنين معا أو بمعنى التقليلية .
حازم : بالمناسبة (الميناماليزمMinimalism ) ليست مدرسة انما هي فلسفة نادت بها مدرسة فرانكفورت .
عدنان : في الفن التشكيلي تم الاستفادة منها .
حازم : أخذه (غروتوفسكي) وعمل المسرح الفقير واخذوا بها في التشكيل ايضا وكذلك في السينما ..لكنها في الأصل فلسفة تعني بالتكثيف والتهذيب والتشذيب وحذف كل ما هو زائد والإبقاء فقط على ما كل ما هو ضروري لا يمكن الإستغناء عنه .
عدنان : صحيح وهذا يعني في التشكيل التقليلية ، الحد الأدنى والإبقاء على ما هو ضروري.. السؤال الأخير .
حازم : الحمد لله .
عدنان: استعملت (الديجافوDeja vu٬ وهم الرؤية السابقة) غير مرة في رواياتك ، وحتى نقرب الصورة .. الصور الوهمية والحقيقية التي تدهم الإنسان في وقت النوم ..فلم يعد يميز بين الحقيقة والوهم ..رواياتك فيها الكثير من هذا النمط ..الإشتغال على الجانب الحلمي و الكابوسي وربما الوحشي ايضا؟
حازم : انا منذ عام ٢٠٠٣ صرت اشتغل على موضوع يدعى "تخييل الواقع" .. كل ما نتناوله هو واقع لكنه خضع الى تخييل فانت حين تقرأه تجده يمت لك ..يلمسك.. تجربتك لكنه في نفس الوقت هو ليس هو ..هو هو وهو ليس هو...نعم .
وقبل ان تنتهى الأمسية وكما أعتاد المقهى الثقافي العراقي في لندن إيلاء الحوار مع الصالة فتح الناقد عدنان حسين أحمد الباب للحوار مع ضيف المقهى الفنان والروائي حازم كمال الدين فكانت المتحدثة الأولى الإعلامية والروائية سلوى جراح .
سلوى: تحدث الضيف عن "البروفة" المسرحية وأهميتها مهما استطالت مدتها فقد تستغرق ثلاثة شهور او اكثرولكن حين تأتي الى كتابة الرواية تقسم الرواية الى (منيماليزيشن) اي الى قطع كي يكتفي القارىء بجزء من هذه الرواية ويخرج بنتيجة٬ هذا الشيء لا ينطبق على "البروفة" ففيها انت كل مرة تعيد ما قلته ، تعيد ما فعلته وتحسن وتطور فيه ، كيف تجمع بينهما ، ارى في ذلك تناقضا؟
حازم : انا حين اكتب رواية مثلا يوميا اكتب صفحة على الورق لمدة اربع ساعات ، لا اتجاوز هذه الصفحة ابدا ..وأبدأ من اللا شيء .. هذا روتين العمل "البروفة" يعني اشتغلت ٦٠ يوما فأصبح عندي ٦٠ صفحة والتي اعتبرها "البروفات " الأولى بعد ستين يوما صار في حوزتي مادة طويلة ضخمة ..ماذا أعمل بها .فأبدأ اعيد العمل بـ"بروفة " ثانية ..تلك المادة الخام ..الإرتجالات .. أخضعها الى سياقات فأحذف هنا وأضيف هناك أنقل هذه الى هناك ..أشتغل على هذا المنوال لشهرين مثلا..الى أن تتراكم المادة وتصل الى وضوح ما في "ثيمتها" وشخوصها وقصتها ..الخ ثم تأتي "البروفة" الثالثة فأقرر مثلا لمعالجة قسم منها ينبغي ان تكون قصصية اعملها كذلك٬ قسم آخر يصلح لأن يكون منولوغا مسرحيا اشتغلها كمسرحية٬ هذه يجب ان تعالج كريبورتاج ..اي نوع من الريبورتاجات؟ استقصائي غيره ..الخ عندما انتهي من هذه المباديء اشرع بالـ"بروفة" الرابعة فارى في المادة تنطوي على اشياء لا رابط بينها فابحث عن نواظم تنسق هذه الاعمال مثلا توحيد اللغة العمل على ستراتيجية الشخصيات فيمسي العمل على شكل طبقات يكتشفها القارىء فيتلمس فيها القصة والريبورتاج والأشكال الأخرى جميعها "بروفات" اما النص الأخير الذي بين ايدينا هو "العرض".
شهدت الأمسية مداخلات وأسئلة أخرى من الحضور تمحورت حول مفردات جاء عليها حديث الضيف حاول في رده الإستزادة في الشرح والتفسيىر.. انها أمسية متميزة أخرى من آماسي المقهى ونحن بإنتظار مواصلة هذا النهج الذي دشن فيه موسمه الجديد لعام ٢٠٢٠.