ونحن على أعتاب انتخاب الدورة الرابعة لمجالس المحافظات، يجد أي منا ان هذه المجالس لم تكن تختلف بعضها عن البعض الآخر رغم أن المنطق يقضي انها تمر بعد كل دورة انتخابية بتجربة تغنيها للدورة التالية، غير ان ذلك لم يحدث لسبب واحد تدور حوله كل الإخفاقات الا وهو ان الأحزاب السياسية الحاكمة لم تكن مدارس تعد الكوادر الإدارية التي تمكنها من التصدي لمتطلبات العمل الحكومي، ومنها العمل في هذه المجالس، عليه فإن مسألة الوقوف أمام كل هذه الإخفاقات تعد بمثابة المحاولة الجدية للنقد البناء لإنقاذ القادم لمثل هذه المجالس لأنها لم تعد بمثابة التجربة بعد كل هذه الأعوام من حكمها، ومن خلال معايشتنا لواقع المحافظات في ظل المتصرف إبان الحكم الملكي او المحافظ في العهد الجمهوري نلاحظ أن تلك القيادة للمحافظة كانت قد أثمرت بعضا من التقدم الملحوظ في واقع تلك المحافظات الاداري والاقتصادي والعمراني وتم وضع المقدمات الحضارية على الاقل لمراكز المحافظات والاقضية والكثير من النواحي، وكان يقف الى جانب المتصرف او المحافظ كل من مدراء الدوائر الفرعية للمصالح والدواوين الحكومية، وكان كل من مدير التربية ومدير الصحة ومدير البلديات ومدير الخزينة ومدير دائرة الري ومدير الزراعة ومدير الامن ومدير الشرطة وغيرهم من المدراء كل حسب مسؤوليته واختصاصه يشكلون مجلس ادارة المحافظة، وبموجب اجتماعات دورية، رغم أن النظام القائم آنذاك لم يكن يأخذ باللامركزية الادارية، كما جاء في الفقرة الثانية من المادة 122 من دستور عام 2005، حيث نصت على، ان تمنح المحافظات التي لم تنتظم في اقليم الصلاحيات الادارية والمالية الواسعة بما يمكنها من ادارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الادارية، وينظم ذلك بقانون، وأراد المشرع بهذا النص الصريح ان تهتم مجالس المحافظات بالشؤون الإدارية والمالية البحتة بعيدا عن سلطة المركز في كل أمور المحافظة ولم يشر المشرع إلى الاهتمام بالشؤون السياسية، وهذا ما أكدته الفقرة أولا من المادة الثانية من قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21 لسنة 2008،المعدل، حيث نصت على أن مجلس المحافظة:- هو السلطة التشريعية والرقابية في المحافظة وله حق إصدار التشريعات المحلية بما يمكنه من إدارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الادارية بما لا يتعارض مع الدستور والقوانين الاتحادية التي تندرج ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية. ولم تكن نية المشرع متجهة إلى منح هذه المجالس أية اختصاصات غير ادارية، وهذا جاء معبرا تماما عن توجه المشرع نحو نقل تجارب الدول المتقدمة وفق هذا القانون في إدارة الشؤون البلدية والعمرانية وأشغال الهندسة المدنية، ففي السويد مثلا تختص المجالس البلدية بادارة شؤون الجوازات واجازات السوق ورخصة قيادة السيارات، والشؤون البلدية وامور الكهرباء وادارة المياه والمياه الساخنة لتدفئة الدور والأماكن العامة طيلة ايام السنة، والبلدية مسؤولة عن حضانة ورياض ومدارس الاطفال وغيرها من شؤون الخدمات العامة التي تتصدى لها الدول، وان دوائر البلدية هناك بقلة كوادرها وكثرة اخلاصها تقوم بكل هذه الأعباء بسلاسة والبريد الذي هي أيضا مسؤولة عن نشاطه الواسع يقوم بإيصال الجواز او الهوية الوطنية او إجازة السوق، وغيرها من الوثائق التي تهم المواطنين والمقيمين الى دورهم، وان المجالس البلدية تتكون من موظفين ومتبرعين من المتقاعدين أصحاب الخبرة في شتى ميادين الحياة، لقد كنا جميعا نأمل أن تأخذ مجالس المحافظات بأيدي محافظاتها نحو تقدم ملموس وعمران محسوس على وفق المثل القائل (اهل مكة أدرى بشعابها) غير ان تجارب الدورات السابقة كانت مخيبة للآمال بل يعجز الإنسان المدرك عن وصف نتائج اعمال هذه المجالس وللأسباب التالية:
1 - لم تقم الاحزاب السياسية الحاكمة بتهيئة كوادرها اداريا وعلميا للتصدي لمهام مجالس المحافظات المنصوص عليها بالقانون رقم 21 لسنة 2008، وان الأحزاب ذاتها لم تكن مهيأة لإدارة شؤون دولة مثل العراق، بل انها كانت احزاب سياسية بامتياز. وأنها اتخذت من الدعوة لانتخاب مجالس المحافظات وسيلة للكسب الحزبي والتوسع الجماهيري ليس الا، وأنها أجرت الانتخابات لهذه المجالس قبل صدور قانونها.
2 - لقد تم زج الكثير من الأشخاص ليكونوا اعضاء في هذه المجالس، وهم على غير دراية بمتطلبات عملها، او لم يكونوا يحملون المؤهل العلمي الذي يساعدهم لإدارة مثل هذه المجالس على وفق مبدأ اللامركزية الادارية.
3 - انتقال عدوى الخلافات السياسية وتضارب المصالح وتقاطع الاهداف من الاحزاب والحكومة الاتحادية ومجلس النواب الى تركيبة هذه المجالس، مما جعلها تدور في افلاك السياسة ومتاهاتها، بدلا من التركيز على الجوانب الادارية والعمرانية لهذه المحافظات والاقضية والنواحي والقصبات التابعة لها.
4 - نتيجة لما ورد في ثالثا، فإن هذه المجالس أصبحت منابر لتهجم الاحزاب بعضها على البعض الآخر، وأصبحت ملتقى للمنابزة والمناكفة والمعاكسة، واخذت تنقسم على نفسها انقساما افقيا بعيدا عن مصالح الناس وتتقاتل على المناصب والمنافع، وعلى منصب المحافظ لوجود الصلاحيات المالية الواسعة له، لذلك تراها تتعاكس وتنتخب محافظين للمحافظة في ان واحد.
5 - كان لضيق المحيط الاجتماعي في المحافظات ولوجود التأثير العشائري، ولوجود الولاءات العائلية، ان تنوعت الخلافات وتلونت التقاطعات، فبعد أن بدأت خلافات سياسية تحولت بمرور الزمن إلى خلافات عشائرية وعائلية ومناطقية، مما أفقد هذه المجالس قيمتها الاعتبارية أمام الجمهور.
6 - لقد انبرى الكثير من اعضاء هذه المجالس للاعتداء على المال العام او العقار العام او الأرض العائدة للدولة، مما زاد وطيس الخلافات بين الأعضاء وابعدهم كثيرا عن مهامهم الادارية والقانونية، وصاروا قدوة لمن يريد الاعتداء على المال العام، لأنهم وغيرهم فتحوا أبواب الاستحواذ على المال الحرام.
7 - نتيجة للتلاعب في عقود المشاريع او التدخل في تفاصيلها لأسباب كثيرة، فإن تنفيذ هذه العقود على الأرض كانت وما زالت وهما اجتماعيا واملا يراود العراقيين.
8 - ان كل ما سردناه من إخفاقات، بسبب كون هذه المجالس باتت منابر للصراع السياسي ومقرات للمعاكسات والمنابزات وهو ينطبق بكل تفاصيله على إقليم كردستان، فلم يختلف مجلس نوابه عن مجالس المحافظات، ولم تكن حكومته تختلف عن المحافظة فيما يخص تقديم الأفضل للمواطنين، بل تعدى الإقليم المألوف في حكم الأغوات والاقطاعيين وابناء العشائر وسيطرتهم على الأحزاب وبالتالي إخضاع الحياة في الإقليم لحكم الأقلية الارستقراطية.
ان مفاعيل ما تقدمنا به آنفا انعكست على واقع المحافظات، فباتت جميعها تشكو الإهمال لأن المسؤول فيها تنكر لأهله وناسه، وتباعد عنهم تدريجيا ليدخل خانة الأضواء وابتعد عن المطلوب من الأعمال والأشياء، وهكذا ظلت شوارعها ترابية ومدارسها طينية ومستوصفاتها منسية، ومداخيلها مخزية، وساحاتها الخضراء رمادية، وظل أبناؤها يعانون البطالة، وغيرهم دخل عالم الجهالة، وهكذا أتت هذه المجالس حتى على ما كان يمت للحضارة بصلة، وهكذا أضاعت هذه المجالس فرص التقدم المطلوب.
عليه ومما تقدم ولغرض تجاوز الواقع الحالي وللوصول إلى مجالس محلية ولو بمقاربة ضئيلة مع مهام مجالس الدول المتقدمة، نود عرض المقترحات التالية، آملين النظر إليها بجدية، او إلغاء قانون مجالس المحافظات والعودة إلى مسألة تعيين المحافظ، واعتبار رؤساء الدوائر الفنيين والمختصين اعضاء تلقائيين في هذه المجالس.
1 - تعديل قانون انتخاب هذه المجالس بما يضمن ابعاد نظام الانتخاب بالقائمة، او العمل قدر الامكان لافساح المجال أمام الانتخاب الفردي والترشيح الفردي.
2 - تقليل عدد أعضاء مجالس المحافظات، وذلك بتعديل المادة 3 من قانون المحافظات غير المرتبطة باقليم بكل فقراتها، بما يضمن تقليل الخصومات بين الاعضاء الذين زاد عددهم عن الحد المعقول لأن العدد الكبير في المحيط الضيق يزيد من عدد وحجم المشاكل التي باتت تبعد المجالس عن أعمالها المنصوص عليها قانونا.
3 - العمل بجدية على تفعيل كل ما ورد بالمادة الخامسة من قانون المحافظات غير المنتظمة باقليم، وخاصة ما جاء بالفقرة السابعة، والتي تنص على ان العضو المرشح، يشترط ان لا يكون قد اثرى بشكل غير مشروع على حساب الوطن او المال العام بحكم قضائي، على ان تعدل هذه الفقرة بحذف شرط الحكم القضائي، لأن اللذين أثروا على حساب الوطن والمال العام لم يصل أي منهم لقاعات المحاكم، او ان القضاء بات يخاف سطوتهم وقوة بأسهم.
4 -على الأحزاب والكتل السياسية التوقف حالا عن اسناد ومؤازرة العضو الفاسد، والمساعدة على ايصاله للقضاء، والدفع بعدم اعادته للوظيفة العامة، او تخليصه من قبضة العدالة.
5 -على الناخب اي ناخب العودة إلى العقل وعدم الانجرار وراء الدعاية والاعلام الحزبي، والعمل قدر الامكان على انتخاب من يتمتع بسمعة حسنة (خاصة وان أبناء المحافظة يعرف أحدهم الآخر) وان يكون من حملة الشهادات العليا وان يكون مستقيما مشهودا له بالعفة والنزاهة ونظافة اليد والذمة والضمير.
6 - ان من اهم مميزات النائب او عضو مجلس المحافظة ان يكون على بينة من وظيفته المنتدب اليها، وان يكون معروفا بكفاءته وقدرته على الاستجابة لأوضاع المحافظة او القضاء او الناحية، وأن يكون ذا قدرة إدارية، لإيجاد الحلول للمشاكل الاقتصادية والعمرانية والشؤون المدنية، وهنا يجب أن ينتخب المهندس، والقانوني والإداري والاقتصادي، لا الامي الذي يجر المحافظة إلى الوراء. بتعبير أدق، وبعد فشل السياسيين، يجب ابعادهم عن المسؤولية قدر الامكان للدورة القادمة.
ان تجربة المجالس بكل دوراتها السابقة وتجربة الاقليم كانت تجارب غير موفقة لأنها كانت شخصانية المفاعيل، ولم تكن تتقارب مع اهالي المحافظات، بل ان افعال القلة التي اطلقت على نفسها النخبة السياسية، او ما تسميه الاحزاب قيادة الطليعة الحزبية كانت السبب وراء كل ذلك، ولقد ثبت على مر التاريخ السياسي العراقي ان قيادات الاحزاب، باستثناء الحزب الشيوعي العراقي، وربما احزاب اخرى، كانت قيادات شخصانية، تقف وراءها ولاءات عائلية او عشائرية او مناطقية او مجاميع عسكرية، قادت البلد باتجاهات معاكسة لمنطق التأريخ لانها نتاج افعال اشخاص من القياديين، كما وان هذه الاحزاب لم تكن مدارس تخرج المفكرين والقادة الميدانيين لادارة مرافق الدولة، كما هو معمول به في احزاب الغرب الديمقراطي.
ان تجربتنا الحزبية بعد عام 2003 لم تكن غنية إلا بالإخفاقات، لان قادة الاحزاب والكتل حولوا تأريخ احزابهم الى سجل اختصروه في اشخاصهم وصاروا يعددون منجزات الماضي، ولم نسمع منهم اي منجز بعد استلامهم السلطة، وها هم اليوم يتبادلون التهم ويرمي كل منهم السبب على الآخر، لما لحق بالعراق من ضيم في ظل تجربة مجلس النواب او في ظل مجالس المحافظات.