النص الأول
إطلعت على كتاب وجدت محتواه جديراً بالنقاش لما يتضمنه من افكار تحاكي الاوضاع التي تمر بها كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم، إن لم نقل جميعها.
الكتاب بعنوانه الأصلي باللغة الإنكليزيه:
The End of Faith
Religion, terrorisim, and the future of reason,
Sam Harris
مترجم الى العربية برعاية مؤسسة افكار بلا حدود بعنوان:
نهاية الإيمان ، الدين، والإرهاب، ومستقبل العقل
ترجمة: أسماء إبراهيم محمد تحرير: أحمد عبد المجيد
الطبعة الأولى: 2021
صادر عن دار سطور للنشر والتوزيع، بغداد، شارع المتنبي
ساحاول التطرق الى هذه النصوص كما وردت في الكتاب حرفياً، بغية مناقشة ما يمكن مناقشته والذي قد يلامس بعض ما تعانية مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم، وخاصة ما يعانيه مجتمعنا العراقي من التجارة بالدين وما ينتج عن هذه التجارة من ارهاب ومن تغييب للعقل وتعميق للجهل الذي يشكل الركيزة الأساسية لكل ما تواجهه شعوبنا اليوم من تخلف وتراجع مميت عن المساهمة في الحضارة الإنسانية.
النص الأول على الصفحات 8 و 9 من الكتاب:
"" إن وضعنا يتمثل بالتالي: أغلب الناس في هذا العالم يؤمنون بان خالق الكون قد كتب كتاباً. ولقد ابتلينا بوجود الكثير من هذه الكتب في متناول ايدينا، والتي يدعي كل منها العِصمة حصرياً. ويميل الناس لتنظيم انفسهم ضمن طوائف تبعاً لما يعتنقونه من هذه الإدعاءات المتنافرة، وليس تبعاً لقواسم اللغة ولون البشرة ومكان الولادة او المعايير القبلية الأخرى. ثم ان كل نص من هذه النصوص يحثُ اتباعه على تبني طيف من العقائد والممارسات، بعضها غير خطرة، لكن الكثير منها ليست كذلك. تنضوي جميعها ضمن إتفاق فاسد ينص على نقطة ذات اهمية جوهرية ألا وهي ان "احترام" الأديان الأخرى او آراء غير المؤمنين ليس بالسلوك الذي يقره الله. ورغم ان روح المسكونية* قد لامست كل الأديان في كل مكان، إلا ان العقيدة الأساس لكل تقليد ديني هي ان كل تلك الأديان الأخرى حاملة للآثام أو انها ـ على احسن تقديرـ ناقصة على نحو ينذر بالخطر. ولذا يُعد التعصب متأصلاً في كل عقيدة. فحالما يؤمن الفرد ايماناً خالصاً بان هناك افكاراً تقود الى السعادة الابدية او الى نقيضها، لا يعود متسامحاً تجاه احتمالية ان يظلَّ احباؤه عن الصواب من خلال تعرضهم لإغراءات غير المؤمنين. إن اليقين بوجود الحياة الأخرى يتعارض بكل بساطة مع التسامح في هذه الحياة.""
هناك محطات كثيرة يجدر بنا التوقف عندها في هذا النص الثري بالتمعن الفكري تجاه الأديان ومعتنقي تعاليمها على اختلاف درجاتها في الوضوح والغموض.
المحطة الأولى هي مسألة الكتاب السماوي الصادر عن الخالق في السماء والتي تعددت بشكل يوحي الى السؤال عن المؤلف الحقيقي لكل منها بالنظر لما اختلفت فيه هذه الكتب من اطروحات تعالج نفس الموضوع، مما يثير السؤال المحق: اية اطروحة من هذه الأطروحات المتنافرة نتبع وايتها نترك وبالتالي اي مؤلف نتبع وايهم نترك؟ ولنا في الأمثلة الكثيرة التي تتناول موقف الإنسان من الخطيئة في هذه الكتب، بل وفي نفس الكتاب احياناً، وهل هي ذاتية او مكتسبة؟ وإذا كانت مكتسبة، فمن ماذا او ممن؟ وهناك امثلة اخرى غير قليلة يتصدرها اسم مؤلف الكتاب الذي اختلف تبعاً لإختلاف اللغات، إلا ان الكتب المختلفة لم تبين لتابعيها فيما اذا كان محتوى هذا الإسم بهذه اللغة هو نفس ذلك المحتوى بتلك اللغة او يختلف عنها؟
المحطة الثانية المتعلقة بمسألة الإنتماء، اي ما نسميه اليوم بالهوية وكل اشكالاتها التي تحدد الإنتماء الذي جعلته الأديان للطوائف الناجمة عنها ولكل ما يتفرع عنها من فرق ونِحَل تحدد للتابع مجال حركته في مجتمعه ونوعية علاقته بالمجتمعات الأخرى. وعلى هذا الأساس فإن ما نطلق عليه اليوم بالهوية الإنسانية من خلال الإنتماء الى الجنس البشري والتعامل مع الأخرين والحياة بينهم على هذا الاساس الذي لا يفرق بين الأسود والأبيض او بين الفقير والغني وبالتالي بين المؤمن بعقيدة ما وغير المؤمن باية عقيدة، يصبح بعيداً عن التطبيق الفعلي في مجتمع ينشد الأمن والسلام. او من خلال الإنتماء الى الهوية الوطنية وعلى تلك المساحة الجغرافية الصغيرة التي تضم اناساً يتحركون على ارضية مشتركة وبالتالي فإن لهم مصالح مشتركة على هذه الارض التي تسمى وطناً.
المحطة الثالثة المتعلقة بالتعصب والتسامح، هاتان الأطروحتان اللتان تتناولهما جميع الأديان بهذا الشكل من التركيز او ذاك من التعميم.
لا يخلو اي دين من الأديان من ترديد مقولات الرحمة والأخوة والتعاون والتسامح وعمل الخير وتجنب المعاصي وغير ذلك من مقومات الأخلاق التي لم تتحقق في اي مجتمع من المجتمعات التي جعلت المبادئ الدينية اساساً لتعاملها مع الأخرين او ما بين معتنقيها. وتاريخ الأديان والكتب التي تستند عليها هذه الأديان يقدمان لنا امثلة حية على ذلك.
فأوربا التي كانت تحكمها المسيحية في القرون الوسطى انتجت للعالم الحروب الصليبية بكل مآسيها التي استمرت لمئات السنين. واليهودية التي لم تكتف بالحرب بين طوائفها المختلفة، اوجدت الصهيونية التي تقتل وتهدم وتدمرما شاء لها التدمير تحت سمع وبصر ورضى بعض اشقاءها في الإنتماء الطائفي بين المسيحيين والمسلميين. والإسلام الذي اوجد لنا الإسلام السياسي الذي اصبح تجارة المنتمين لهذا الدين طائفياً، ولنا في اخلاق تجار الدين في العراق وتعاملهم مع المبادئ التي يزعمون بانها تشكل صلب عقيدتهم التي لم ير المجتمع العراقي تطبيقها إلا من خلال اللصوصية والجريمة وانتهاك كل ما يمت الى الاخلاق والشرف بصلة.
ربما يستطيع قراء هذا النص، والنصوص التي تليه لاحقاً، من الصديقات الفاضلات والأصدقاء الافاضل ان يتعمقوا في قراءة النص لإستكشاف بعض ما خفي عليَّ من محطات يمكن التوقف عندها كمحاولة للمساهمة في طمر بعض مطبات الجهل والتجهيل التي يعاني منها مجتمعنا اليوم والتي اصبح الدين، من خلال تٌجّاره، المصدر الرئيسي لها.
الدكتور صادق إطيمش
• المسكونية هي حركة تهدف للتقارب الديني والوحدة بين الكننائس المختلفة، ويُقصد بروح المسكونية هنا ثقافة التقارب الديني التي تبديها الطوائف والأديان بشكل عام تجاه بعضها. (المترجمة)
النص الثاني
على الصفحات 11 و12 من الكتاب اعلاه (راجع النص الأول).
"" لم نٌدرك منذ وقت مبكر حجم الدور الذي قامت به العقيدة الدينية بإدامة وحشية البشر في التعامل مع بعضهم. وهذا ليس بالأمر المفاجئ، طالما ما يزال الكثير منا يعتقدون بان الدين هو حجر اساسي في حياة الإنسان. إن ما يعزل الدين عن جدل النقد العقلاني خرافتان، وهاتان الخرافتان تعززان موقف التطرف الديني والاعتدال الديني على السواء.
الخرافة الأولى تقول بأن معظمنا يؤمنون بوجود مردود حَسِن يحصل عليه الناس من الاعتقاد الديني لا يمكننا الحصول عليه من مصدر آخر، ومن امثلة هذا النتاج: المجتمعات المتماسكة القوية، السلوك الأخلاقي، التجربة الروحية.
اما الخرافة الثانية فتقول بأن الأعمال الشنيعة التي يجري اقترافها باسم الدين ليست نتاج الدين ذاته بل انها نابعة من طبائعنا البشرية الأساسية ـ كالطمع والكراهية والخوف ـ التي تٌمثل العقائد الدينية علاجها الأفضل وربما الوحيد.
بجمعهما سوية يبدو ان هاتين الخرافتين هما من اكسبانا مناعة تامة ضد انتشار العقلانية في خطابنا العام ""
المحطة الأولى التي ينبغي التوقف عندها في هذا النص تشير الى مسألة العنف
في الأديان وما ترتب على هذا العنف من اجواء افتقدت فيها كثير من المجتمعات اجواء السلام الاجتماعي التي نالها الإرهاب والتعصب لهذا المذهب او ذاك او لتلك العقيدة او تلك. وحين مراجعة تاريخ البشرية بمجموعه، فسوف نتأكد من ان هذه الظاهرة لم تقتصر على دين معين، بل انها تكاد تكون ظاهرة ملازمة للعقيدة الدينية، سيما تلك التي تنطلق من امتلاكها للحقيقة المطلقة التي لا وجود لها.
فلو تمعنا في النصوص المقدسة للأديان، خاصة ما يسمى بالأديان السماوية، لوجدنا ان ما رافقها من شروحات وتفسيرات وتأويلات قد بلغ حجماً تجاوز، لكل منها، حجم النص الأصلي بعدة مرات. والملاحظ ان التطبيق اليومي لمحتويات النصوص الدينية غالباً ما يستند على النصوص الفرعية في الشروحات والتفسيرات والتأويلات التي لا يمكن اعتبارها إلا نتاجات بشر خاضعين للخطأ والصواب، هذا إذا ما انطلقنا من قدسية النصوص الأصلية وعدم خضوعها للاختلافات الناشئة في النصوص البشرية. وعلى هذا الاساس اكتسبت نصوص العنف في مخطوطات الأديان صفة المقدس الذي اضفاه البشر عليها ليبرر به نزعته الى التسلط والسادية التي سيكون لها نصيباً أكبر من النجاح لو ربطها بنص او تأويل او تفسير ديني. وهذا ما يعكسه الواقع المعاش اليوم في جميع المجتمعات التي تعاني من هذه الظاهرة، وما يرتبط به من وقائع تاريخية وما تمخض عنها من ممارسات جعلت القوى التي مارستها تواجه الكثير من الأسئلة التي يطرحها الإنسان المعني بالأمر والباحث عن الحلول الناجعة لمشاكله اليومية التي لم يتوقف ازديادها يوماً بعد يوم. وفي مقدمة هذه المشاكل الربط المحكم الذي بلورته بعض التوجهات الإسلامية بين الإسلام والعنف حتى اصبحت مفردة العنف والإرهاب وكأنها سمة الدين الإسلامي وتابعيه جميعاً دون استثناء، إذ ان البعيد عن هذا الدين لا يمكنه ان يميز بين اطرافه المتناحرة التي يذبح بعضها بعضا. العنف الذي لا يمكن ان ينسجم مع اي خطاب يدعو إلى الحرية واحترام الراي الآخر، مهما كانت طبيعة هذا الخطاب الذي تبنته قوى الإسلام السياسي على مختلف فصائلها وبأساليب شتى.
اما المحطة الثانية فتتعلق بالزعم القائل بان العنف الذي يجري توظيفه ضد الآخر المختلف لا علاقة له بالدين، وطالما نسمع عبارة " الدين منهم براء" للإشارة الى الإرهابيين الذين يقترفون جرائم العنف هذه.
كثيراً ما نسمع هذه الجملة التي تشير الى بعض الأفعال او بعض التصرفات المرتبطة بالقول او الفعل او الإثنين معاً. ومن نافل القول ان نذكر بان مثل هذه الظواهر موجودة في كل دين وتشكل ممارسات في كل مجتمع من المجتمعات وكثيراً ما يصفها ممارسوها او المقتنعون بها على انها دينية.
إن ما يهمنا الآن ليست تلك الممارسات التي تشكل جزءً من حياة الشعوب الأخرى، بل تلك التي تغزوا مجتمعاتنا العربية والإسلامية، خاصة في السنين الأخيرة التي بدت فيها سلطة الإسلام السياسي الاستباقية اقوى بكثير من سلطة مَن تعتبرهم هذه المجتمعات يتحملون مسؤولية التوجيه الديني والإرشاد الملتزم بتعاليم لا بخرافات او سفسطات لا يقبلها اي عقل يعي طبيعة الحياة اليوم في القرن الحادي والعشرين.
تتردد عبارة " والدين منهم براء " في وطننا العراق، بشكل خاص، على تلك الطروحات التي تمَيَزت بها الأجواء العراقية بعد سقوط دكتاتورية البعث التي مارست هذه الخزعبلات حين شعورها بالدنو من الهاوية التي حاولت الابتعاد عنها بما سمته بالحملة الإيمانية التي جعلت من الدين سلاحاً آخر تضيفه الى اسلحة قمعها واسلوباً قذراً من اساليب ملاحقاتها الإرهابية.
وللإنصاف نقول ان الأجواء العراقية لم تكن جميعها بالمستوى الواحد الذي برزت فيه هذه الظواهر. ولعلنا لا نبتعد عن الواقع حينما نقول ان العامل المذهبي قد لعب دوراً في شدة او خِفة الظهور في وسط وجنوب العراق عنه في شمال العراق.
من المؤسف ان يجري التطرق الى هذا التصنيف المرفوض عملياً حين الحديث عن الوطن ودولة المواطنة وكل الشعب العراقي الذي يجسد هذه الدولة ويشكل كل فرد فيه مواطناً لا يفرقه الجنس او الدين او القومية او المنطقة عن المواطن الآخر على هذه الأرض الأم. إلا ان الواقع المؤلم الذي نعيشه اليوم تحت هذه الأجواء التي بدأت تزداد وتنشط بزخم أكثر لوجود من يغذيها بكل شيئ من ساسة دولة المحاصصات المقيتة التي تمارسها احزاب الإسلام السياسي ومساندوه من جهة، ولعدم وجود قوى دينية تشكل مرجعية دينية تفرض ارادتها وتقف بوجه مثل هذه الممارسات، التي هي ممارسات دينية بشكلها ومضمونها، وتمنع روادها من ممارستها والحد من نشاطاتهم التخريبية في المجتمع. إذ ان جُل ما نسمعه من المسؤولين عن الحفاظ على المسيرة الدينية في مجتمعنا هو التنكر لمثل هذه الممارسات والإشارة على انها لا علاقة لها بالدين وإن الدين من ممارسيها، المعممين غالباً، براء.
هذه الإشارات الضبابية غير المقنعة، ترتبط بازدياد السيل الجارف من على منابر بعض المعممين والذي يهدف الى تمرير سيطرة الإسلام السياسي كونه يمثل مذهباً ما لابد من صيانته، لا من خلال العمل المسؤول والنزيه والمخلص من اجل الشعب والوطن، بل من خلال خرافات تستغبي الناس وتحد من فاعليتهم في المجتمع، تنطلق من تفسيراتهم الغبية لبعض النصوص الدينية او تستند الى خلق الأكاذيب عن شخصيات او اماكن تتمتع بالقدسية لدى المشاركين في اللقاءات التي يقودها ويتصدر مجالسها هؤلاء المعممون المضَلِلون.
لذلك فإننا نرى ان خرافة " والدين منهم براء" التي أكد وجودها النص اعلاه في كثير من المجتمعات التي طالها الإرهاب الديني، لا يمكنها ان تمر دون تفكيك القواعد والأسس الدينية التي تستند اليها والتي تسير بالمجتمعات نحو التفكك والتأخر عن ركب الحضارة الإنسانية، وهذه هي المهمة الأساسية التي ينبغي ان يتصدى لها التربويون التنويريون في مجتمعنا حيثما حلوا واينما عملوا.