في عدد "طريق الشعب" العراقية الصادر بتاريخ 25 تموز الماضي، أستوقفني نص ورقة الباحث الرفيق جاسم الحلفي تحت عنوان "واقع وآفاق التغيير  الاجتماعي في المنطقة العربية" والمقدمة إلى الندوة التي نظمها المنبر التقدمي الفلسطيني تحت عنوان" ما هي أسباب تأخر الثورة الاجتماعية مقارنة بأمريكا اللاتينية/ المعوقات والحلول"، وأقول: أستوقفني النص وذلك لما لهذا الموضوع المهم من صلة وثيقة شديدة الترابط بالنجاحات التي يجترحها اليسار في تلك المنطقة النائية من العالم منذ مطلع الألفية مقارنة بإخفاقاته،  لا في المنطقة العربية فحسب، بل في معظم مناطق وقارات العالم الاخرى، عدا استثناءات محدودة. لكن الباحث -الذي بدا مقيداً في نصه بعنوان الندوة-أهتم على وجه الخصوص بتشخيص سمات الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية والسياسية التي ترزح في ظلها شعوبنا العربية كما في ظل الأنظمة السياسية التسلطية الراهنة، والتي تحول دون نجاح الثورات الشعبية أو لنقل بطء الحراكات الاجتماعية؛ وهي أوضاع شديدة التعقيد، وتوازيها موجات متعاقبة من القمع الشديد بمعدلات وحشية غير مسبوقة في تاريخنا الحديث، وبالتالي فقد بدت الورقة منسجمة مع عنوان الندوة التي حُددت مقدماً للباحث باقتصارها على عوامل تأخر الثورات الاجتماعية في منطقتنا العربية  مقارنة بأمريكا اللاتينية، وغير معنية بالوقوف طويلاً على واقع اليسار العربي والأسباب الذاتية والموضوعية التي تحول دون استعادة دوره المحوري في قيادة قاطرة التغيير الاجتماعي ومعوقات انطلاقته.

إن الثورات الاجتماعية - كما هو معروف - لا يمكن تناول سيرورة تقدمها وتراجعها بمعزل عن اليسار باعتباره رافعة التقدم الاجتماعي والحضاري في كل بلدان العالم لا العالم العربي وحده. وفي تاريخنا العالمي الحديث ظل اليسار في قلب هذه الثورات والدينامو الأساسي لتثوير الجماهير والتعبير عن طبقاتها المسحوقة، ولاعباً أساسياً في بناء أوسع التحالفات مع القوى الاجتماعية والسياسية التي لها مصلحة في التغيير، ولكن وفق أدنى اُسس تقدمية مشتركة ممكنة، وليس توافقات تحمل في طيات نوايا بعض أطرافها  أهدافاً رجعية تطيح عند أقرب منعطف بالأهداف المشتركة، كتقديم شعارات وأجندة تنال من حقوق المرأة أو الشغيلة، أو تعوق تطوير منظمات المجتمع المدني بصورة مستقلة، أو الإطاحة بالعملية السياسية المتوافقة عليها بين المتحالفين برمتها،  سواء عند انجاز خطوات من التغيير والحراكات الاجتماعية، أو قبل تحقق أي منها.

 وهذه الظروف الموضوعية التي يواجهها اليسار العربي ليست بالضرورة تواجه اليسار الأمريكي اللاتيني بنفس الحدة أو العقبة الكأداء، فهي تختلف حتى عن عوامل ضعفه الذاتية مقارنة باليسار اللاتيني ذاته. 

كما أن البنى التقليدية الاجتماعية التي يناضل اليسار الماركسي العربي من أجل التخلص منها، ليست بذات التماثل التي يواجهها اليسار في أمريكا اللاتينية، والتي بسببها لربما جاءت منظمات المجتمع المدني في هذه الأخيرة أكثر نضجاً وبلورةً من المجتمعات العربية؛ بما تشكله من رديف وداعم للثورات الديمقراطية واليسار الاجتماعي عامةً. 

وإذ يلعب الدين  وإثارة النعرات المذهبية والطائفية والقومية  دوراً كابحاً في أيدي الأنظمة التي برعت في استغلاله، بالتوافق الضمني أو بالتحالف مع القوى الدينية المتاجرة بالدين،  لإلهاء الجماهير وتزييف وعيها وصرف اهتماماتها عن قضاياها الطبقية والمعيشية المصيرية الآنية المشتركة مع كل الطبقات المستغَلة، وهو ما يستنزف طاقة اليسار العربي اليومية  استنزافا هائلاً، بانشغاله للحد من تأثير ذلك الإلهاء في  أوساط الجماهير العادية، ومن ثم جذبها من جديد نحو قلب معاركها الأساسية، بل وقد تجد قوى اليسار العربي نفسها مضطرة في كثير من الأوقات إلى اتخاذ موقع الدفاع عن نفسها، وفضح مرامي القوى التي تستهدفها أو تقف وراء إثارة المعارك الهامشية، فإن مثل هذه القضايا في بلدان أمريكا اللاتينية - رغم خصوصية كل قطر- لا تبرع فيها قوى الثورة المضادة الرجعية، كما في عالمنا العربي إلا في أندر الأحوال. وعلى العكس من ذلك فإن اليسار الأمريكي اللاتيني وجد فيما عُرف ب " لاهوت التحرير" التي أثارت حفيظة الفاتيكان نصيراً له في فترة من فترات صعوده النضالي، بينما مازال اليسار العربي يفتقد إلى رجال دين أو قوى دينية ذات قواعد جماهيرية نصيرة له حقاً ولشعاراته الاجتماعية، بل ما برح يبذل قصارى جهوده لتفادي مواجهتها أو الاصطدام المباشر معها وهو ما تسعى إليه تلك القوى. 

مهما يكن ففي تقديرنا، وكما ذهب الباحث الحلفي في ورقته، فإن تجربة صعود اليسار الامريكي اللاتيني ووصول قواه إلى السلطة، سواء عن طريق الانتخابات معتمدة على نفسها، أم من خلال التحالف مع قوى سياسية -كما جرى خلال العقدين ونيف الماضية- قمينة بالتدارس والاستفادة منها وفق الأوضاع الملموسة في أقطارنا العربية كما شخصها الباحث نفسه. 

عرض مقالات: