الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي، خير من ذكر الإرادة في شعره حين قال
إذا الشعب يوما أراد ألحياه فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد ل الليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
ثم يستمر في قصيدته إلى أن يقول
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
في هذه القصيدة الرائعة، مزج الشاعر ما بين الإرادة والعنفوان وخلص إلى النتيجة الرائعة التي تولدها هذه الإرادة، وعلى الضد من ذلك يؤدي انعدام الإرادة إلى الهوان والخذلان ويتضح ذلك من قوله يعش أبد الدهر بين الحفر.
ويستمر الشابي في قصيدته مستخدما أحيانا كلمات تعطي نفس معنى كلمة الإرادة لتزيد من متانة وقوة الغرض فمثلا لنسمع هذا القول:
كذلك قالت لي الكائنات وحدثني روحها المستتر
إذا ما طمحت إلى غاية ركبت المنى ونسيت الحذر
والمنى هنا تعني المنايا أي الموت
وبالمثل تخبرنا القواميس والمعاجم العربية، عن المعنى العربي المقابل للكلمة الإرادة:
فقد ورد في معجم المعاني الجامع: أراد ألش: راده وطلبه وأحبه ورغب فيه
وفي معجم اللغة العربية المعاصر ورد " الإرادة تصميم واع على فعل معين "
وفي معجم الغني " الإرادة مشيئة، عزم، رغبة "
وفي قاموس معجم المعاجم الجامع للألفاظ " الإرادة تصميم واع على فعل معين "
وهكذا لو فتشنا كل معاجم اللغة سنجد كل المعاني للكلمة متشابهة.
فالكلمة وافية المعنى وأغراض استخدامها متعددة فهي في الفلسفة وفي علم النفس وفي علم الاجتماع وفي السياسة تتخذ أبعادا ودلالات وجماليات تفي بما مطلوب منها توضيحه.
ولما كان للفلسفة تاريخ يمتد عميقا في الزمن وتنوعاته وتفرعاته كان لكلمتنا هذه (الإرادة) دلالاتها واستعمالاتها عند كل تأريخ للفلسفة وعند كل فيلسوف بذاته. ولكن قبل الغوص في خضم أمواج بحر الزمن المتلاطم دعونا نستدعي معنى معاصرا لهذه الكلمة الساحرة:
" إنها هبة ممنوحة للإنسان يكتسبها بشكل طبيعي منذ ولادته، وتمنحه الحرية بالتفكير وبالقيام بالأفعال دون شروط أو قيود "
عند التوقف مليا أمام هذا التعريف الخلاق، نجد أن الإرادة هي صفة كامنة في طبيعة الإنسان، منها انطلقت كل التحولات التي جرت وتجري في الحياة البايولوجية والسيكولوجية والسيسيولوجية والاقتصادية والمعرفية والسياسية .... ألخ للإنسان خلال مجرى حياته، إنها الضرورة التي أدركها ويدركها البشر، إنها حريته التي مهدت له سبيل الانعتاق والانفلات من جبروت الطبيعة، التي لم تعد تعبث في حياته بشكل مطلق ولم تعد تقوده كما تريد، حيث، صارت لديه القوة الدافعة التي أيقظته من سباته ومنحته القدرة على مواصلة السير والتحدي.
القوة الدافعة هذه كانت " إرادته ألحرة" التي تغلب بها على سطوة الظروف، والتي قادت إلى التحولات الكبرى، كما يشير فردريك أنجلز في كتابه الشهير (أصل العائلة والملكية ألفردية)،
حيث تمكن الكائن المنحدر من الجماعات التي تركت العيش على الأشجار والمشي على قوائمه السفلى، تمكن من استخدام إبهام يديه ومن مسك الأشياء واستعمال يديه، فكانت القفزة ألكبرى في تطور البشر.
وكما قال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه" ما لا يقتلني يجعلني أقوى " في هذا القول تم الإعلان عن سلطة الإرادة على الظروف.
من هذه النقطة بالذات ننطلق إلى فضاء رحب في موضوعنا الفلسفي الهام وهو الإرادة والحرية:
حرية الإرادة " إرادة حرة "
التعريف ألمعاصر للإرادة ألحرة: هي القدرة ألفريدة للناس على ممارسة التحكم بالمعنى ألأقوى في أفعالهم اللازمة للمسؤولية ألأخلاقية.
هذا التعريف يوضح إن الإنسان حر الإرادة هو الذي يتخذ قراره المناسب من بين مجموعة من الاختيارات لحل مسألة معينة، بحرية تامة وهذا القرار ألمتخذ يرتبط بقوة مع مفاهيم وقيم المسؤولية والمدح والجرم والذنب والأحكام الأخرى التي تنطبق فقط على الأفعال ألمختارة بحرية.
من هنا يكون تقييم الأفعال الناتجة عن الإرادة الحرة خاضع لعوامل عدة منها الغاية والوسيلة التي جرى فيها هذا العمل، التاريخ العالمي والتاريخ المعاصر مليء بالأمثلة الحية، ويبقى السؤال في هذا الموضوع قائما وهو " هل نحن نتحكم حقا بأفعالنا؟”، وهل تواجهنا مشكلة الإرادة ألحرة؟
في معرض ألتطرق إلى مشكلة الإرادة الحرة، وهي بالمناسبة ألمشكلة المتعلقة بكوننا متحكمين أم لا في طريقة تصرفنا، هذا ألتحكم نفسه هو الذي يطلق عليه ألفلاسفة " مشكلة الإرادة ألحرة ".
وذهب أحدهم وهو توماس بينك في كتابه مقدمة قصيرة جدا الإرادة ألحرة الذي ترجمه ياسر حسن وراجعه ضياء وراد ونشرته مؤسسة هنداوي إلى تفكيك المصطلح " الإرادة ألحرة " إلى مكونيه الحرية، والإرادة فيقول:
(لدينا استخدامان لمصطلح الحرية، أحدهما للإشارة إلى ألتحرر السياسي، والآخر للإشارة إلى تحكمنا في أفعالنا، وهما استخدامان مختلفان اختلافا مهما، فالتمتع بالحرية السياسية أمر والتحكم بطريقة التصرف أمر آخر) ..........1
وعلى كل حال هناك تشابه بين بين ألتحكم في الأفعال وبين ألتحرر السياسي لأن ألتمتع بدرجة من ألتحكم في حياتنا يمنحنا قدرا محدودا من الاستقلال داخل نطاق الطبيعة
وعن الإرادة فيقول:
(استخدم ألفلاسفة هذا المصطلح بطرق متعددة ولكن أحد الاستخدامات ألمهمة، كان في التعبير عن قدرة نفسية أساسية يمتلكها كل البشر الطبيعيين ألبالغين وهي القدرة على اتخاذ القرارات.)
ويعد اتخاذ القرارات الجوهر ألدال على قدرتنا في ألتحكم في أفعالنا والسيطرة عليها، ومنه يمكننا القول عن الفعل الواقع إنه فعلي وإنه قراري.
هناك ما يجعلنا نقف متأملين في هذا الإشكال ألفلسفي ألتاريخي في كيفية العلاقة بين حرية الفعل وحرية الإرادة حيث يمكن للإنسان القيام بأشياء بحرية أو الامتناع عن القيام بها.
إن ألتمني بتنفيذ حاجات أو مشاعر، ليست أفعالا، وإن التفكير فيها في حد ذاتها مجرد حالات تستولي علينا أو نجد أنفسنا فيها ولذا فإن المشاعر ليست أفعالا "
لذلك فإن حريتنا تظل في النهاية حرية الفعل، وغالبا ما تمارس الحرية من خلال الفعل فحسب وهذه الصلة بين الحرية والفعل مهمة للغاية.
نحتاج لكي نفهم ما تنطوي عليه الحرية سوف نحتاج أيضا إلى فهم طبيعة ألتصرف ألإنساني الذي هو الوسط الذي نستطيع ممارسة حريتنا من خلاله.
وهنا ينطبق قول أنجلز” الحرية هي فهم الضرورة " هذا الأمر يقودنا إلى مسألة غاية في الأهمية تتعلق بجوهر موضوع الحرية وبالذات مسألة الإرادة الحرة وهي:
حرية الإرادة والحتمية في الفلسفة
في كل بحث من البحوث ألعلمية، وفي الفلسفة بشكل خاص، أعتدنا نحن ألبش على المساجلات بين ألفلاسفة، وكذلك نواجه في موضوعنا ألأثير اليوم، حيث أعلنا ومن خلال ألأسطر ألسابقة وعلى لسان عدد من ألفلاسفة على إن البشر يتمتعون بالحرية في تصرفاتهم وفي اختياراتهم. وهنا يأتينا فلاسفة آخرون ليقولوا إننا محكومون بحتمية الكون وفق خطة تشترك فيها جميع العناصر بما فيها نحن البشر. فما هي ألحتمية؟
ألحتمية (Determinism)
هي فرضية فلسفية تقول إن كل ما حدث ويحدث في الكون بما في ذلك إدراك الإنسان وتصرفاته خاضع لتسلسل منطقي سببي
محدد سلفا ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث يؤدي بعضها إلى بعض وفق قوانين محددة.........2
هؤلاء ألفلاسفة وهم (الحتميون)، وفيهم كل من ألفيلسوف (ديفيد هيوم) والفيلسوف (توماس هوبز) ......3
يرى هذان الفيلسوفان إن الحرية تعني عدم وجود عوائق خارجية تمنع ألفرد من القيام بما يريد أي إن الحرية تعني عدم إجبار الشخص على القيام بما لا يريد فامتلاك الحرية يؤدي إلى حريتنا في اختيار الأفعال التي نقوم بها أو لا نقوم بها .........4
النتيجة التي تقودنا إليها ألحتمية هي إننا غير قادرين على امتلاك الحرية التي نظن إننا نمتلكها.
إن ذلك ناتج عن اجتماع عوامل الماضي التي تراكمت كأسباب كامنة وبتفاعلها مع قوانين الطبيعة. وهما يؤكدان ما ذهبت إليه نتائج الأبحاث: أي أن هيوم وهوبز يربطان حرية الإرادة بحرية الأفعال.
ألتوافقية بين حرية الإرادة والحتمية
( copatilism)
في هذه الحالة ألتوافقية تعني إننا يمكن لنا أن تجاوز ألحتمية عن طريق اختيار الأمر ألمحتوم دون أن تجبرنا محتوميته على اختياره.
ويبرز لدينا هنا إشكال جديد يضعه التوافقيون بين حرية الإرادة والحتمية
( Incompatibilism) إذ يرون إنه حتى وإن تم هذا الاختيار وفق الأسس ألتي ذكرت إلا إنه يبقى أمر محتوم.
المسؤولية ألأخلاقية بين حرية الإرادة والحتمية
( Meral Responsibility)
1: الشخص ألذي يمتلك قدرة معينة هو شخص مسؤول من الناحية ألأخلاقية
2:عندما تكون ألحتمية أمرا واقعا ذلك يعني افتقارنا إلى ألحرية وذلك يعني أيضا عدم مسؤوليتنا ألأخلاقية.
3: ألأمور والحوادث ألتي تحدث خارج إرادتنا هي ناتجة عن عوامل الماضي بالتفاعل مع قوانين الطبيعة ( كالعوامل ألعشوائية) ليس لنا عليها مسؤولية أخلاقية.
4: إذا كان لنا القدرة على القيام بعمل بين عدة اختيارات نتحمل مسؤوليته ألأخلاقية لوجود عدة بدائل.
5:نحن فقط مسؤولون أخلاقيا عن أعمالنا لا عن مشاعنا ورغباتنا.
الإرادة وعلاقتها بعلم النفس
الإرادة هي محاولة هادفة، وواحدة من الوظائف ألنفسية ألبشرية الأساسية التي تشمل ألعاطفة (الشعور أو ألحس) والدافع (الأهداف والتوقعات) والأدراك والتفكير.
قوة الإرادة وضبط النفس:
وفقا للجمعية ألأمريكية لعلم النفس: هي قدرة الشخص على مقاومة الإغراءات لتحقيق أهداف طويلة ألأمد.
وهي قدرة الشخص على تجنب الأفكار والمشاعر والانفعالات غير ألمرغوب فيها.
هي قدرة الشخص على ضبط نفسه بنفسه
الإرادة: هي تأجيل ما تريد في ألوقت ألحالي من أجل تحقيق هدف طويل الأجل.
وفي علم النفس نجد البحث التالي عن الإرادة ألحرة:
إن ألنظريات ألنفسية ألحديثة ...5، تدعم إن الإنسان يمتلك إرادة حرة محدودة تتأثر بالعوامل ألبيئية والبيولوجية ولكنها لا تلغي نظرية " التقييم ألمعرفي "...6
مثلا تظهر إن البشر قادرون على تغيير استجاباتهم للمحفزات بناء على التحليل ألواعي للأحداث.
الإرادة في الأساطير ألقديمة
حوت الأساطير والحكايات ألقديمة أمثلة حية عن الإرادة، مثلا نجد في ملحمة جلجامش، الإرادة ألفولاذية للبطل جلجامش للحصول على د الخلود بعد موت صديقه أنكيدو، وتجشمه المصاعب والأهوال من أجل ذلك، وفي نفس الملحمة نجد إصرار وإرادة أتونابشتم لإنقاذ قومه والكائنات ألحية من الطوفان، وعناء بناء سفينة الإنقاذ رغم سخرية واستهزاء الناس به. وكذا الحال في معظم الأساطير، فأم سرجون ألأكدي تعمل ألمستحيل لإنقاذ ولدها، والإله مردوخ يقاتل تعامة وجيشها ألعرمرم في أسطورة ألتكوين البابلية (ألإنوماإليش) وفي حكايات السندباد ألبحري نجد عزمه الذي لا يلين. وإرادته ألفولاذية في خوض غمار رحلاته رغم الأهوال التي ميزت هذه الرحلات.
الخاتمة:
في كل زاوية من زوايا ألحياه وفي كل مستوى من مستوياتها نجد إن للإرادة تأثير كبير في صنع الأحداث والتغيرات ألكبيرة في كيان الإنسان وبيئته، وفي إحداث هذا ألتطور ألهائل وهذا ألكم ألكبير من الإنجازات وما زالت الإرادة متواصلة لسبر أغوار ألمجهول في ألحياه في كل تشعباتها.
المصادر:
تم اعتماد مجموعة من ألمصادر لإغناء ألموضوع فكانت هناك ألمصادر الإلكترونية، التي بحثت في ألموضوع وأسعفتنا في التعاريف وفي ألمعنى أللغوي للإرادة، كما أستعنت بمجموعة من الكتب الإلكترونية التي عرفت بعدد من ألفلاسفة الذين أثروا المكتبة في بحوثهم عن ألموضوع ابتداء من الفلسفة أليونانية مرورا بفلاسفة العصور أللاحقة فكان كل من سبينوزا وهيوم وكانط ونيتشة وهيجل وأنجلز وماركس
وغيرهم حاضرين .كما أستعنت بكتاب توماس بينك المعنون " الإرادة ألحرة مقدمة قصيرة " وبكتاب " الإرادة ألحرة " لمؤلفيه مايكل ماكينا وديريكبيريبوم.
الهوامش 1،2 3 4 و5
تشمل ما ورد في هذه ألمصادر وما شمل من تعاريف في دائرة المعارف ومعلومات عن الفيلسوف هيوم والفيلسوف هوبز
الهامش رقم 6 يعتبر مهم جدا فهو يفسر ما تم الحديث عنه عن صلة الإرادة بعلم النفس:
6: نظرية التقييم ألمعرفي: (Cognitive Evaluation Theory) وتختصر (CET): هي نظرية في علم النفس لشرح تأثير العواقب ألخارجية على الدوافع ألداخلية. وهي نظرية فرعية” لنظرية التحديد ألذاتي "
إذن نظرية التقييم ألمعرفي تركز على الجدارة والاستقلال ألذاتي في كيفية تأثر ألدافع ألداخلي بالقوى ألخارجية في ألعملية ألمعروفة باسم "ألمزاحمة" ألتحفيزية
نظرية التحديد ألذاتي:
هي نظرية تشرح الدافعية والاتجاهات ألشخصية، ولا تهتم بالمحفزات ألخارجية (كالجائزة، والمكافئات)
ألمزاحمة ألتحفيزية: تعدد الهبات والأفعال ألتحفيزية
الجدارة ألمدركة: أن يكون الشخص جديرا بالثقة
5،6: ديسي وأريان 1985
هما العالمان النفسيان أدوارد ديسي، وريتشارد أريان
طورا نظرية تقرير المصير، وهما أول من طرح أفكارها عام 1985 ضمن كتابهما ألمشترك " تقرير المصير والدافع ألجوهري في السلوك ألبشري "
إذ يريان
1: السيطرة والتفوق على التحديات وخوض تجارب جديدة تعتبر أمورا أساسية في تطوير إحساس متماسك ومترابط بالذات.
2: ألدافع ألمستقل أمر مهم حيث تركز ألنظرية على ألمصادر ألداخلية للحافز، كالحاجة للحصول على ألمعرفة والاستقلالية.