غداة انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الآفل والذي انتهى  على إثره النظام الدولي الثنائي القطبية ممثلاً في القوتين النوويتين العظميين -  الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي - هلل إعلام وكتّاب الدول الرأسمالية،  وعلى رأسها الولايات المتحدة ، لذلك الانهيار مبشرين البشرية بزوال شر الحرب الباردة ومخاطر اندلاع حروب نووية تحت قيادة عقلانية الولايات المتحدة وحليفاتها حتى لو امتلكوا أكبر ترسانة نووية في العالم ، لكن سرعان ما انكشفت هذه الأكاذيب التي حاولت الإمبراطورية الإعلامية الاميركية - الغربية تضليل العالم بها ، ذلك بأن الولايات المتحدة نفسها و بطبيعتها الامبريالية لا تستطيع التخلي عن البحث عن " عدو خارجي " جديد تبرر به نزعة التسلح الاستراتيجي بغرض الهيمنة الكونية والتوسع والتفرد بتقرير بمصائر القضايا الدولية ، وهذا ما أفضى إلى خلق حرب باردة جديدة لعلها  أشد خطورة من الحرب الباردة السابقة زمن القطبية الثنائية ، وأمعنت بمواقفها في تسميم وتأجيج المناخ الدولي على نحو بات يهدد بنشوب حرب نووية . 

فمع أن العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي مرت بمنعطفات بالغة الخطورة كانت تنذر بنشوب حرب نووية، إلا أنهما تمكنتا من تجاوز تلك المحطات بما يجنب العالم نشوب حرب نووية.

وبعد مرور 30 عاماً على انتهاء الحرب الباردة الأولى، فأنه بدلاً من أن يصبح العالم أكثر أمناً من مخاطر نشوب حرب نووية أضحى اليوم أكثر تهديداً بنشوبها في النظام الأحادي القطبية التي تحاول الولايات المتحدة فرضه. ومن المفيد التذكير هنا بأن ثمة باحثين ومحللين ومسؤولين أميركيين يتمتعون بدرجة من العقلانية سبق أن حذروا  من مخاطر اندلاع حرب نووية منذ أوائل العقد الماضي محملين مسؤولية بلادهم في تعاظم هذه المخاطر ؛ نذكر منهم  على سبيل المثال -لا الحصر- وزير الدفاع الأميركي الشهير الأسبق روبرت مكنمارا ، ففي مقال له تحت عنوان " واقتربت الساعة " نُشر في مجلة "فورين بوليسي " بتاريخ أيار  / حزيران 2005 أكّد أنه رغم انتهاء الحرب الباردة فإن السياسة النووية الأساسية للولايات المتحدة لم تتغير، وأن تجريب إطلاق قصف نووي ضد قوة نووية سيكون انتحاراً ، أما ضد عدو غير نووي فغير ضروري عسكرياً ، ومقززاً اخلاقياً ، ولا يمكن الدفاع عنه سياسياً ؛ على حد تعبيره . يستطرد مكنمارا بوضوح مخيف أكثر صراحة: " إن إعلان الحرب يتطلب تشريعاً من الكونجرس، لكن إطلاق إبادة نووية جماعية يتطلب 20 دقيقة من النقاشات بين الرئيس ومستشاريه”. على أن نُذر الحرب النووية اليوم تبدو أكثر خطورةً  منذ ذلك التحذير الذي أطلقه مكنمارا قبل 15 عاماً  ؛ إذا باتت سياسات بلاده تهدد السلم العالمي في ظل بؤر التوتر الدولية المحتدمة والمنتشرة في مناطق عديدة من العالم ؛ ناهيك عن الحروب الاقليمية المشتعلة فعلاً  ، لاسيما  بعد وصول الرئيس الأميركي اليميني المتهور دونالد ترامب إلى البيت الأبيض منذ نحو أربع سنوات ، واستغلاله جائحة كورونا لتسميم الأوضاع الدولية دون أدنى ترو أو تبصر  من مخاطر تصعيد المواجهة بين بلاده من جهة ، والصين وروسيا النوويتين من جهة اخرى ؛ دع عنك إيران التي هي  على وشك الانضمام إلى النادي النووي وقبلها إسرائيل المنضمة فعلياً دون إعلان . والحال لم تكن مخاطر اندلاع حرب نووية إبان الحرب الباردة كما هي في ظل الحرب الباردة الراهنة، إذ لم تعدم القوتان العظميان ، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فرصاً للتعاون المشترك ومحاولة تهدئة بؤر التوتر في العالم التي لهما في مناطقها نفوذ،  ومن ثم العمل  على تحقيق الانفراج الدولي وتثبيت مبدأ التعايش السلمي بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية المختلفة؛ حيث سعى الاتحاد السوفييتي من جانبه للعب الدور الأكبر بالتعاون مع القوى والشعوب المحبة للسلام في العالم والمناهضة لسباق  التسلح النووي ؛ ذلك بأن الخسائر التي تكبدها الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية من أحد عوامل حرصه الشديد - بروح عالية المسؤولية لسلامة شعبه وشعوب العالم- على تفادي الصدام النووي مع الولايات المتحدة، وكانت خسائر الاتحاد السوفييتي  لا تضاهى في حجمها المهول بخسائر غريمته الولايات المتحدة التي خاضت كل الحروب التي شاركت فيها أو بادرت إليها خارج أراضيها منذ تأسيسها.  

ففي العدوان الثلاثي 1956 الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر كان للإنذار السوفييتي - بصفته دولة نووية - دوره الحاسم في تراجع العدوان واخماد بؤرة توتر شرق أوسطية مشتعلة ينذر استمرارها بأشد العواقب الوخيمة. وفي أوائل الستينيات - بعد سنوات قليلة من انتصار الثورة الكوبية- وازاء المخاطر الفعلية التي تحيط بهذه الثورة من جانب الامبريالية الاميركية التي كانت  تهدد بالتدخل لإحباطها من خلال قوى الثورة المضادة الي تحميها وتدعمها؛ اضطر الاتحاد السوفييتي إلى نصب صواريخ نووية في كوبا لحمايتها من جارتها العظمى المتربصة بها شراً، الأمر الذي أثار غضب الأخيرة  الشديد مهددة موسكو إن لم تنزع هذه الصواريخ فوراً، لكن تلك الأزمة البالغة الخطورة انتهت بانتصار صوت العقل وبضمان حماية الثورة الوليدة بعدما كان العالم يحبس أنفاسه على حافة  أخطر حفرة نووية حقيقية بعد محرقتي هيروشيما  ونجازاكي النوويتين اللتين ارتكبتهما الامبريالية الأميركية. وفي عام 1963 وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا معاهدة لحظر التجارب النووية في الجو والفضاء الكوني وتحت البحر. وفي العام نفسه تم تدشين الخط الساخن بين واشنطن وموسكو للتعامل مع الحالات المستجدة الخطيرة ازاء حدث يعنيهما في العالم. وفي عام 1968 وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي مع دول اخرى معاهدة حظر انتشار السلاح النووي. وفي عام 1973 وقعت الدولتان النوويتان اتفاقية درء نشوب حرب نووية بينهما بين البلدين في هلسنكي المستجدة.  

وبالإضافة إلى الحالات والمواقف المشار إليها آنفاً التي شهدها عصر الحرب الباردة الأولى بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي ؛ ثمة حالات ومواقف عديدة من النزاعات والحروب أمكن خلالها تجنب الاقتراب من الحافة النووية خلال ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي  ؛ كالحرب الهند الصينية ( ملحمة نضال الشعب الفيتنامي للتحرر من الهيمنة العسكرية الاميركية )،  والنزاع الأسرائيلي - العربي الذي شهد اندلاع حربين بين الطرفين في عامي 1967 و 1973 ، وتوتر العلاقات بين القوتين العظميين جراء التدخلات الاميركية والسعودية  في الشأن الأفغاني أوائل الثمانينيات على خلفية قيام نظام يساري عسكري في افغانستان ، والحروب التي شهدتها منطقة الخليج العربي خلال العقد نفسه  ، وغيرها من المنازعات العديدة في العالم . ويمكن القول إنه منذ مطلع السبعينيات دخل القطبان النوويان في مرحلة جديدة من الانفراج الدولي وتخفيف حدة التوتر بينهما؛ بدءاً من توقيع اتفاقيتي الحد من الاسلحة الاستراتيجية ومروراً باتفاقية الحد من الدرع الصاروخية، وليس انتهاءً بتوقيع عدد من الاتفاقيات المماثلة خلال عهد جورباتشوف آخر رئيس سوفييتي مثل اتفاقية سالت 1 عام 1991 والتي تبعها سالت 2 عام 1993 غداة انهيار الاتحاد السوفييتي. ومن أبرز أمثلة التعاون في مجال الفضاء نشير على سبيل المثال لا الحصر إلى المركبة الفضائية السوفييتية " سويوز " التي التحمت مع المركبة الفضائية الاميركية ابولو عام 1975 كتعبير عن الرغبة المشتركة بين الطرفين في تخفيف حدة التوتر بينهما. 

فلنقارن الوضع الذي كان عليه العالم في ظل الحرب الباردة زمن القطبية الثنائية بالحرب الباردة في زمن النظام العالمي الأحادي القطبية؛ أليس سياسات الولايات المتحدة المتهورة وانفرادها بتقرير مصائر العالم بعيداً عن إشراك حتى حلفائها الغربيين دع عنك روسيا والصين بات يهدد سلام العالم بأسره؟ أكثر من ذلك فأن الولايات المتحدة ما زالت متمسكة بمخزونها من العتاد النووي؛ بل لا تتورع عن مضاعفته وتعزيزه. والحال ما كان يمنع الامبريالية الاميركية عن استخدام السلاح النووي لفرض هيمنتها الكونية لتحقيق مصالحها وجود دولتين نوويتين اشتراكيتين غريمتين لها ألا هما الاتحاد السوفييتي والصين فحسب، بل ووجود تأثير لاصطفافات اممية عالمية وقوى دولية لم تعد اليوم موجودة أو ضعف تأثيرها، كحركات التحرر العالمية، وتكتل دول عدم الانحياز، ومنظمات السلم العالمية، واحتجاجات التسلح النووي الجماهيرية في أوروبا؛ كالاحتجاج على نصب صواريخ بيرشينج وكروز النووية الاميركية في القارة الاوروبية خلال الثمانينيات. وكل مراكز القوى هذه في العالم المناهضة للإمبريالية من مواقع ومنابع فكرية وثقافية مختلفة لم تعد -للأسف - بنفس الفعالية التي كانت عليها في ثمانينيات القرن الماضي 

إن من يعتقد أن الولايات المتحدة لن تلجأ لاستخدام السلاح النووي بعد استخدامها له لإبادة سكان مدينتي هيروشيما ونجازاكي نهاية الحرب العالمية الثانية فهو واهم تماماً ، فالدولة التي لم تتورع عن استخدام هذا السلاح ثانيةً بعد ثلاثة أيام من استخدامه على المدينة الأولى رغم علمها بما لحقته القنبلة الأولى بسكان هيروشيما من فظائع وأهوال ؛ والدولة التي خططت لإعادة استخدام القنبلة النووية ثالثة في حال ما إذا رفضت اليابان الاستسلام حتى مع قصف المدينتين ؛ لن تتورع إذا ما لزم الأمر عن تجريبه ثالثةً في ظل الحرب الباردة الراهنة الأشد خطورةً . ولن يجبرها على التراجع عن مثل هذا الخيار الجهنمي الشيطاني الذي يهدد العالم إلا بإعادة تفعيل وبناء تحالفات قوى الخير والسلام والديمقراطية في العالم من ثم تشديد ضغوطها في مواجهة قوى الشر والحرب التي تمثله سياسات الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.

عرض مقالات: