حوالي 70٪ من الحروب والصراعات في العالم تجري في دائرة تمتد من أفغانستان وتنتهي بليبيا من الطرف الآخر. إذا كان لقارئ هذه السطور تجربة في التفاعل المباشر مع السياسيين والمجتمعات في الشرق الأوسط، فمن المحتمل أنه يقر بوجود عقلية مركزية: وهي أن الحكومات والمجتمعات في المنطقة عموماً ترى إن أسباب هذه الاضطرابات والحرب تعود إلى عامل "خارجي".

لكن ما يجعل هذا النقاش مهماً للغاية في الشرق الأوسط هو أن البحث عن عنصر أجنبي لا يقتصر على السياسة فقط. فإذا لم ينجح الشخص في العمل، وإذا ما فقد الصناعي حصته في السوق، وإذا فشل الطالب في الدراسة، وإذا ما تفككت العائلة، وإذا أفلس البنك، وإذا فشل الوزير في خططه، إذا كان الشخص في صراع دائم مع جاره، وإذا لم يحصل حزب ما على أصوات كافية في الانتخابات، إذا ما أنتجت الزراعة محصولاً سيئاً، وإذا خسرت الصحافة عدداً قليلا ًمن القراء، وإذا خسرت الشركة رأسمالها، وإذا ما تم تجاهل الشخص، وإذا ما واجه الاقتصاد تضخماً ثلاثي الأرقام، وظواهر أخرى، فالسبب جاهز، ألا وهو العامل الخارجي.

ويحلل برنارد لويس، الذي كان يعرف لغات الشرق الأوسط بشكل عام، وعاش في ربوع هذه الدول لسنوات عديدة وقدم ملاحظات مهمة، هذا الوضع على هذه الشاكلة بقدر ما يتعلق الأمر بأفضلية الحالة التركية على غيرها من بلدان الشرق الأوسط ويقول:

سأل حكام وشعب تركيا أنفسهم:

أين تكمن أخطاؤنا في كوننا لم نتقدم مثل الأوروبيين؟

سأل حكام آخرون في مجتمعات شرق أوسطية:

ما هي الدول الأجنبية التي وضعتنا في هذا المأزق؟

والمسافة بين هذين السؤالين هي أيضاً كالمسافة بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية.

المشكلة الأكثر جدية التي تواجه بلدان الشرق الأوسط هي أنه لا يتم "مراجعة العمل والتدقيق فيه" في أروقة السلطة فحسب، بل وأيضاً على نطاق عامة المجتمع باعتبار أن "التدقيق في عملهم" هو ضرب من النقيصة والعيب. والأمر لا يقتصر على أحد المدراء الذي يلقي على الأقل جزءاً قليلاً من اللوم على الذات والاعتراف بالخطأ والسياسة الخاطئة في الحسابات، ولكنه يوجه اللوم الأكبر وسوء التقدير حول المشكلة لسوء الفهم والسياسات المضللة وسوء تقدير الحكومات الأجنبية.

المحور الرئيسي لهذه الحالة هو التغاضي عن مبدأ المراجعة و"النقد الذاتي" تقريباً، لأن المنطقة معتادة على البطولة وصناعة الأساطير والمثالية الكامنة في عجينة وجودها، ولذا من الخطأ الإشارة إلى عيوب وأخطاء الفرد أو المؤسسة أو الحكومة. فالأفراد والحكومات مولعة بالتأكيد عشرات المرات على أن كل شيء على ما يرام ومثالي. ولكن بما أن الإنسان ليس كاملاً، فلكي يتمكن من إداء دوره في الميدان، يضطر إلى اللجوء إلى النفاق والدهاء والنفاق والكذب والسرية والسفسطة والانعكاس والمغالطة، ويميز الظاهر عن الباطن بنسبة 180٪. لهذا السبب، يمكننا التعرف على الشخص الياباني في غضون أيام قليلة وحتى "الاعتماد عليه"، ولكن في هذه المنطقة ليس من الواضح هل من الممكن التعرف على المواطن في الشرق الأوسط بعد مرور10 سنوات أو 15 عاماً، حتى بعد 25  

لكن لماذا يهرب أفراد وحكومات هذه المنطقة من الذات الحقيقية؟

لماذا لا ينتقد أداءهم السابق والماضي؟

لماذا لا يتحملون المسؤولية عن أخطائهم؟

تحتاج العديد من القدرات إلى العمل معاً للبدء في ممارسة النقد الذاتي. يمكن تحديد خمس قدرات رئيسية حسب الأهمية:

1-التفكير والعيش والتخطيط بواقعية. ويمكننا القول إنه لا توجد منطقة في العالم لديها إلى هذا الحد فن تبرير وتجميل الأوهام وتزيين الأمور والتستر على النوايا الحقيقية. فعندما حاصرت القوات الأمريكية مدينة بغداد خلال إدارة بوش، تحدث المتحدث باسم صدام حسين محمد سعيد الصحاف عن الانتصار على العلوچ الأجانب والحفاظ على استقلال العراق وسيادته الوطنية!!!.

2-التمسك بعادة قراءة الكتب والحوار وخاصة "المناظرة". في الشرق الأوسط، هناك قراءة ثابتة لكل موضوع وعلى مدى عقود مديدة بدون أي تغيير. ولا يتم مراجعة الفكرة والتدقيق فيها حتى بعد أن تفشل الفكرة. ولم يعتاد الناس على دراسة طرق جديدة وأفكار جديدة وهياكل جديدة من خلال الدراسة. في حين، تستلزم دراسة وفهم القضايا مطلبين صعبين للغاية بالنسبة للحكومات والمجتمعات في المنطقة: أولاً، المسؤولية، وثانياً، ملامح التغيير في الوضع الراهن. وكلاهما يتطلبان الجهد واستشراف المستقبل والصبر. ربما لهذه الأسباب، فإن التواجد معاً والدردشة والثقافة الشفوية التي تمارس في الشرق الأوسط هي أسهل بكثير وأكثر متعة من المطالعة والتفكير وتحمل المسؤولية والتغيير.

  1. عندما تكون هناك إجابة واحدة لكل حالة وكل سؤال، يصبح من غير الضروري أن يتنافس الأفراد والمؤسسات، أو يتعاونون ويتفاهمون وينسجمون وينسقون ويجمعون بعد الاستماع إلى آراء بعضهم البعض.

في المجتمعات ذات الأحادية الرأي، تكون قوة التفكير إما ممنوعة أو مخفية في باطن الأفراد، وإن التعلم من بعضنا البعض له أيضاً جانب ترفي ومصطنع. وتقوم وسائل الإعلام بشكل عام بالتبشير بقراءة واحدة لا غيرها. ويروج فيما يسمى بالجامعات والمعاهد البحثية المزعومة وجهة نظر واحدة لا غير. والنتيجة هي مجتمع موحد يقوده القذافي في ليبيا وحسني مبارك في مصر وصدام في العراق الذي حكم لمدة عشرين إلى أربعين عاماً. لقد واجه عبد العزيز بوتفليقة، رئيس الجزائر السابق الذي تولى الرئاسة مدة 20 عاماً، احتجاجات واسعة النطاق عندما جاء على كرسي متحرك ليرشح نفسه للمرة الخامسة في عام 2019، واستقال من منصبه في النهاية. وفي خلال فترة ولايته الرابعة من عام 2014 إلى 2019، كان بو تفليقة يعاني من إعاقة في الكلام (Aphasia)، ولم يكن قادراً على التحدث علناً، ولم يُعرض فيلمه إلا عندما كان في حالة صدمة في اجتماعات مجلس الوزراء. لقد رافق انتخاب بوتفليقة في الولاية الثالثة والرابعة تغييرات دستورية. في مثل هذه الهياكل، هل من الممكن أن يحلم أحد بممارسة النقد والنقد الذاتي، سواء على المستوى الحكومي أو على المستوى الفردي؟

  1. الغرض من النقد والتعددية غي الرأي هو تحسين نوعية الحياة. وينظر المجتمع والحكومة اللذان اعتادا على ممارسة النقد إلى الحياة خارج إطار المنصب والمكانة والسلطة. إن المجتمع والدولة التي تستأنس بالنقد يفصلان بين الوصول إلى الأموال والريع وبين إنتاج الثروة من خلال العمل الجاد والتفكير. ولا تُعرّف الحياة على أنها مجرد جمع الأموال والاحتفاظ بالمناصب. وكقاعدة عامة، الوزير الذي يؤمن بالنقد والنقد وتنوع وجهات النظر يشعر بالحرج من العمل مع خمس حكومات لها خمس وجهات نظر مختلفة حول الأمور، ويبرر في النهاية موهبته الخارقة بالعمل مع أي نهج مهما اختلف أو تعارض. بالطبع، ووفقًا لفلاسفة السياسة، لا توجد متعة للإنسان أكثر من تمتعه بالسلطة. فيدل كاسترو، الذي حكم مثل ناصر الدين شاه لمدة تسعة وأربعين عاماً، نقل السلطة "مؤقتاً" إلى العائلة، إلى شقيقه راؤول بعد قرابة خمسة عقود.

على الرغم من أن الحصول على المال وتولي المنصب هي سمة شائعة نسبياً في جميع أنحاء العالم، إلا أن تركيزهم ليس مرتفعاً كما هو الحال في منطقة مثل الشرق الأوسط. إن الحياة تتجاوز بكثير إطار المال والمنصب: فإن النظر إلى الندى لمدة عشرين دقيقة، وارتداء قميص وردي، وإيقاف السيارة احتراماً لحق المشاة في الطريق، والجلوس أمام شلال لمدة نصف يوم، والوفاء بالوعد، والصدق، والشكر، والحفاظ على الصداقة مثل الحفاظ على زهرة واحدة، والقيام بـ 50 شيئًا آخر لكسب الثقة وترك مئات الإرث الإيجابي هي سمات الحياة النبيلة. عندما يقتصر تعريف الحياة على المال والمنصب، تفقد معانيها العديد من المفاهيم مثل الكفاءة والعطاء والشفافية والمساءلة وتناوب السلطة وحرية الإعلام، وأخيراً النقد والنقد الذاتي.

  1. من الناحية النظرية، قد يتساءل المرء كيف يتشكل احتكار السلطة والثروة في دول العالم الثالث. إن الوصول إلى المال والمنصب أمر يسيل له اللعاب لدرجة أنه ينتهي بطبيعة الحال بعقود من التبرير وإلى احتكار السلطة والغوغائية والغموض والتلاعب. هنا تظهر صدمة الفكر والجهد المدني لأشخاص مثل هابرماس في ألمانيا الذي يدعو إلى أولوية المجتمع على الدولة، والحفاظ على قراءات متنافسة حية في المجتمع، مما يمنع تفوق الشركات العملاقة في المنظومة الرأسمالية (Corporate Capitalism) على المصلحة العامة. وقد تحولت هذه المبادئ إلى عقد اجتماعي نسبياً. إذا كانت دروس الماضي لا تستند إلى مناقشة القراءات والمصلحة العامة، فلن يتشكل النقد بشكل طبيعي. إن الاحتكار والغطرسة، تقود الهياكل الشرق أوسطية صوب الركود.

خلاصة القول، ما هي الصلة بين العديد من المشاكل في الشرق الأوسط وانعدام فرص انتقاد الذات؟ عندما يكون النقد الذاتي في حدوده الدنيا، أو حتى معدوماً، تصبح المعلومات والتطورات الجديدة في تقييم وتحليل القضايا الجارية بلا معنى، وتعود الدوغمائية. في ظل هذه الظروف، يتم تشكيل منظومة صنع القرار مع التركيز على الحفاظ على الوضع الراهن والعلاقات القائمة، وتنشأ متلازمة داء التفكير الجماعي. وفي ظل هذه المتلازمة، وعندما يجتمع الناس المنضوون تحت لواء هذه المنظومة، يجري التوصل إلى آراء تحافظ على العلاقات القائمة دون تغييرها، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى حالة من الانغلاق المعرفي Cognitive Closure)). ومع تكرار العوائق المعرفية، تتراكم الأخطاء في اتخاذ القرار تدريجياً، ويُحرم الهيكل الذي يشمل الحكومة والمجتمع من فرص تحري المشاكل وتحديدها وحلها. وعندها لا يمكن للتنافس الفكري والنقاش حول الحقائق وتداول المعلومات أن تكون نشطة ومؤثرة، لأن النقد الذاتي والمراجعة وتقييم الماضي تبدو وكأنها مجرد تهديدات. وما دامت أنظمة ومجتمعات الشرق الأوسط لا تتعمق في الفكر، وتنتقد نفسها بنفسها، وأن توفر الفرصة للنقاش حول المعلومات والأفكار الجديدة، فإنها ستظل في ورطة، وتضع اللوم في فشلها على الآخرين. أن أي تغيير وتحول يحتاج إلى تحول وتغيير في الشخصية، والذي يبدو للأسف أنه لا يتحقق بدون طريق التفكير، وإلاّ ستتكثف الأزمات. وهنا تتحمل النخب الفكرية والتنفيذية في هذه المجتمعات المسؤولية الأهم تجاه المستقبل وإحداث التحول والتغيير.

 

عرض مقالات: