بمناسبة بلوغه الخامسة والثمانين اهدى جان زيغلر نفسه كتابا جديدا بعنوان "ما السيء للغاية  في الرأسمالية"، والكتاب عبارة عن اجابات عالم الاجتماع المعروف على اسئلة حفيدته " زوهره"، وفي الكتاب اعادة غير مباشرة الى الاذهان لتجربة عالم الاقتصاد في المانيا الديمقراطية السابقة يورغن كوتشينسكي، الذي اصدر كتابا بعنوان "حوار مع حفيد"، اجاب فيه على اسئلة حفيد احد ابنائه بشأن ضرورة اصلاح الاشتراكية في ثمانينيات القرن العشرين. وبمناسبة توزيع كتابه في المانيا ، اجرت معه الصحفية الالمانية كارلين فيسبيرز حوارا مطولا حول مشاكل المناخ ودور الاحتكارات ومستقبل الرأسمالية نشر في جريدة "المانيا الجديدة" في 17 نيسان 2019. في ما يلي خلاصات لاهم ما تضمنه الحوار

جمعة المستقبل

منذ عدة اشهر يشارك الملايين من تلاميذ العالم في اضرابات مستمرة تعرفت بـ"جمعة في سبيل المستقبل" للمطالبة بدرء الكارثة المناخية التي تواجه العالم. وفي بداية الحوار يشير زيغلر الى انه لشيء رائع ان يخرج ملايين من الشبيبة مندفعين بتلقائية ووعي ذاتي الى الشوارع، دون مطالبات من الاحزاب والنقابات. إنهم يأخذون مصيرهم  بايديهم)  ،  لأن حكوماتهم لاتحرك ساكنا ، ولا تفعل شيئًا ضد الجرائم بحق الطبيعة والبيئة ، التي تدمر كوكبنا. وعبر زيغلر عن سعادته وفخره بـ"هؤلاء الأطفال الشجعان". ان العالم يشهد موجة من الاحتجاجات لا تصدق وغير مسبوقة ، من دون لوبي سياسي وبدون تعبئة مقصودة. شيء جديد تماما في طور التكوين. ومن الرائع أن يتم ترشيح، احدى المبادرات لاطلاق الحركة الاحتجاجية ، الفتاة السويدية غريتا ثونبرغ ، لنيل جائزة نوبل للسلام.

اجابات اسئلة ملحة

ان الحوار مع الشبيبة اكثر تأثيرا من المقالة الاجتماعية، ناهيك عن ان الأطفال يطرحون أسئلة نادراً ما تخطر على بال البالغين،فهم يشاهدون على شاشات التلفزيون الصور المروعة للحرب الأهلية والفقر في اليمن وجنوب السودان ، ويرون  نظراءهم الذين يرقدون في الغبار مثل الحيوانات الصغيرة ويموتون بشكل مؤلم. ويسألون: كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ ومن يتحمل المسؤولية؟

الجاني هو النظام العالمي الوحشي، الذي أنشأته الرأسمالية.ان النظام الرأسمالي كثير السموم ، يهدد الحياة والإنسان. ولذا يجب تدمير الرأسمالية قبل أن تدمر البشر والكرة الارضية. لقد استيقظ هذا الوعي في شبيبة اليوم. وينبغي أن يكون مثالاً للأجيال الأكبر سنا ، التي تستسلم وتتنازل بسرعة كبيرة ، وليس لديها مخيلة ولا تصور، وتتعامل مع النظام الوحشي على انه قائم، وليس هناك  بديل  له.

ومن السهل على الغالبية تصور نهاية العالم على ان يتصورو نهاية الراسمالية. ولكن الأطفالا لا يريدون هذا النظام العالمي الوحشي. إنهم يريدون العيش  على هذا الكوكب. ولن يكون ذلك ممكنًا إذا استمر جفاف التربة ، وارتفاع منسوب مياه البحار ، وذوبان الجليد، وتدمير التنوع البيولوجي.

ازمة المناخ والاضرار بالبيئة

تشير الاحصائيات المناخية ان العشرين سنة الاخيرة منذ نهاية القرن التاسع عشر ، الاشد حرارة في العالم،  . ولم  يحدث شيء ، على الرغم من مؤتمرات المناخ العالمية. لقد تضاعف إنتاج أكبر خمس شركات نفطية بنسبة 18 في المائة العام الفائت. والتزموا في الواقع باستثمار 30 في المائة من صافي دخلهم في الطاقة البديلة. لقد ضاعفوا ارباحهم، واستثمروا أقل من 5 في المائة في الطاقة الشمسية وطاقة الريح. وبلدان العالم عاجزة تماما. وليس هناك حكومة تجرؤ على إعطاء أوامر  لشركات شل وتكساكو وإيسو وبي بي وتوتال. والامر يسري على الشركات الاخرى.

وهناك 500 شركة عابرة للقارات ، تسيطر على 52.8 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي العالمي في العام الفائت. ان لدى هذه الشركات سلطة لا يملكها ملك أو إمبراطور أو بابا. ان القدرة الكلية للشركات  تقوم على السلطة المالية. إن أصول الموازنة العامة لشركة إكسون موبايل  النفطية أكبر من الناتج الإجمالي المحلي للنمسا ، وأصول شركة جنرال موتورز تتجاوز الناتج الإجمالي المحلي للدنمارك. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، وانتهاء  القطبية الثنائية في عام 1991 ، غزا الإنتاج الرأسمالي العالم مثل أخطبوط ، احاطه وخنقه. ووقع الجميع في الوهم الليبرالي الجديد بأن قوى غير المرئية في  "السوق الحر" تحدد مسار التاريخ وليس البشر.

وفي العديد من مدن العالم الكبرى ، لم يعد الهواء صالحا للتنفس ، لأنه مليء بالسموم التي تهاجم الجهاز التنفسي وتسبب السرطان ، والحالة في جنوب العالم اسوء          ( اسوأ) من الوضع في اوربا، كما هو الحال في نيودلهي. لقد تسمم ملايين  الناس بالمياه الجوفية ومياه الانهار الملوثة بواسطة اوغاد الاحتكارات. وكل يوم يتعامل ملايين العمال والمستخدمين مع مواد سامة  تضر صحتهم .

الاطعمة ملوثة بالمبيدات. في العام الفائت وحده ، رش المزارعون الفرنسيون حقولهم بـ 14 الف طن من المبيدات ، التي يتناولها البشر مع العنب والبطاطس والحليب. ومن أجل حماية العجول والدجاج والخنازير من الالتهابات والعدوى، وأنفسهم من الخراب المالي ، يقوم المزارعون بزرق الحيوانات بالمضادات الحيوية ، التي تدخل اجسلم البشر عبر استهلاك اللحوم.

ولسوء الحظ. أصبح الغليفوسات ، المبيد الشائع  والأكثر استخدامًا وعلى نطاق واسع على الرغم من احتجاجات المواطنين، وتقوم بتسويقه شركة مونسانتو ، وتقوم بالتسويق الان ايضا الشركة الام ( باير الالمانية). ومنذ عامين وقع مليون اوربي على عريضة تطالب يحظره الفوري. ومع ذلك ، وافق الاتحاد الأوروبي على توزيع واستخدام الغليفوسات لمدة 5 سنوات أخرى. لأن صناعة  الكيماويات الزراعية أرادت ذلك. ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأوربية ، يتناول سكان البلدان الصناعية قرابة 5 لترات من المبيدات سنويًا. وهناك العديد من الأمثلة.

 تدمير الغابات الاستوائية

و على الرغم من مقاومة السكان الاصليين (الهنود الحمر) يتم قطع قطع او حرق اشجار الغابات.لأن شركات الصناعات الزراعية الضخمة تبحث باستمرار، وعلى نطاق واسع، عن أرض جديدة لمزارعها أو مراعيها لتربية الماشية.و في غواتيمالا ، تمتد المزارع على مد البصر في التربة السوداء الخصبة على طول ساحل المحيط الهادئ، لزراعة  الموز والطماطه والبطيخ والأناناس والأفوكادو والكيوي لسكان جزر الرخاء الغربي. ومالكي هذه المزارع هم شركات عابره للقارات مثل United Fruit, Del Monte Foods, Unilever, Gerneral Food وغيرها. ويتم ترحيل احفاد شعوب "المايا" إلى الهضاب الصخرية العالية ، حيث يعتاشون على  القليل من سيقان الذرة والخنازير نصف الجائعة دون أي لحم خنزير مقدد.

وخلال 50 عامًا ، تم قطع 18 في المائة من الغابات الإفريقية و 30 في المائة من الغابات الآسيوية و 18 بالمائة من غابات أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي. ويعيش التنوع البيولوجي انخفاضًا خطيرا جدا ، حيث تختفي  أنواع  من  النباتات  والحيوانات  بشكل لا رجعة فيه، و تم  في سنوات 1995 – 2015 القضاء  يومًا بعد آخر ، على أكثر من 50 الف نوع.

حقوق الانسان واستخراج الخامات الثمينة

وفي كيفوم ، وهي منطقة شاعرية عند سفح جبل بركاني في شرق الكونغو ، حيث مناجم الكولتان ، التي تحرسها الميليشيات المدججة بالسلاح ،  والمادة تدخل في صناعة هياكل الطائرات، والمكونات الداخلية للهواتف الخلوية. ان80 في المائة من احتياطات هذا الخام في العالم في هذه المنطقة. ومن الصعب الوصول إلى تربة وجود الخام ، حيث تقع على عمق 10 -20 قدمًا تحت الأرض. وعادة ما تكون الانفاق ضيقة للغاية بحيث  لا يمكن سوى إنزال الأطفال النحيفين جدا. وخطر  الانهيارات الكامنة دائم هناك.  وعمليا يتم دفن الأطفال وهم أحياء ، او يختنقون ببؤس. ان  سلطة دولة الكونغو مفقودة هناك، والمنطقة تحت سيطرة شركات المناجم الغربية الجشعة.

وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي باراك أوبما ، كان قد اصدر في نهاية ولايته الثانية ، قانونًا يحظر  على الاسواق الامريكية تجارة المعادن المستخرجة في ظروف عمل غير إنسانية، وكذلك المعادن المستخرجة في مواقع الصراع . لكن عمالقة التعدين الأقوياء قوضوا القانون. ، وقامت مجموعة  شركات غلينكور بتسجيل تعاملاتها  في سويسرا.  وحال دخول دونالد ترامب البيت الأبيض ، تم الغاء القانون.

ومن المعروف ان الاحتكارات  غير مهتمة بحقوق الإنسان عموما، ناهيك عن حمايتها في بلدان  جنوب العالم. في عام 2018 ، كان الحد الأدنى القانوني للأجور في بنغلاديش ، وهي ملعب الشركات الغربية الراغبة بارخص تكاليف الإنتاج ، بعيدا عن سلامة العاملين وعدد ساعات العمل اليومي. لا يتجاوز الحد الأدنى للاجور هناك  51 يورو شهريًا، و وفقا لاتحاد العمال الآسيوي ،يحتاج استمرار عائلة مكونة من 4 افراد على الأقل الى 272 يورو  شهريا.

المطلوب انهاء الراسمالية

على عكس بعض اليساريين يدعو زيغلر لتدمير الراسمالية ويصفها بالنظام الوحشي، انطلاقا من قناعته بعدم امكانية ترويض الرأسمالية وكبحها او احتواءها، وبالنسبة له ليس هناك رأسمالية تنويرية.والراسمالية ستختفي ويجب ان تختفي، كما كان الحال بالنسبة لمجتمع العبودية والاقطاعية، كلا النظامين بنيا على الاستبداد واستغلال البشر، وما كان بالامكان اصلاحهما، لهذا تمت الاطاحة بهما او الغاؤهما .

 لقد اطاحت الثورة الفرنسية بالنظام القديم، واعلنت حقوق الانسان وسيادة الشعب والجمهورية. ومهدت الطريق للراسمالية العالمية، والتي ستلاقي نفس  مصير الحكم المطلق. سوف يتم تدميرها، وسينشأ على انقاضها عالم جديد.كيف سيبدو؟ هذا هو سر الإنسانية المحررة.

ومن الضروري التأكيد على ان لا احد يعلم متى ستصبح الراسمالية من مخلفات التاريخ، لكن ذلك سيحدث.لان ذلك حدث مرارا وتكرارا، على الرغم من كل النكسات. لقد تحدث كارل ماركس عن "خلد" (حيوان الخلد - المحرر) التاريخ. وهناك العديد من الحركات الاجتماعية ، المناهضة للرأسمالية ، بيئية ، كبيرة وصغيرة ، محلية وعالمية ، وهناك مسيرات السلام  ومسيرات مقاومة الجوع. وملايين من البشر يقتحمون الصعاب، وهم في ازدياد، ولكل عمل  فردي اهميته، بما في ذلك اطفال "جمعة في سبيل المستقبل". وختم زيغلر حواره بالقول:"انا متفائل وسألقي بوجه  عصابات الراسمالية  العالمية المجرمة بفرح المتفائل كلمات الشاعر التيشيلي بابلو نيرودا: "بامكانكم قطع الازهار، ولكنكم لن تستطيعوا هزيمة الربيع".

* نشرت لاول مرة في العدد 25 من مجلة الشرارة التي تصدرها اللجنة المجلية للحزب الشيوعي العراقي في النجف

*- جان زبغلر: Jean Ziegler

سياسي وعالم اجتماع يساري سويسري ولد في 19نيسان 1934  . ومن اشهر منتقدي الراسمالية والعولمة استاذ علم اجتماع فخري في جامعة جنيف عضو سابق في البرلمان السويسري. ومقرر خاص للأمم المتحدة في مجال حق الحصول على الغذاء، عضو لجنة ومجلس حقوق الانسان في الامم المتحدة  وعضو في المجلس الاستشاري لمنظمة مكافحة الجريمة التجارية وحقوق الإنسان.  وعمل عضوا  في مجموعة عمل المساعدة الإنسانية في العراق.

عرض مقالات: