ولكنني أنطلق دائماً من أن الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، كفانا مديحاً لأنفسنا، كفانا أن نقول : نحن خير أمة، وكفانا أن نقول : نحن أطهر أمة (1)

من التنوير الى الظلامية

شهد العصر العباسي أو الخلافة العباسية ( 750 م – 1514 م ) نهضة حضارية عظيمة وحركة فكرية رائدة في شتى الميادين ، يعود سببه الى الإنفتاح الواسع للشعوب والمجتمعات الأخرى وإحتكاكها المباشر معها ، فتلاقحت الثقافات التي أتاحت للمسلمين التعرف على منهج علمى جديد يعتمد على الفكر ثم التجربة . فقد إنفتح  العرب والمسلمون على مدارس الفكر اليونانى والفلسفة الصينية والهندية والأمم الأخرى. وتم تعريب المصادر اليونانية ، وقامت عليها حركة علمية حقيقية احترفت التدوين وركزت على الفلسفة بمفهومها العام في ذلك الوقت ، اى الفلسفة العقلية والطب والعلوم الطبيعية وماوراء الطبيعة مع علوم الشرع. وانتجت هذه الحركة العلمية علماء تفخر بهم الحضارة الاسلامية، نذكر منهم : جابر بن حيان ، يعقوب بن إسحاق الكندي ، أبو نصر الفارابي ، حُنَين بن إسحاق العبادي ، البيروني ، أبن سينا ، الحسن أبن الهيثم ، الخوارزمي ، الرازي ، أبن رشد وأبن النفيس وغيرهم الكثير . وتُعتَبر الحقبة العباسية الطويلة هي عصر التنوير والعمل والإبداع ، والإعتماد على العقل والتجربة ، خصوصا فى مجالات الطب والعلوم الطبيعية . حتى فقهاء الدين وقت ذاك نجحوا بإزاحة الغشاوة التي خيمت عليهم أيام الخلافة الأموية ، وأتيحت لهم مساحة واسعة من التفكير والإبداع ، فظهرت الإجتهادات الفقهية المختلفة التي على إثرها ظهرت المذاهب في الإسلام .

والخلافة العباسية لا تعتبر أمتداداً للخلافة الأموية فقد أختلفت عنها في كثير من الأمور ، أهمها : أن الأمويين إعتمدوا في حكمهم على العصبية العربية والفكر القبلي ، في حين أن العباسيين قاموا على مبدأ المساواة بين العرب وغير العرب ، فنجد الموالي صاروا يتولون المناصب الكبيرة في الدولة على قدم المساواة مع العرب . كما أن الأمويين إنشغلوا بالفتوحات لتوسيع رقعة خلافتهم ، بينما إنشغل العباسيون وتفرغوا للدراسات والعلوم والمعارف بصورة كبيرة ،ولقي العلماء تشجيعاً كبيراً من الخلفاء ، وبنوا لهم المدارس ودور العلوم والترجمة منها ، دار الحكمة والمدرسة المستنصرية .   

إذا كيف ولماذا تأخر المسلمون الذين كانوا في المقدمة ، وتقدم عليهم من كان في المؤخرة ؟

بدأ المسلمون بالشعور بالتخلف أواخر الفترة العباسية ، هي نهاية الإستقرار وبداية الإنحطاط الذي إستفحل خلال حكم الأتراك العثماني . فالحقبة العثمانية طورت قيم التخلف الإقتصادي والفكري والقانوني والديني بالموروث البدوي الإسيوي ، لتمتد هذه العتمة الى يومنا هذا بسبب أنظمة الحكم الإستبدادية التي توالت بعد الخلافة العثمانية، ودخول بلدان العالم الإسلامي عصر الاستعمار, ثم الدولة ذات الطابع الشمولي ودكتاتورياتها التي إعتمدت على وعاظ الدين لقمع شعوبها وإذلالهم بالمقدّس. ولم يتوقف الإحساس بالتخلف عند هذا الحد ، بل شمل جميع مناحي الحياة، وعلى وجه الخصوص، الاقتصادية و السياسية و العسكرية، لكنه أخذ شكلاً غير عادي عندما أخذ فيه شعور مزمن بالنقص يتركز في الجانب التكنولوجي والعلمي ، ولقد كان لهذا التركز آثاراً جمة مازال المسلمون تحت وقعها حتى هذه الساعة.

وسيستشيط غضباً الإسلاميون والمتأسلمون الجدد عندما نواجههم بحقيقة حال المسلمين الذين طُوِقوا وأُسِروا بكماشة من التخلف الذي امتد لعدة مئات من السنين ، كانت أشدها ظلامية وعتمة هي فترة الخلافة العثمانية التي إعتمدت على خلط العلوم الطبيعية بالفكر الديني ، وهيأت لهذا الشأن فقهاء وقضاة وأئمة للإفتاء مهمتهم رصد الفلاسفة وعلماء الطبيعة والمبدعين ، ومحاصرتهم كي لا يبتعدوا بعقولهم أبعد من عقل الفقهاء  والمشرعين الذين كانوا " يحشون العقول بالروايات المنقولة من فلان عن فلان عن النبي محمد " (2) أو عن هذا الإمام أو ذاك ، ويغلفوها بغلاف المقدس الذي بدوره يلغى العقل . فالعلوم الطبيعية لا قيمة لها أمام العلوم الشرعية ، ولهذا تُعَد المجتمعات الإسلامية من أكثر المجتمعات تخلفاً و فقراً على صعيد التكنولوجيا، إنها الحقيقة التي يجب أن يعترف بها الجميع ، فما زالت الفجوة التكنولوجية والعلمية بيننا و بين الغرب والدول المتقدمة الأخرى في اتساع مرعب ومستمر. 

 فالمسلمون وخاصة العرب منهم ، عندما إستيقظوا على أصوات مدافع الغرب في بداية القرن العشرين ، وجدوا أنفسهم متأخرين عنهم اربعمائة عام . ولكن قبل أن يستعدوا للنهوض من جديد بعد إن تخلصوا من العتمة الثعمانية ، جاءتهم ضربة قوية على الرأس من الإستعمار البريطاني الجديد الذي أعتمد على تكريس الجهل ولو بشكله الأخف من الفترة العثمانية ، إلاّ إنه كان ومازال من أهم أسباب تخلف المسلمين اليوم ، لأن البريطانيين اعتمدوا على أنظمة تجيد إنتاج التخلف باعتمادها على الدين .

من المعروف أن العالم الإسلامي الذي يتكون من أربع وخمسين دولة ، من ضمنها أثنين وعشرين دولة عربية ، غالبيتها أنظمة دكتاتورية إستبدادية ، وبما أن الإستبداد ينتج التخلف ، فلابد لشعوب هذه الدول أن تعيش تحت وطأة الجهل واللاعقل - لا رغبة منها وإنما فُرِض عليها ، عن طريق برامج ومشاريع تقوم بها هذه الأنظمة لإعادة إنتاج التخلف وإستمراريته وحمايته . " أن المسلمين مازالوا فى تأخرهم بعد عدة «صحوات إسلامية» زعموا أنهم بدأوها فى نهاية الخمسينات من القرن العشرين، ومازالت مستمرة لأكثر من ستين سنة، عادوا بها إلى السلف الصالح، والتربية الدينية والنقاب والحجاب واللحية والجلباب والجهاد وهجرة المفاسد العصرية " (3) ويكاد الكلام فى الدين والفقه والشريعة يغلب كل ماعداه من كلام،، بل إن دعاة هذه الصحوة صاروا أصحاب سلطة شرعية، أو سطوة مفروضة بالسلاح على عدد من الدول الإسلامية ،وقد تميّزوا هؤلاء الدعاة الإسلامويين عن غيرهم بفساد السلطة ودمويتها . فـ ( الصحوات الإسلامية ) أصبحت هي العائق لنهضة وتقدم العالم الإسلامي ، لأنها فرضت على المجتمعات الإسلامية أن تعيش طيلة حياتها في بيئة منغلقة تظل خاضعة لقوانين ما يسمى بـ ( إجماع الأمة ) وهذه القوانين تضع تفكير الإنسان المسلم في قوالب معينة يصعب الخروج منها .

ففي العالم الإسلامي توجد جيوش من التتر سُمِح لها أن ترفع رايات الجهل لتجعل من العقل سلاحاً محرّمْ إستخدامه ، وهذه الجيوش تتكون من فقهاء الدين وتلامذتهم الذين تستخدمهم الإنظمة الإستبدادية كعصي غليظة تضرب بها شعوبها التي تحاول التحرر من إستبدادها ومن سطوت الدين الإسلامبدوي الذي " يريد أن يطفئ كل مصابيح الإستنارة ، أو الفكر ، أو ألتفكير ، أو إعمال العقل " (3)

الهوامش :

1 -  سبب انحطاط المسلمين وتخلفهم .... المفكر الإسلامي د. شكيب أرسلان

2 – سبب واحد لتخلف المسلمين  ... علي ابو جواد – منشورات العهد

3 – الإرهاب والفتنة الطائفية  ..... الدكتور رفعت السعيد

عرض مقالات: