في مقاله المنشور في صحيفة " الشرق الأوسط" بتاريخ 15 تموز / يوليو الماضي، أعترف الكاتب اللبناني البارز سمير عطا الله بأن كل ما كتبه من مقالات ذات انتقادات شديدة ضد رومانيا الاشتراكية السابقة "لم يكن موضوعياً ولا مهنياً، بل بناءً على مواقف مسبقة مستندة إلى مصادر غربية غير محايدة"، مضيفاً بأنه لم يفتح أذنه لا إلى المحايدين ولا إلى مؤيدي الرئيس الروماني الأسبق نيكولاي تشاوشيسكو، وأنه أكتشف، من خلال لقاءاته مع عدة شخصيات رومانية بعد سنوات طوال من انهيار النظام الاشتراكي في رومانيا وتحولها إلى الرأسمالية، ندم كثرة من الرومانيين ممن كانوا متحمسين للحرية على النمط الرأسمالي الغربي، وأنهم أسفوا على رحيل زعيمهم تشاوشيسكو وزوال نظامه؛ مقارنة بما تشهده بلادهم الآن منذ تحولها الرأسمالي من فساد كبير وأزمات اقتصادية واجتماعية خانقة متعددة غير مسبوقة، ونضيف من جانبنا:  بل وحتى غياب الممارسة الديمقراطية الحقة! 

والحال ليست رومانيا وحدها من الدول الاشتراكية السابقة التي تعاني من أوجاع التحول للرأسمالية، إذ تشاركها في ذلك معظم شعوب الدول الاشتراكية السابقة، إن لم تكن كلها. فعلى الرغم من مضي نحو ثلث القرن على الإطاحة بتلك الأنظمة، وهي فترة ليست بالقصيرة، لم يسفر التحول عن إقامة ولو دولة ديمقراطية واحدة ذات نظام رأسمالي متطور - ديمقراطيا وصناعياً- على نحو ما بشٌر به الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، والتي كان لها دور كبير محوري في دعم قوى الثورة المضادة التي أسقطت الأنظمة الاشتراكية السابقة وهو دور تضافر مع العوامل الداخلية المسببة للانهيار.  وإذا ما أستنينا الاتحاد السوفييتي السابق، فإنه لما تصل بعد أي دولة من تلك الدول المتحولة حتى الآن إلى نظام " ديمقراطي" تصنيعي متطور، لنقل يضاهي على الأقل دولة آسيوية ككوريا الجنوبية، حتى لا نقول اليابان.

على أن هذه النتائج الكارثية لم نخلص إليها جزافاً أو انطلاقا من تحيز أيديولوجي مسبق، بل بإمكان القاريء أن يرجع إلى نتائج استطلاعات الرأي والتحقيقات الصحفية والتلفزيونية التي دأبت وسائل الإعلام الغربية على أجرائها في تلك الدول منذ إسقاط أنظمتها الاشتراكية السابقة والتي خرجت بها عن خيبة الأمل العميقة التي انتابت بمرارة مشاعر أوسع القطاعات الشعبية في دولها. وحتى إذا ما أخذنا - على سبيل المثال - دولة اشتراكية سابقة مثل " ألمانيا الديمقراطية"، التي تشكل الآن الشطر الشرقي لألمانيا الموحدة والمعروفة بمتانة اقتصادها، فإن تلك الاستطلاعات والتحقيقات الإعلامية الغربية بمختلف وسائلها ما انفكت تخلص أيضاً إلى أن الغالبية العظمى من سكان هذا الشطر يشكون من التمييز الوظيفي والمعيشي، ناهيك عن شتى الخدمات العامة، مما يدفعهم إلى الحنين إلى مزايا النظام الاشتراكي السابق حتى مع وجود المساوىء التي شابته في التطبيق. 

وبطبيعة الحل لا تعني هذه الخلاصات أن الحل للتخلص من تلك الأزمات يكمن في الرجوع إلى تلك الأنظمة الاشتراكية الشمولية بحذافيرها، بل ثمة حاجة ملحة تدعو في هذه المرحلة  إلى تبني برامج  إصلاحية جذرية في هياكل المؤسسات الرأسمالية المقامة بعد التحول   - بما فيها المؤسسات الاقتصادية الاشتراكية التي تمت رسملتها على عجل، وبحيث  تأخذ الدولة، في مجمل الإصلاحات المأمولة  بعين الاعتبار إيجابيات برامج الحماية الاجتماعية للأنظمة الاشتراكية السابقة، أو على الأقل الاستفادة من تجارب الحكومات الاشتراكية السابقة المنتخبة في الغرب، سواء من خلال وصولها إلى السلطة انتخابيا لوحدها، أو بالمشاركة الجبهوية مع أحزاب يسارية اخرى، ولاسيما في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وغيرها من دول العالم الرأسمالي. كما تفرض الحاجة الآنية إلى توسيع وتعميق هوامش الديمقراطية الشكلية المقامة، ومن بينها مؤسسات السلطتين التشريعية والقضائية، وضمان تحقيق الحريات الصحفية بجدية، وكذلك كفالة تطبيق سائر الحريات العامة بنزاهة وتجرد، وتحقيق الإصلاحات الدستورية المسبقة التي تكفل كل ذلك، وبدون ذلك ستتفاقم أزمات هذه الدول في شتى القطاعات إلى ما لا يُحمد عقباه.

عرض مقالات: