كابوس تدهور سعر صرف الدينار مقابل الدولار هل يعد حقيقة أم حلم تساؤل مطروح.. غير أن الواقع فعلياً يؤكد أن تدهور سعر صرف الدينار مقابل الدولار يمس لقمة العيش وتأمين الحياة الكريمة، إلا أن أسوأ كوابيس الشعب لا يزال ماثلاً أمامه متمثلاً في حقبة التسعينات، خاصة مع تدهور سعر الصرف.

مر سعر صرف الدولار في العراق بأوقات عصيبة خلال المدة القليلة الماضية وتسارعت وتيرة ارتفاع أسعار صرف الدولار في أسواق البورصة الرئيسية والأسواق المحلية العراقية بمستويات غير مسبوقة في النصف الثاني من شهر كانون الأول من عام 2020 عندما وصل سعر الصرف ذروته 132 دينار/دولار مقارنة بـ 125.850 دينار لكل 100 دولار مرتفعا بنسبة تفوق 3% والتي تقع ضمن الحدود المسموح بها دوليا. وولد هذا الارتفاع هلعا للفقراء، والمحلات التجارية الكبيرة عند مبادلاتها التجارية، وأربكت التقلبات السريعة في سعر الصرف أصحاب الأعمال والتجار وصعبت عليهم تحديد التكاليف وأسعار بيع السلع.

حيث سبب التدهور الحاد الذي شهده سعر صرف الدينار العراقي مؤخرا تهديدا مؤثراً لعملية النمو والاستقرار المالي والاقتصادي في البلد، خصوصا مع تراجع النشاط الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة والفقر بسبب الانعكاسات الخطيرة لجائحة كورونا في العراق، ويبدو أن هناك محاولات لرفع سعر صرف الدولار في الأسواق العراقية، بحيث يكون لكل 100 دولار 150 ألف دينار عراقي.

جدير بالذكر أن العملة الوطنية تعرضت لصدمة شديدة أصابت الناس بالذهول وشلت حركة النشاط الاقتصادي وحيرت المهتمين بالشأن الاقتصادي في تفسير العوامل المستجدة التي قادت انهيار العملة بذلك المستوى خلال أيام وجيزة، وهذا يؤكد الدور الحاسم لوفرة النقد الأجنبي في التأثير على سعر الصرف.

علماً أن ارتفاع سعر الصرف في ظل ثبات سعر البنك المركزي يعكس جانبين رئيسين هما تزايد الطلب محليا على الدولار من جهة وزيادة ربحية المصارف الخاصة عبر رفع فارق سعر الصرف بين الرسمي والسوقي من جهة اخرى، وهو ما يعمل على ترسيخ حالة الفساد في المصارف التي تعد المسؤولة عن ضخ العملة الاجنبية للسوق بعد استلامها من البنك المركزي.

يضاف الى ذلك صدمات الأسعار الدولية وتقلبات سعر الصرف والإفراط في العرض النقدي وزيادة الأعباء الضريبية والفساد الذي يكتنف الرسوم الكمركية في أغلب المنافذ البرية والجوية والبحرية ضمن أهم العوامل التي تقود ديناميكيات التضخم في العراق، وعادة ما تنعكس الصدمات الخارجية للأسعار الدولية وسعر الصرف على معدل التضخم في المدى الآني والقصير، ما أدى إلى سعي الكثير لتحويل ما لديه من دينار الى دولار و شكل ضغطاً على سوق الصرف وزيادة الطلب الاضافي على العملة الصعبة، فضلاً عن نفقات الوقود المستورد لتغطية احتياجات السوق المحلي والتي تمثل أكبر السلع التي تستنزف النقد الأجنبي فضلاً عن الطلب لأغراض استيراد السلع الاخرى ودور المضاربين الذين يتزاحمون (يضاربون) لتأمين متطلباتهم من الدولار وكلما أرتفع سعر الصرف، تقاوم مؤسسات الصرافة انخفاضه لتفادي أي خسائر قد تلحق بها.

أثبتت صدمة سعر الصرف الأخيرة وجود علاقة طردية قوية بين ارتفاع سعر صرف الدولار والزيادة في أسعار السلع الغذائية الاساسية، فقد شهدت الأوضاع الاقتصادية والإنسانية مزيدا من التدهور منذ بداية جائحة كورونا واستمرار أزمة مرتبات موظفي الدولة، وجاءت الصدمة الجديدة لازمة العملة - التي ترتب عليها تصاعد ملحوظ في الأسعار وتآكل القوة الشرائية واضمحلال آليات التكيف – بمثابة ضربة مؤلمة للوضع الاقتصادي والمعيشي يصعب تحملها، حيث يشكل سعر صرف الدينار العراقي هاجسا مقلقاً لحياة المواطن البسيط؛ بسبب ارتباط معظم السلع المتاحة في الأسواق بسعر صرف الدولار، مما يعني أيضا الارتباط الوثيق بين سعر صرف الدولار ومستويات التضخم في البلد، فحين يرتفع سعر صرف الدولار (زيادة عدد الدنانير اللازمة لشراء دولار واحد) ترتفع تلقائيا أسعار السلع المستوردة في الأسواق بشكل أكبر.

فجوة سكانية

فلا يغيب علينا ضمن هذا السياق أن الاقتصاد العراقي يعاني من زيادة الفجوة بين معدل النمو السكاني الذي يبلغ (2.9%) ومعدل النمو الحقيقي السالب للاقتصاد العراقي، حيث ان المشكلة الرئيسية في الاقتصاد العراقي تكمن في الاختلال البنيوي وهي ترتبط بمتغيرات خارج قدرات ومهام السلطة النقدية يقف في مقدمتها الطبيعة الريعية للاقتصاد العراقي، وانحسار الطاقة الانتاجية المحلية المتمثلة بانكفاء أنشطة الصناعة والزراعة، بالشكل الذي أدى الى انحسار في العرض الكلي، مما فتح المجال امام الاستيرادات الواسعة في ظل غياب الإنتاج المحلي المكافئ لهذه الاستيرادات.

إن أزمة العملة من أخطر التحديات الاقتصادية التي تعصف بالاقتصاد العراقي وتزداد خطورتها أكثر في بلد يستورد معظم احتياجاته الأساسية من العالم الخارجي بما في ذلك الغذاء والدواء والكساء والوقود، مما يجعل الأسعار المحلية والظروف المعيشية للمواطنين رهينة للتغيرات في الأسعار الدولية وصدمات سعر الصرف المتتالية.

تدهور اسعار النفط

ويمكن حصر أهم العوامل التي ساهمت في تدهور سعر صرف الدينار العراقي مؤخراً بتدهور سعر النفط الخام في الأسواق العالمية وما خلّفهُ من شحّة في تدفق النقد الأجنبي للبلد، فضلا عن الفساد المالي والإداري الذي تخلل مزاد بيع العملة الأجنبية، وعجز الجهاز الإنتاجي للبلد في إنتاج أبسط السلع والخدمات، وتحول الاقتصاد العراقي إلى سوق كبير للسلع الصناعية والزراعية المستوردة، ودور المحاصصة السياسية التي أطرت المشهد السياسي في العراق وألقت بظلالها على المشهد الاقتصادي. واقع سعر الصرف اليوم يستدعي ضرورة معالجة الأزمة من خلال انتهاج البنك المركزي لسياسة نقدية تعمل على إعادة التوازن لسعر الدينار مقابل الدولار في المزادات اليومية لبيع الدولار من قبل البنك المركزي العراقي، وذلك عبر إنعاش السوق بعملة الدولار، لكي يثبت سعر الدينار بحدود معينة. مع استخدام البنك المركزي أدواته النقدية بشكل فاعل. مع أهمية إيقاف العشرات من المصارف الخاصة التي لم يكن لها أثر اقتصادي او ائتماني يذكر مما يوضح أنها تعتاش على فروقات سعر مزاد البنك المركزي العراقي.

طالما الاقتصاد العراقي يعيش منذ سنوات تحت تأثير صدمة هبوط أسعار النفط وتداعيات تراجع الإيرادات النفطية عن المستويات التي تطبع عليها الاقتصاد والإنفاق الحكومي العام بشقيه الجاري والاستثمار، لهذا لم يبق أمام السلطة النقدية في ميدان الحفاظ على سعر صرف مستقر سوى طريق إشباع الطلب على الصرف الأجنبي من خلال عرض الصرف الأجنبي ليقابل ذلك الطلب، لتعزيز التنمية المستدامة واتاحة فرص العمل وتحقيق الرخاء في العراق، ولكون أن الحكومة تعد المحتكر الوحيد لمصدر الصرف الأجنبي الداخل الى الاقتصاد العراقي بفعل الطبيعة الريعية للاقتصاد العراقي، هذا الى جانب أن استقرار سعر الصرف من شأنه أن يعزز  ثقة المستثمرين والشركات بالعملة بعد التخفيض لها أقل بكثير لأن ثبات العملة من العوامل التي تشجع على الاستثمار والدخول في المشاريع المهمة للاقتصاد القومي، وأن نضع في حساباتنا أن تحسين البنية التحتية الاقتصادية يبدأ بالعملة، واليوم العملة العراقية اذا ما استمر الوضع على ما هو عليه سوف لا تختلف عن أوضاع التومان الإيراني والليرة التركية أو السورية، لأن من المتوقع أن تصل قيمة الدولار الواحد إلى (1450) لكل (100 دولار) في العام المقبل 2021 .

وما يترتب عليه من عدم استقرار الذي يلقي بظلاله على اعاقة تنشيط الاقتصاد المحلي في حالة عدم استقراره وتذبذبه بشكل شديد بسبب دوره في عمليات التبادل التجاري في العالم. 

التضخم

فضلاً عن العمل الجاد على تخفيض قيمة المديونية الخارجية العراقية باعتبارها واحدة من العوامل التي تؤدي الى زيادة الضغوط التضخمية، وارى ككاتب مختص في الشأن الاقتصادي أهمية اتباع سعر صرف مدارا أقرب الى المرن، حفاظا على ما تبقى من الاحتياطيات بغية التوجه نحو التقنين في استخدام الاحتياطيات بإعطاء التحرك البسيط لسعر الصرف، كي لا نصل الى وضع كارثي جراء سياسة تعويم سعر الصرف وتحمل تبعات ذلك وتقبل كل مشكلة لأننا متيقنين  بوجود الاحتياطيات لدى البنك المركزي. فتعويم العملة بهذا الشكل يتبعه بالتأكيد تراجع في قيمة هذه العملة، فالانخفاض نتيجة تلقائية للتفاعل الحر بين العرض والطلب في سوق النقد الأجنبي دون تدخل مباشر من الحكومة او البنك المركزي، وليكن في حسبان المسؤولين ان  تخفيض العملة هو تخفيض قيمة الرواتب بشكل غير مباشر سيؤثر على ذوي الدخل المحدود وطبقات الفقراء عبر ارتفاع أسعار السلع، ومن المرجح ضمن هذا الاتجاه ان تقوم الحكومة، في حال تراجع الأوضاع الاقتصادية، بسحب كميات من أموال الاحتياطي المركزي والذي يعد أحد أكبر الكوابيس المرعبة التي تواجهها الحكومة مطلع العام الجديد على الرغم من محاولات الحكومة إظهار سيطرتها على مؤشرات الاقتصاد، فإن كابوس تدهور سعر الصرف يتجه إلى مسار تصاعدي قد يعرقل خطط الاصلاح .

اذ لابد للإصلاح الاقتصادي الحكومي من عدم الاستسلام أمام الكوابيس والتعامل معها بطريقة علاجية أو مواجهتها، وان تبدأ السياسة الاقتصادية بشقيها المالي بـ ” كتابة كوابيس تدهور سعر الصرف وقراءتها مباشرة عدة مرات، لأن التعود على الحلم بنفس الكوابيس سوف يقود الى سماع ومشاهدة هذه الكوابيس وتكون غير مؤثرة عليه، كما اشار الى ذلك هانس غونتر فيس رئيس مجلس إدارة الجمعية الألمانية لطب النوم وأبحاث النوم وبذلك يفقد الكابوس تأثيره على الشخص في الحياة اليومية”.