مرت قبل أيام من الشهر الجاري الذكرى الستون على إقامة أول تجربة وحدوية عربية في التاريخ العربي الحديث ، ألا هي الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا في دولة واحدة تحت إسم "الجمهورية العربية المتحدة " ، في 22 شباط من عام 1958 ، وبالرغم من الخطوات والاجراءات التحضيرية السريعة الارتجالية التي اُتخذت لإقامة هذه الوحدة والتي سرعان ما أفضت الى انهيارها السريع خلال ثلاث سنوات ونيف فقط ، إلا انها ، وإن لم تكتمل شروط نضجها الموضوعية ، تعكس أحلاماً وآمالاً عربية قومية فعلية صادقة بزغت بوادرها الجنينية بدءاً من بواكير الوعي الوعي القومي الجنينية اواسط القرن التاسع عشر للتحرر من الهيمنة التركية العثمانية ومروراً بالثورة العربية الكبرى في أوائل الحرب العالمية الاولى ، ثم ردود الفعل الفلسطينية والعربية على وعد بلفور 1917 ، حتى بلوغ هذا الوعي أوج تطوره بعد نكبة الفلسطينية عام 1948 وقيام الحركات والاحزاب القومية المنضوية في نفس الوقت في مهام واهداف التحرر الوطني القُطري من السيطرة الاستعمارية .
وإذ ينظر الباحث او المحلل المتسلح بقدر من المنهجية العلمية في تحليله الى هذه الذكرى هذا اليوم يجد نفسه وقد تنازعته مشاعر مزدوجة متضاربة هي خليط من الفرح والأسى في آن واحد ؛ فأما مشاعر الفرح فلكونها اول تجربة وحدوية في تاريخ العرب الحديث فرح لها العرب من المحيط إلى الخليج تحت تأثير عواطفهم الجامحة ، وإما مشاعر الأسى فلأن هذه الذكرى تُذكرنا بما شهدته خلال فترة التحضيرات النهائية لها من صراع دامٍ بين تيارين وطنيين كبيرين ألا هما التيار القومي بمختلف فروعه وتنظيماته السياسية والتيار الشيوعي في سوريا والعراق ومصر وكانت الغلبة للتيار القومي من خلال حملات الاعتقال والتعذيب والتصفيات الجسدية في البلدان الآنفة الذكر تحت مزاعم بأنهم أعداء للوحدة العربية وللدولة الاتحادية الجديدة بين مصر وسوريا ، ولوحافظ على حد أدنى من وحدتهما الى يومنا هذا لما بلغا الضعف الذي هما عليه اليوم ، حتى أضحى التيار القومي أشد ضعفاً من التيار الشيوعي .
وهكذا فقد كانت كانت أكبر فرية ظل يروّجها بقوة القوميون بمختلف تياراتهم وأحزابهم أن الشيوعيين في الاقطار العربية " شعوبيون " وأفكارهم " المستوردة " تقوم على نبذ ومهاجمة القومية العربية والعروبة والوحدة العربية ، وارتفعت نبرة هذه التخرصات بصفة خاصة مع تعاظم القومي بعد نكبة 1948 وتأسيس احزاب قومية حتى بلغت ذروتها أثناء التحضيرات الأخيرة لمغامرة الوحدة الاندماجية المصرية - السورية في عام 1958 ، واستمر ترديدها حتى طوال اعتقال آلاف الشيوعيين عقاباً لهم على تحفظاتهم الصريحة على الطريقة والاسلوب الفوريين اللذين تمت بهما الوحدة الأندماجية وسقوط عدد من أبرز قياداتهم تحت التعذيب في غياهب المعتقلات في كلا القطرين المتحدين ؛ وتم تضليل ملايين الجماهير والنخب السياسية والثقافية العربية بهذه الأكذوبة الملفقة ؛ ولم تكن المعركة السياسية الفكرية بطبيعة الحال بين القوميين من جهة والشيوعيين من جهة اخرى متكافئة ، ففي الوقت الذي لا يمتلك فيه الشيوعيون للرد على تلك الافتراءات سوى سلاح الكلمة من خلال إعلامهما المتواضع والمتمثل في منشورات وصحافة سرية محدودة لتنظيماتهم يتركز توزيعها بين محازبيهم وانصارهم وقواعدهم الجماهيرية ، واشكال من الاعلام العلني الضيّق في سوريا ولبنان تم العصف بها لاحقاً إثر قمع الشيوعيين بقيام الوحدة ، فإن الانظمة القومية ، وبخاصة الناصري في مصر ، كانت تمتلك تحت أيديها امبراطوريات إعلامية جبّارة من وسائل الاتصال الجماهيرية المؤثرة، كالاذعات ومحطات التلفزة ، ناهيك عن إصدارات الصحف اليومية والمجلات والكتب والتي تم تشغيل ماكينتها في اوركسترا موحدة للهجوم بقوة على الشيوعيين وتشويه مواقفهم وأفكارهم الحقيقية من قضايا القومية والحدة والعروبة دون ذكر آرائهم الحقيقية ، مما ساهم الى حد كبير في عزلهم عن أقسام واسعة ليس في بلدنهم فقط بل وفي كل البلدان العربية المضلله والمتأثرة بالإعلام المصري ، وكانت من عوامل تراجع قوتهم بعدئذ إلى وقتنا الراهن وهو العامل الذي قلما تطرق له الباحثون اليساريون الذين تناولوا اسباب ضعف اليسار العربي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي .
وفي بداية الأمر تولى النظام الناصري هذه الحملات المسعورة الظالمة ضد الشيوعيين خلال سني ما قبل الوحدة وأثنائها وفي أعقاب فشلها بل و إلى ما بعد نكسة 1967 وإن بصورة أخف ، ووظّف في هذا الصدد كل الاذاعات المصرية ، ولاسيما " صوت العرب " ولعب مذيعها الأشهر أحمد سعيد دوراً قذراً في هذا الشأن ، وكانت " صوت العرب " حينذاك تتمتع بشعبية واسعة النطاق لدى المستمعين العرب في فترة المد القومي وذلك بفضل الرصيد الشعبي الذي اكتسبه عبد الناصر في وطنه وفي العالم العربي ، لا سيما منذ فشل العدوان الثلاثي 1956 ، لاسيما وأن وسائل الإعلام المصرية - كما هو معروف - في تلك المرحلة التاريخية هي الاكثر انتشاراً ، وبضمنها الصحف اليومية وعلى رأسها الأهرام والمجلات الاسبوعية ، وكلها بلا استثناء وُظفت طوال سنوات في الحملات المسعورة على الشيوعيين ولتشوية مواقفهم . ثم انضم الى النظام الناصري في هذا الصدد نظامان بعثيان بعد وصولهما الى السلطة عبرالانقلابات العسكرية في بلديهما : العراقي خلال حكمه الاول في عام 1963 ، ثم خلال حكمه الثاني ( 1968 - 2003 ) ، والنظام السوري منذ عام 1963 والذي استمر حتى الآن أكثر من نصف قرن وحيث مازال يصارع البقاء في وقتنا الراهن ، وإن كانت تخبو حملات هذه الانظمة ضد الشيوعيين احياناً تبعاً لظروف التحالفات التكتيكية الآنية التي تحتاج إليها تلك الانظمة بين الحين والآخر مع شيوعيي بلدانهم كل على حدة ؛ لكن في الغالب الأعم فإن الحملات الإعلامية الديماغوجية على الشيوعيين ظلت هي النهج المعتمد السائد الدائم والتحالف مع الشيوعيين هو الاستثناء .
سأكتفي هنا بالإشارة إلى ثلاثة نماذج فقط من ذلك التثقيف المعرفي والاعلامي التشويهي الديماغوجي المغرض ضد الشيوعيين :
الأول : وقد ورد في مجلة " العربي " الكويتية والمعروف بأنها من أكثر المجلات الشهرية العربية جاذبيةً بصورها الملونة على ورق مصقول النادر في ذلك الزمان وبموضوعاتها العربية المتنوعة ، وكانت تحظى بإنتشار واسع في كل البلدان العربية قاطبة . فمع انها ، كما يُفترض ، مجلة ثقافية رصينة بعيدة عن الخوض في الموضوعات السياسية المباشرة أو المؤدلجة ، إلا ان ذلك لم يمنعها ، في ظل إدارة تحريرها المصرية ، من الاساءة الى الشيوعيين حتى في أهم مادة من موادها التي تميزت بها في تلك الفترة ألا هي الاستطلاعات الشهرية المعززة بالصور الجميلة الملونة عن مدينة من المدن العربية ؛ ففي عدد نيسان / أبريل 1963 والذي خصصته المجلة عن مدينة كركوك العراقية ، كتب محرر الاستطلاع : " عكرت زمرة من الشيوعيين الشقاة الفوضويين ، صفو وأمن هذه المدينة في هذه السنوات الأخيرة . وقد كشرت هذه الزمرة عن أنيابها ، وشحذت سكاكينها ، وانطلق زبانيتها ، كالوحوش الضارية ، يفترسون الناس في الشوارع والطرقات والبيوت " . ( العربي نيسان / أبريل 1963 ، الكويت ص 50 ) . وعلى النقيض من ذلك تماماً الكل يعلم في وقت صدور العدد إن جُل الشيوعيين في مصر وسوريا والعراق في المعتقلات تحت دعوى جريمة وقوفهم ضد الوحدة وكانوا تحت فكي الوحوش الاستخبارية الضارية في الاقطار الثلاثة فعُذّب من عُذّب وسقط من سقط منهم شهداءً تحت التعذيب ، بل ان المرء حينما يمعن اليوم في الكيفية الوحشية التي تم بها تعذيب قائدين شيوعيين حتى الموت هما اللبناني فرج الله الحلو والعراقي سلام عادل ، يقشعر بدني حقيقة لاستحضار وصفه ، ليعجب عما إذا كانت تلك آلة الوحوش الاستخبارية القومية الضارية تختلف في مدى وحشيتها و بشاعتها عن ممارسات " داعش " في زماننا ، التي يتحدث عنها بذهول واستغراب شديدين كل العالم ، في حين ان ما جرى للشيوعيين تم في ظل تعتيم إعلامي عربي شامل وفي ظل عدم وجود منظمات لحقوق الانسان في العالم اللهم " العفو الدولية " الحديثة النشأة حينئذ والتي لم تخلُ وقتذاك أيضاً من تأثيرات توظيفها في الحرب النفسية التي تشنها الدول الرأسمالية الكبرى ضد الاتحاد السوفييتي والشيوعية في العالم .
الثاني : ويتمثل في " القاموس السياسي " المصري للاستاذ أحمد عطية الله ، وعدد صفحاته زهاء 1500 صفحة ، وهو واحد من أقدم وأشهر القواميس والموسوعات السياسية العربية في ستينيات القرن الماضي إن لم تكن أقدمها ، فبالرغم مما يُفترض علمياً في الموسوعات السياسية تحليها بحد أدنى - على الأقل - من الحياد والموضوعية ، إلا أن المؤلف لم يتورع عن أن يفرد في موسوعته مادة تحت عنوان " ثورة 14 رمضان " ويقصد بها الانقلاب الدموي الأسود المشئوم الذي نفذه البعثيون وبعض الضباط القوميين على نظام قائد ثورة 14 تموز 1958 العراقية عبد الكريم قاسم في صبيحة يوم 8 شباط 14 رمضان من عام 1963 ، والذي تم إعدامه في مبنى الإذاعة ، وطاولت حملات القمع والسجن آلاف الشيوعيين والديمقراطيين والابرياء على الشُبهة ، بما في ذلك التصفيات الجسدية تحت التعذيب في المعتقلات والمكاتب الامنية والعسكرية وأوكار التحقيق المتعددة الأمكنة لعدم استيعاب أقسام ومراكز الأمن والجيش أعدادهم ، وهو الانقلاب المدعوم للأسف من الزعيم الوطني والقومي عبد الناصر إعلامياً ومالياً وتسليحياً ( رشاشات بور سعيد التي كانت بأيدي الحرس القومي الذين مارسوا القتل وأبشع ضروب التنكيل والتعذيب بالمناضلين الشيوعيين ) . وتناولت المادة الانقلاب بالتمجيد كثورة وطنية شعبية ، مُشيدةً بإعدام قاسم ، وكالت الاتهامات والاساءة والتشويهات لحكمه الوطني دون ذكر على الأقل ماله وما عليه كقائد ثورة وطنية لا تقل في صدق وطنيتها وأهميتها عن ثورة 23 تموز / يوليو المصرية بقيادة عبد الناصر نفسه ، ولم تكن أخطاؤه حتى ذلك الوقت على الأقل بأقل من أخطاء عبد الناصر إن لم يفُق هذا الأخير في حجمها عليه ، وهذه مجرد مادة واحدة مما وقع بصرنا عليها ؛ وبالتأكيد ثمة مواد اخرى عديدة بين دفتي القاموس لم يقع نظرنا عليها ، ولك أن تتخيّل كم من عشرات الالوف العرب ممن اطلعوا على هذه المادة قد تم تضليلهم بمثل هذا الهراء المؤدلج البعيد عن صحة الوقائع الفعلية حتى بمنظور أي جهة محايدة تتمتع بحد أدنى من النزاهة والصدق ، وضُللت معلوماته عن حقيقة مواقف الشيوعيين من الوحدة والقضايا القومية . ( أحمد عطية الله ، القاموس السياسي ، دار النهضة العربية ، الطبعة الثالثة ، 1968 ، القاهرة ، ص 357 ) .
الثالث : ويتمثل أيضاً في موسوعة اخرى ألا هي " موسوعة السياسة " وهي موسوعة حديثة نسبياً وواسعة الانتشار أيضاً ألا هي " موسوعة السياسة " وقد صدرت طبعتها الأولى في أوائل ثمانينيات القرن الماضي ورئيس تحريرها الدكتور عبد الوهاب الكيالي بمشاركة عدد آخر من الباحثين العرب، وتتكون من سبعة اجزاء كل جزء يقارب الألف صفحة . ففي مادة " سوريا " وبعد ان يستعرض مُعد المادة تطور تاريخها الحديث عن تطور سوريا التاريخي الححديث إلى أواخر الخمسينيات وقيام وحدتها مع مصر ، يوجه الاتهامات إلى الشيوعيين السوريين بمعارضة الوحدة وينحو باللائمة عليهم لوضعهم المصاعب والمعوقات في مسيرتها ، ثم يستطرد تحت عنوان فرعي " الانفصال وعودة البعث " بتمجيد انقلاب 8 آذار 1963 البعثي في سوريا ؛ هذا بخلاف المغالطات السياسية الاخرى التي يوردها محرر هذه المادة . ومن نافلة القول : ما ينطبق من تأثير سياسي لهذه المادة المُضلله لمواقف وسياسات الشيوعيين وغيرها من المواد التي وردت في " القاموس السياسي " المصري الآنفة الذكر على عقول عشرات الالوف من قرائها العرب لينطبق أيضاً على هذه الموسوعة أيضاً ( عبد الوهاب الكيالي ، موسوعة السياسة ، مادة "سوريا " ، الجزء الثالث ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، ص 299 ) .
ولعل من سخريات التاريخ ، او على حد تعبير المثل العربي المشهور " شر البلية ما يُضحك " أن اكثر نظامين ظل يتشدقان بسعيهما المحموم بل قُل المهووس بتحقيق الوحدة العربية ، ألا هما النظامان الشموليان في سوريا والعراق ، واللذان يحكمهما حزب واحد بجناحين متصارعين لم يعجزا عن الشروع في هدفهم لإقامة وحدة عربية شاملة ولو بخطوة ملموسة بتوحيد بلديهما فحسب ، بل وانتهى المطاف بهما بتعريض وطنيهما الى مخاطر تفتيت الدولة القطرية ، ناهيك عن تمزيق نسيج شعبيهما الاجتماعي الوطني ذي التعددية القومية والدينية والطائفية والعرقية على نحو ما تابعنا فصوله في أعقاب نجاح الغزو الامريكي في إسقاط نظام صدّام حسين في ربيع 2003 ، وعلى نحو مازلنا نتابع مسلسله من كوارث دامية في سوريا جراء الحروب والتدخلات الأجنبية لجيوش نظامية وجماعات مسلحة وهي مستمرة منذ سبع سنوات حتى بات نظامها لا يسيطر حالياً الا على نصف مساحة سوريا الفعلية ويصارع السقوط الفعلي آجلاً أم في المستقبل القريب .
حقيقة موقف الشيوعيين من الوحدة :
لكن ما هي حقيقة مواقف الشيوعيين في مصر والعراق وسوريا من الوحدة العربية ؟ ومن مسألة القومية العربية ؟ هل كانوا بالفعل ضد فكرة وهدف قيام وحدة عربية ؟ وهل كانوا ينكرون وجود مشاعر قومية مشتركة بين العرب أو يمقتون فكرة القومية العربية برمتها ؟
لعل من حسن حظ الشيوعيين في تلك الاقطار الثلاثة ورغم ما تعرضت له وثائقهم وأدبياتهم من مصادرة وحرق واتلاف متعمد على أيدي أجهزة الاستخبارات على تعاقب الانظمة والعهود ، فان أي باحث موضوعي متجرد من الهوى السياسي يبحث عن حقيقة مواقفهم الفعلية في هذه القضايا كما هي ، لا كما صوّرها ولفقها كذبا وبهتاناً أعداؤهم سيجد حتماً كماً لا بأس به من الوثائق والمقالات والدراسات التي تؤكد أنهم لم يكونوا لا ضد الوحدة العربية مبدئياً ولا ضد الوحدة المصرية السورية لو اُقيمت بحدود دنيا من الواقعية والاسلوب الديمقراطي ، ولم يقفوا على النقيض من آمال العرب وآمالهم في تحقيقها أو متجردين من أي مشاعر قومية أو ينكرون حقيقة وجودها الموضوعي ، وإنما كانت لهم نظرة واقعية لكيفية تحقيق تلك الوحدة استناداً إلى الظروف الملموسة في كل قطر عربي ودرجة تطوره السياسي والاجتماعي وطبيعة تباين البنى الاجتماعية والطبقية في كل بلد عربي على حدة ، ومن ثم حاجة كل ذلك الى عمل دؤوب لتنضيج وتلمس الشروط الموضوعية والذاتية المناسبة زمانياً لتحقيق ذلك وفق صيغة مناسبة من الاتحاد لكنها بالقطع ليست كالصيغة الاندماجية الفورية التي تمت ، بين مصر و سوريا ، والتي انتهت سريعاً كما ذكرنا بالفشل الذريع . وعلى العكس من ذلك فقد سبقت تنظيمات الشيوعيين في الاقطار الثلاثة الاحزاب القومية نفسها في الولادة في كل منها ( مصر وسوريا والعراق ) وفي الدعوة أيضاً الى تأسيس اتحاد يجمعها ويوحّد نضالاتها ضد الاستعمار والاحتلال الاجنبي الغربي والصهيونية ، سواء أكان ذلك خلال مرحلة نضالاتها ضد المستعمِر ، أم خلال ما بعد نيل استقلالاتها الوطنية . ولعل واحدة من أبرز الدراسات التحليلية الموضوعية التي تصدت الى تفنيد ما لفقته الاحزاب والانظمة القومية الحاكمة في هذه الاقطار من أكاذيب عن مواقف الشيوعيين من قضايا الوحدة والقومية وفلسطين والتي صدرت في السنوات الاخيرة الكتاب الذي أصدره المؤرخ الفلسطيني عبد القادر ياسين الموسوم " الحركة الشيوعية المصرية والوحدة العربية وفلسطين " مستنداً في تحليله التفنيدي إلى وثائق وبرامج التنظيمات الشيوعية في الدول الثلاث وعلى الأخص في مصر ، سواء قبل سنوات او عقود من قيام الوحدة المصرية السورية 1958 أو عشية قيامها أم في أعقاب إتمامها وانتهائها بالفشل . ( بلال رمضان ، دراسة تبرئ الشيوعية من موقفها من الوحدة العربية ، صحيفة اليوم السابع ، 8 أبريل / نيسان 2011 ، القاهرة ) وهناك بطبيعة الحال عشرات إن لم تكن مئات الدراسات والكتب حول هذا الموضوع تحديداً وُضعت من قِبل شيوعيين ويساريين وديمقراطيين وحتى قوميين يتحلون بالنزاهة والصدق والنقد الذاتي لا يتسع المقام هنا لاستعراض جانباً منها . ( فيما يتعلق بمواقف الشيوعيين العراقيين من الوحدة والقضايا القومية ، انظر على سبيل لا الحصر : كتاب د. كاظم حبيب ود. زهدي الداوودي ، فهد والحركة الوطنية في العراق ، الفصل الثامن بعنوان : فهد والقضايا العربية ، المبحث الأول بعنوان " فهد والقضية الفلسطينية " والمبحث الثاني بعنوان " القضية القومية والوحدة العربية " ، دار الكنوز العربية ، الطبعة الاولى 2003 ، بيروت ص 328 - ص 353 ) ، وانظر كذلك : كتابات الرفيق فهد .. من وثائق الحزب الشيوعي العراقي ، فصل تحت عنوان : الوحدة العربية والاتحاد العربي ، دار الفكر الجديد ، حزيران 1976 بغداد ص 325 - ص 354 ، وأنظر أيضاً دراستين للمفكر القيادي الشيوعي العراقي الراحل عامر عبد الله أعادت نشرهما مجلة الحزب " الثقافة الجديدة " : الاولى تحت عنوان " الشيوعيون والوحدة العربية " عدد آذار نيسان 2000 ، ص 26 ، والثانية تحت عنوان "
" الطريق التاريخي لوحدة الامة العربية " ، عدد 347 - 348 ، ص 111 .
ولعل الحزبين الشيوعيين اللبناني والسوري هما اكثر الاحزاب الشيوعية في الاقطار العربية في عدد دراساتهما ووثائقهما الصادرة عنهما والتي تؤكد إيمان الحزبين بالقومية العربية وسعيهما الى تحقيق الوحدة العربية ،لأسباب ليس هنا موضع تناولها ، ناهيك بالطبع عن مئات الدراسات التي صدرت لباحثيهما ومفكريهما في كتب او صحف ومجلات اسبوعية وشهرية ودورية وعلى الأخص القيادي السابق والباحث المعروف في الحزب الشيوعي اللبناني كريم مروة .
وقصارى القول ان أي باحث نزيه يتوخى الحقيقة الموضوعية ومتجرد من الهوى سيجد ان الشروط والسُبل الواقعية لإقامة اتحاد أو أي شكل من أشكال الوحدة بين الدول العربية التي أخذ ونادى بها الشيوعيون في العراق وسوريا ولبنان ومصر منذ العقود او السنوات الاولى من تأسيس أحزابهم في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي ومروراً بتجربة الوحدة المصرية - السورية مازالت بوجه عام صالحة حتى يومنا هذا، بل وتنطبق تماماً على ظروفنا وأوضاعنا العربية الراهنة أكثر من أي وقت مضى ، رغم المتغيرات السياسية والاجتماعية الهائلة التي جرت على مدى ما يقارب قرن من تأسيس أحزابهم .
وباختصار شديد ففي تقديرنا ان أول خطوة ينبغي خطوها على السكة الصحيحة والجادة نحو الوحدة العربية تبدأ من توافق التيارات الوطنية والديمقراطية بما فيها التيار القومي على دمقرطة الانظمة العربية وممارسة النقد الذاتي الشجاع لمسيراتها وتجاربها النضالية السابقة ، فخيار أي شكل من أشكال الوحدة أو الاتحاد لا يمكن أن يتم فوقياً على أيدي الأنظمة الدكتاتورية العربية والتي كانت تمارس شتى صنوف القمع أو التسلط على إرادة وحرية شعوبها وقواها الوطنية والديمقراطية ، أياً تكن هذه الانظمة جمهورية أو ملكية ومهما رفعت من شعارات وطتية برّاقة قومية أو إسلامية ، وبالتالي فإن النضال من أجل دمقرطة الانظمة القائمة او الثورة عليها ، اذا نضجت الظروف لخيار كهذا في أي بلد عربي ، هو وحده الذي يتيح اشراك الشعوب العربية في مثل مثل هذه القرارات المصيرية كقرار الوحدة ؛ ولن تكون الخطوة الثانية المفضية الى اقامة أي شكل من اشكالها إلا على طريقة "الاتحاد الاوروبي " كنموذج أبهر العرب في خطواتها الملموسة في توحيد الاوروبيين في حرية التنقل والعملة الموحدة والسوق الواحدة ... إلخ ، وبالتالي يمكن الاحتذاء بنموذجه مبدئياً مع مراعاة خصائص الدول العربية : ومن ثم يمكن أن يكون هذا الاحتذاء من خلال دمقرطة هياكل جامعة الدول العربية لتصبح منظمة عربية معبرة حقاً عن إرادة الشعوب العربية لا مُعبرة عن أنظمتهم المستبدة والمسخرة حالياً لمقتضيات صراعاتها وحروبها ويسيطر عليها المحور الاكثر قوةً ، وليكون لها أيضاً برلمان عربي مُنتخب من برلمانات الدول العربية المُنتخبة بدورها وذلك على غرار برلمان الاتحاد الاوروبي .
كما ومن الأهمية بمكان تطوير اُطر ومشاريع السوق العربية المشتركة والتكامل الاقتصادي ، فلا بد أن تطمئن الشعوب العربية ان لها مصلحة اقتصادية حقيقية في الوحدة التي لا يكفي أن تقوم أو ُتبنى على رومانسية الآمال والاحلام السياسية القومية ، فإذا ما نجحت الشعوب العربية وحكوماتها المُنتخبة في انجاز تلك المهام وبلوغ هذه المرحلة ، فإن المستقبل كفيل بالإجابة عن آفاق تطوير الاتحاد العربي الديمقراطي المنشود من خلال الجامعة العربية الى مستوى أو إطار اتحادي اكثر رُقياً واكثر لُحمةً . وعلى الرغم من كل ما يمر به العرب في وقتنا الراهن من ظروف بالغة السوء وشديدة التعقيد على نحو غير مسبوق منذ فجر تاريخهم ، من تمزقات وحروب اهلية داخلية واقليمية وتدخلات ومؤامرات من قِبل القوى العظمى الغربية بتحالف مع هذا الطرف العربي او ذاك ، وعلى رأسها الولايات المتحدة ، فإن العرب محكومون موضوعيا بالاتحاد فيما بينهم أياً تكن صيغته ، ولا مستقبل لهم ديمقراطياً إلا بالاتحاد على المستوى الوطني اولاً ثم على الصعيد القومي ثانياً وأخيراً ، وإن كان تحقيق هاتين الغايتين بحاجة إلى مراحل وأمد طويل من نضالات الشعوب العربية وقواها الديمقراطية من أجل نيل حقوقها وحرياتها السياسية والديمقراطية كبقية شعوب العالم ذات الأنظمة الديمقراطية المتحضرة .
* باحث سياسي بحريني