في أواسط يناير / كانون الثاني الماضي نظمت كل من جمعية المنبر التقدمي وجمعية التجمع الديمقراطي الوحدوي البحرينيتين ندوة بمناسبة مئوية ميلاد الزعيم الوطني والقومي المصري جمال عبد الناصر ( وُلد في 15 يناير / كانون الثاني من عام 1918 ) ، وقد ألقيتُ في كل منهما على التوالي محاضرة تناولتُ فيها مسيرة عبد الناصر الاجتماعية والسياسية والعسكرية منذ ميلاده حتى ثورة يوليو / تموز 1952 ، مستعرضاً الدور الذي لعبه في تأسيس تنظيم الضباط الاحرار السري داخل الجيش وبمساعدة ضباط يساريين كان بعضهم من مؤسسي التنظيم كخالد محي الدين ، وهو الضابط الوحيد المتبقي على قيد الحياة ، ثم تناولت مسيرته السياسية منذ انتصار الثورة وتمكنه من حسم الصراع الذي تفجر في مجلس قيادة الثورة عام 1954 بين فريقين : الاول يدعو إلى عودة الضباط الأحرار الى ثكناتهم وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي محل النظام الملكي االفاسد والليبرالي صورياً ، وهو ما يتفق مع أحد المبادئ الستة التي رفعتها الثورة غداة اسقاطها النظام السابق ، والثاني يدعو إلى تأجيل هذه المهمة بذريعة الاخطار التي ما فتئت تواجهها الثورة من أعدائها في الداخل والخارج ، وكان عبد الناصر من أنصار وأقطاب هذا الفريق ، فيما كان الضابطان اليساريان خالد محي الدين ويوسف صديق من أشد أنصار الفريق الأول . كما استعرضت في ورقتي مسيرة عبد الناصر منذ صعود نجم زعامته الوطنية والقومية عام 1956 إثر فشل العدوان الثلاثي على مصر ، ومروراً بالوحدة المصرية - السورية 1958 ، ثم التحولات الاجتماعية التي أجراها عام 1961 والتي عُرفت بقرارات يوليو / تموز الاشتراكية ، وانتهاءً بهزيمة يونيو / حزيران 1967 التي قصمت ظهره وأدت إلى وفاته عام 1970 أي بعد ثلاث سنوات فقط من الهزيمة وهو ما أدى إلى انتكاسة المشروع القومي الذي يتبناه وبخاصة بعد أن خلفه في السلطة نائبه أنور السادات الذي أختط خطاً يمينياً متشدداً حيث أدار ظهره لكل مبادئ ثورة يوليو / تموز التحررية ، وأجهز بالكامل على كل مكتسباتها الاجتماعية ، وانفتح على الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة وأبدى عداءه الصريح للاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية أصدق حلفاء مصر والعرب الدوليين في مواجهة ألد أعدائهم إسرائيل والدول الرأسمالية الغربية الكبرى .
ومن المصادفات التاريخية أن تمر في الشهر الجاري الذكرى الستينية على الوحدة المصرية - السورية ( 22 شباط 1958 ) بالتزامن مع ذكرى مرور 55 عاماً على انقلاب 8 شباط الفاشي الدموي بقيادة الضباط البعثيين وحلفائهم القوميين على حكم زعيم ثورة 14 تموز 1958 العراقية عبد الكريم قاسم والذي راح ضحيته ، بالإضافة إلى الزعيم نفسه ، الآلاف من خيرة القوى الوطنية والديمقراطية العراقية من شيوعيين وقاسميين وشخصيات ورموز سياسية وثقافية وأكاديمية مستقلة عديدة . وإذ أستعرضت في ورقتي ما تعرض له الشيوعيون المصريون من حملة اعتقالات واسعة شملت المئات أو الآلاف من خيرة قياداتهم أيضاً وراح ضحيتها تحت التعذيب عدد منهم ، أبرزهم المناضل القيادي شهدي عطية وفريد حداد ، فلم يسعفني الوقت المخصص لالقاء المحاضرة لأن أعرّج على ما حصل لرفاقهم الشيوعيين في الاقليم الشمالي من دولة الوحدة (سورية ) من حملات تنكيل وتعذيب ، ولعل أبرز من راح ضحيتها القيادي اللبناني الفذ في الحزب الشيوعي السوري اللبناني فرج الله الحلو الذي اُستشهد تحت التعذيب الوحشي وجرى تذويب جثته بالتيزاب ( الاسيد ) لاخفاء معالم الجريمة ، هو الذي كتب في صحيفة النور : " أهلاً وسهلاً بجمال عبد الناصر " في أول زيارة له لسوريا بعد الوحدة . وحيث كان الشيوعيون المصريون قد أبدوا أيضاً في بادئ الأمر ترحيباً بقيامها ، لكن تحفظوا عليها عشية الحملة عليهم بعد ما لمسوه من ممارسات تنكيلية واستبدادية داخل مصر نفسها فضلاً عن سوريا بحق كل من يبدي اجتهاداً أو رأياً مُخالفاً للموقف الرسمي لدولة الوحدة وزعامتها .
ولم يكن ما جرى للشيوعيين العراقيين لاحقاً في شباط الأسود 1963 بعيداً عن تلك الاجواء المسعورة ضد الشيوعية في تلك المرحلة من أواخر الخمسنيات وأوائل الستينيات إبان الصعود العارم للتيارين الشيوعي والقومي ، فما دفعه الشيوعيون العراقيون من ثمن باهظ على مذبح الوحدة أعظم وأبشع مما دفعه رفاقهم المصريون والسوريون ، فقد كان التيار الأول في أوج قوته خلال حكم عبد الكريم قاسم ، رغم خلافات الشيوعيين العراقيين المريرة مع الزعيم قاسم في جملة من الامور السياسية الداخلية والخارجية ، لكن كان ما يجمع الطرفان ، قاسم والشيوعيون ، في سنوات الوحدة القصيرة ( 1958 - 1961 ) تحفظهما المشترك على الاسلوب المتسرع الذي جرى به إتمام الوحدة ، عدا عن عدم مراعاتها لخصائص القطرين المنضوين تحت لوائها ولا لخصائص القطر العراقي المزمع إلحاقه لاحقاً بها . ولم يكن البعثيون والقوميون راضين بطبيعة الحال عن هذا الحلف الظاهري الذي يجمع الطرفين ، ولذا بيّتوا العدة بعد فشل الوحدة المصرية - السورية للإنقلاب على قاسم واستئصال شأفة حلفائه الشيوعيين من تربة العراق في آن واحد ، حتى نضجت طبخة الانقلاب لتأتي اُكلها المغمس بالدم في صبيحة الرابع عشر من رمضان المبارك عام 1963، الذي لم يراع الانقلابيون فيه حرمة الشهر الفضيل رغم تشدقهم بالإسلام وتوظيفه للتشهير بالشيوعيين في دعاياتهم الحزبية أمام بسطاء الناس .
لقد كان الرابح الأكبر من تلك المجازر الرمضانية وما أعقبها من مذابح اخرى في الشهور التالية لرمضان هم أعداء القوى الوطنية والديمقراطية في العراق والعالم العربي بأسره وعلى رأسهم إسرائيل والامبريالية الاميركية وحلفائهما الغربيين والقوى المستفيدة منهما داخل كل الأقطار العربية . لا أحد ينكر بطبيعة الحال ثمة أخطاء وقعت فيها كل القوى الوطنية جمعاء بدرجات متفاوتة سواء في قطري الوحدة أم في العراق ، لكن إذ مارس اليسار في هذه الاقطار الثلاثة أشكالاً من المراجعة والنقد الذاتي أياً بكن حجمها ، فإن حزب البعث ظل إلى يومنا هذا مُحجماً عن أي نقد ذاتي مُعلن وصريح لما ارتكبه كحزب حاكم من جرائم وفظائع دموية تجاه من يُفترض بأنهم حلفائه من القوى الوطنية الاخرى سواء خلال حكم انقلابه الاول القصير الذي استمر بضعة شهور في عام 1963 أم خلال حكم انقلابه الثاني الأطول ( 1968- 2003 ) اللهم أصوات قليلة من قيادة الحزب لم تصح ضماؤرها إلا في خريف أعمار أصحابها بعدما فكت ارتباطه به .
واليوم ورغم مرور 60 عاماً على الوحدة المصرية - السورية و55 عاماً على انقلاب 8 شباط الفاشي الاسود مازالت ثمة أقلام بعثية ، وإن تُعد قليلة ومحدودة لا تستحي ، من نعت ذلك الانقلاب الدموي المشئوم ب " عروس الثورات " ، أي عروس هذه الذي مهرها وخضابها بدماء آلاف المناضلين والشرفاء من أبناء العراق ؟! ومن المهازل التاريخية أنه الوقت الذي كان يفترض فيه أن يتوحد فيه القطران العراقي والسوري اللذان يحكمها حزب البعث نفسه بجناحين متصارعين ، لتكون تجربتهما إنطلاقة لوحدة عربية جديدة لاُمة ذات رسالة خالدة ، فإن كلا الجناحين في دمشق وبغداد عرّضا بلديهما بحكمهما الدكتاتوري العضوض إلى التفتت ومخاطر التدخل الاجنبي وفشلا فشلا ذريعاً في صيانة وحدته القُطرية لتأتي "داعش " وتحاول عبثاً أن توحدهما على طريقتها الخاصة تحت راية ما تسميه " دولة الخلافة " السوداء . فلا غرو إذ ينسب لماركس قوله على نحو شبه حرفي : إن التاريخ يعيد نفسه مرتين : في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة ، وهو ما حدث ، ففي المرة الاولى تمثلت في انتهاء دولة الوحدة الى الفشل الذريع خلال ثلاث سنوات ثم في انقلاب 8 شباط الدموي ، وفي المرة الثانية جاءت المهزلة المأساة بتحقق وحدة القطرين على أيدي " الداعشيين " تحت راية دولة الخلافة الفاشلة !