لم تكن الدعوات الصريحة والمطالبات المتكررة على مختلف الصعد ومن وجهات نظر متعددة ومتباينة في الميول والتوجهات السياسية وربما المرجعية الدينية، او نتيجة لإلحاح اليسار العراقي وفي المقدمة الحزب الشيوعي العراقي بأقامة الدولة المدنية في العراق إلا نتيجة لفشل النخب السياسية والاجتماعية منذ تأسيس الدولة عام 1921باقامة دولة المواطنة او دولة العدل والمساواة.

ان أزمات العراق المزمنة على امتداد قرن كامل كانت لاسباب متعددة ومتشابكة وهي نتاج معقد شاركت فيه كل الشرائح الاجتماعية وكثير من القوى السياسية منذ تشكيل حكومة النقيب الاولى وكان نتيجة كل ذلك الفشل في إقامة دولة الجميع، بل ظلت ولا زالت دولة العراق هي دولة الجماعة الواحدة، بتعبير علم السياسة دولة الجماعة لا دولة المجتمع، والمؤسف جدا ان الكل الحاكم بعد العام 2003 ظل مصرا على نهج واسلوب حكم الجماعة مع تعديل خجول تمثل في اتباع اسلوب التحاصص على انه مزية ديمقراطية يقصد بها اسهام الجميع، ولكن في حقيقة الامر وفي ضؤ التجربة فإن الجميع الحاكم اليوم هم الجماعة الجديدة وفق النهج القديم مع الفارق، ان أنظمة العهود السابقة تجلت الجماعة فيها لتحكم باسم العشيرة في ظل الحكم الملكي، وقد كان البرلمان الذي جاء وفق دستور عام 1925 معبئا بالإقطاعيين، ومجلس الأعيان يعين الملك فيه ثلث أعضائه من شيوخ العشائر، والبقية شرائح اجتماعية ارستقراطية مكونة من جنرالات الجيش العثماني المتعاونين مع الإنكليز او التجار أصحاب الرأسمال الاقطاعي، ولقد كانت دولة العشيرة الممتدة من عام 1921 ولغاية1958، قد استولى رجالها على 80 في المائة من الأراضي الزراعية. وبعد قيام الثورة التي قادها العسكر ونفذها على الأرض الشعب، وباستثناء فترة قليلة من حكم الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم ومنجزات وزاراته، بدأت الأخطاء تطفو على السطح، بسبب الميول العسكرية والنزعة الفردية البرجوازية تحول العراق إلى حكم الدولة العسكرية، كما وان بعض الاحزاب البرجوازية، وكما يقول د، على مهدي في كتابه (الوثائق التقييمية لمسيرة الحزب الشيوعي النضالية،ص 32) أخذت تخشى من ان يؤدي بقاء الديكتاتورية العسكرية الى وقوع سلطة الدولة في ايدي الطبقة العاملة وحلفائها الطبيعيين، لذا فقد سعى البعث وحلفاؤه للانقضاض عسكريا وبقوة الجيش على حكم كان يميل نسبيا لأن يكون لصالح الشعب، ليقوم رسميا حكما عسكريا برئاسة المشير عبد السلام عارف والعميد أحمد حسن البكر رئيسا للوزراء، وتوزعت سلطة شباط عام 1963 بين الجنرالات البعثيين والقوميين، وثلة من المدنيين الحزبيين، غير ان حكم الدولة العسكرية البعثية وثناياها من الحرس القومي والجنود المدججين بالسلاح ما لبث كل منهم إلا وصار هدفا لقوات المشير في الثامن عشر من تشرين الثاني من ذات العام ليقوم نظام الدولة العسكرية القومية ولتوزع السلطة من جديد بين رجال الثكنة العسكرية وعمدتها الانضباط العسكري ذو الأحزمة البيضاء، وظل العسكريون يتبادلون السلطة والعيارات النارية في محاولة أحدهم للانقلاب على الآخر، ومنها على سبيل المثال محاولة الجنرال عارف عبد الرزاق قائد القوة الجوية للانقلاب على عبد السلام عارف وهو يحضر مؤتمر الرباط، وبعد وفاة عبد السلام واختيار أخيه الجنرال عبد الرحمن عارف، قام ثانية عارف عبد الرزاق رئيس الوزراء وقائد القوة الجوية بالانقلاب على حكومة عبد الرحمن عارف، وهكذا كانت الفترة ألمحصورة بين عام 1958، ولغاية عام 1968، هي فترة (جماعة العسكر) وبعد هذا التاريخ تجلت دولة العراق بدولة المنظمة السرية، الخارجة من أرحام منظمة حنين السرية او السراديب المظلمة والتي جاءت هي الاخرى على أثر انقلاب قام به الشغاف العسكري لحكم الجنرال عارف المكون من الثنائي عبد الرحمن الداوود وعبد الرزاق النايف اللذان تحالفا تكتيكيا مع البعث في السابع عشر من تموز عام 1968وقد أطاح بهما البعث بعد اسبوعين (في الثلاثين من الشهر نفسه)، وتم فبه تنصيب المهيب أحمد حسن البكر رئيسا للجمهوية، وليأخذ رئيس المنظمة السرية الزعيم الخفي لهذه الدولة صدام حسين مكانة الرجل الثاني، وهذه المنظمة السرية كما يقول حسن العلوي في كتابه (العراق دولة المنظمة السرية ص 34) ليست جزءا من هيكل الدولة، ولا هي هيئة اجتماعية معترف بها ، لكنها جماعة تدير الدولة بالخفاء أطاحت تدريجيا بجنرالات الجيش، ومنحت الامي والجاهل من انصارها رتبة جنرال، وتحولت وفق اوامرها جماعة البعث الى جماعة حاكمة أزاحت الخبرة المستقرة في اجهزة الدولة الرسمية، وصار الجهاز السري يملك المسوغ الايديولوجي ليعلن ان الحزب اولا والدولة تقع في مرتبة ادنى، وظل عضو الحزب يأمر المدير العام، او مسؤول المنظمة الحزبية في الجيش يملي على الجنرال تعليمات حزب البعث، وكانت المنظمة السرية بمثابة الفخ الذي يتم نصبه للاحزاب الوطنية والشخصيات المستقلة كما يؤكد السييد العلوي، وظل الشعار شعار الحزب القائد والقائد الضرورة وخاض العراق في ظل حكم هذه الجماعة ( التي غيبت اخيرا حتى حزب البعث)الحرب تلو الاخرى، حتى كان عام 2003 حيث تمت الإطاحة بالدولة ومنظومتها الحاكمة وتم بسبب ذلك تواري الدولة الحقيقية وتم حل اجهزتها الرسمية على يد الحاكم المدني الامريكي ليقوم بدلا عنها نظام الدولة العميقة متعددة الهويات الى جانب الدولة الرسمية ذات النظام البرلماني المستنسخ عن التجربة البرلمانية البريطانية وبموجب قرار مجلس الامن رقم 1546 لعام 2004 والتي جاءت وفق دور استلام وتسليم بين الدولة المحتلة ومجلس الحكم.

والدولة العميقة او السرية هو مفهوم شائع يقصد به القوة او القوى ذات التأثير المباشر على توجهات وقرارات الدولة الرسمية، وهذه القوى في الأغلب موجودة بالفعل ولكنها متوارية في الاعماق لا تظهر بشكلها الموصوف، فهي غير مرئية وتعمل خلف الكواليس بعيدة عن مرأى الناس وعادة تعتاش على أموال وقدرات الدولة الحقيقية.

ان الهجوم الكاسح لأطراف الدولة العميقة او الدول العميقة يمكن وصفه بهجوم الوحش الكاسر على فريسة هرمة اتعبها الزمن وانهكتها الحروب، وصار شعبها يئن من وطأة الفقر والبطالة والمرض، وأخذ يتململ بجدية الشباب الثائر بعد تشرين مستعرضا امام الملأ ما ناله العراق على مدى القرن الاخير من فقر للفلاح او تهميش للعامل على يد دولة العشيرة، الا يحق لنا نحن ابناء العراق بعد كل هذه الجولات الفاشلة للدول الاربع على مدار قرن ان نجرب حظنا في دولة مدنية تنتفي عندها الهويات الجزئية (التي كانت نواة نظام المحاصصة المقيت) والتي يقف فيها المواطن مرفوع الرأس أمام القانون، وتقوم عندها المؤسسات لتقول كلمتها في كل الأشياء، او على الأقل ان تقام العدالة الاجتماعية والتي توزع فيها الثروات بين كل الناس لا كما كان معمولا به على مدار القرن الاخير، حيث الثروة بيد من يمسك السلطة، من شيخ عشيرة او ضابط جيش او رجل منظمة فاشل او رجل مغمور يسكن اليوم باسم الديمقراطية قصور الكرادة والمنصور.

الدولة المدنية في العراق هي الحل الوحيد لأزمات العراق المزمنة وهي الحل الأمثل لأن يتحول العراق من سلطة الجماعة إلى سلطة الجميع، بتعبير اكثر دقة من عراق الشخص الذي يقول فيه الدولة انا الى عراق يقول فيه الكل، نحن جميعا تحت راية الدولة المدنية التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون، وفق نظام رئاسي ينتخب فيه الشعب الرئيس انتخابيا فرديا حرا مباشرا، ويكون الرئيس شرعيا فيه لمن يحصل على ال 50+1 في الجولة الأولى، او أعلى الأصوات في الجولة الثانية، ويكون نائبا للرئيس من يحصل على أكثر الأصوات بعد فوز الرئيس، والرئيس هو المسؤول أمام الشعب، لا كما جاء في دستور 2005، حيث يتم تعيين رئيس الوزراء بالمحاصصة الطائفية، واثبتت التجربة فشل كل اشكال الحكم الحكم الا حكم الدولة المدنية في العالم.