كان بنيامين نتياهو واضحاً وصريحاً وهو يعلق على اتفاق امريكا واسرائيل والسودان على تطبيع العلاقات،  حيث اعلن بنشوة بالغة ان الخرطوم تقول نعم للحوار والسلام والتطبيع مع اسرائيل، ما يعني عملياً فتح افاق او انفاق جديدة في العلاقات بين الدولتين وطي صفحة الماضي.

بالفعل لم تعد تظللنا سماء خرطوم اللاءات الثلاث ( لا صلح ، لا تفاوض ، لا اعتراف) عام 1967 حين لعبت الخرطوم دوراً يحسب لها في مصلحة العرب ولتقوية جبهة المواجهة والابقاء على جذوة المقاومة متقدة. ونتنياهو كأنه يسخر او ينتقم من ذلك الماضي، ونحن الان نعيش عهد الوصاية الدولية والاقليمية بدعوى رفع اسم السودان من قائمة الدولة الراعية للارهاب ودفع عجلة الاقتصاد. ويأتي معها تصنيف حزب الله كمنظمة ارهابية من قبل رأس الدولة السوداني.

هذا الاتفاق بين الدول الثلاث يفضح حقيقة ان صفة الارهاب حسب الفهم الامريكي، تنطبق فقط على الدول التي تتخذ موقفاً مستقلاً عن اسرائيل، وليس لانها ترعى الارهاب الدولي او تستضيف شخصيات موضوعة على القائمة الامريكية السوداء. ذلك ان السودان وبعيداً عن التطبيع قد استوفى الشروط  المذكورة باسقاطه النظام الذي كان يرعى الارهاب ويستقبل  الخارجين على دولهم وعلى الشرعية الدولية، ولم يستبقِ شئياً. لكن الادارة الامريكية انتظرت حتى تجبر الضائقة الاقتصادية الحكومة على التطبيع. فما ان حدث ذلك حتى رفعت العقوبات وفي دقائق معدودات.

كما تعني الخطوة ان السيد رئيس وزراء السودان كان يعلم بالتطبيع منذ لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني البرهان مع رئيس الكيان الصهيوني في عنتبي، والذي اعلنت عنه الادارة الامريكية وانكر حمدوك حينها علمه به.  ثم قال لوزير خارجية امريكا الذي زار السودان قادماً من تل ابيب، ان التطبيع يتجاوز صلاحيات الحكومة الانتقالية. وكل ذلك كان خداعاً للشعب، الذي افسدت عليه موافقة السيد حمدوك على التطبيع فرحته برفع العقوبات، بعد ان علم الثمن وخداع حكومته، حيث استمع للخبر من خارج البلاد ولم تتكرم الحكومة باخباره عما يحاك له وباسمه.

بذلك يكون الصراع قد انتقل من خانة المواجهة بين المدنيين والعسكريين، او تصفية اثار النظام السابق المفتعلة، والمقصود منها تضليل الراي العام حتى تمضي المخططات الدولية والاقليمية كما يراد لها. فقد اتضح ان طرفي السلطة على وفاق تام في القضايا الاستراتيجية، وان الخلافات بينهما تخص اشياء ثانوية لا قيمة لها.  كما اتضح ان الحاضنة السياسية للسلطة شكلية، ولا تتم مشاورتها في السياسات العامة التي تحددها جهة غير معلومة للجميع، عدا السيدين حمدوك والبرهان. كذلك ان قوى الجبهة الثورية التي كانت تعيش في كنف جهات اجنبية توفر لها الحماية والدعم المادي واللوجستي، جاءت بعد توقيع اتفاق جوبا لتدعم التوجه الجديد للسلطة، والذي من المتوقع ان يكون نهجاً شمولياً يعتمد القمع وسياسة ((العين الحمره) باسم الديمقراطية وحقوق الانسان والتمييز الايجابي للنساء والاقليات العرقية، في مواجهة التربية الذكورية والنزعات  العربية الاسلامية للمركز، المسيطر تاريخياً على السلطة والثروة، في آخر خطوة لتصفية الدولة الوطنية في السودان واحراج  الافكار التي تنادي بها، ووصفها بانها ايديولوجية عفا عليها الزمن.

لكن بعيداً عن كل ذلك ، هل يساهم رفع العقوبات في دفع عجلة الاقتصاد السوداني، حتى يستحق هذا الثمن بانسلاخ السودان عن محيطه العربي؟  لقد كانت الازمة وستظل تكمن في كون مصروفات الدولة تفوق وارداتها، لا لانها توسعت في الخدمات والتنمية، ولكن لانها تخلت عن مصادر دخلها في النقل البري والجوي والبحري والاتصالات، وتخلت عن التجارة الداخلية والخارجية والمشاركة في الاستثمار، واعتمدت على الايرادات الضريبية. فكان ان اصاب الميزانية العجز الدائم. فلجأت الحكومات منذ عام 1979 الى سد العجز عن طريق الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية.

لكن هذا الطريق بسبب سياسات نظام البشير. ولن تفعل الحكومة الجديدة التي اعلنت عزمها على استئناف سياسات السوق الحرة، غير ابقاء السودان في دائرة العجز بالاستدانة مجدداً  من النظام  المصرفي العالمي. ذلك انها لم تعلن حتى اللحظة، عن استرداد مؤسسات الدولة التي تخلت عنها للقطاع الخاص، او عن تأسيس الميزانية على موارد حقيقية، غير المنح والهبات والقروض.

الخرطوم

عرض مقالات: