يؤشر الرفيق رائد فهمي سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، دلالةً سياسية راهنة، تقف وراء تغييب ذكرى ثورة 14 تموز، من قاموس الذاكرة الوطنية للعراق، فيما أشار يجد أن ثورة تموز ترسم خطوطا مرشدة لمهامنا في التغيير، إذ مهدت للشعب أن يتوحد سياسيا، والجيش أيضا، ومن ثم التحام الجماهير، وكل الأحداث لم تكن لتحصل لولا أن التناقضات وصلت لمرحلة معينة.
اختزال الثورة
وقال فهمي لـ»طريق الشعب»، إنّ «البعض يحاول اختزال 14 تموز الى عطلة رسمية من عدمها، والموضوع أكبر بكثير، وهذا يستبطن تقييما معينا لثورة تموز وموقفا منها وممّا جاءت به من إنجازات وتحولات. إذن، هذه دلالة سياسية راهنة وليست من الماضي، بل تعكس قراءة معينة للتاريخ، لكن بمنظار اليوم وتحدياته».
وأضاف، أن «ما حصل في 14 تموز هو ثورة بكل المقاييس للتعاريف العلمية. نعم، بدأت بانقلاب عسكري، لكن في نفس اليوم تحولت إلى حركة جماهيرية غير مسبوقة في تاريخ العراق. وقد تكون هناك بعض الممارسات التي رافقتها، لكنها لا شيء قياسا بالتحولات الثورية في بلدان العالم»، لافتا الى انه «اذا تحدثنا عن الثورة الفرنسية باعتبارها مقياسا وما زال الشعب الفرنسي يحتفل بها، فقد ذهب ضحيتها مئات الآلاف وبأشكال مختلفة من القمع والعنف الداخلي الذي تبنته السلطة الثورية. في حين أن هذا الأمر لم يحدث في العراق. ومع ذلك مثّلت الثورة الفرنسية اليوم الوطني لفرنسا، الذي يحتفل به اليمين واليسار».
ونوه الرفيق فهمي، الى ان «ما حدث في العراق من حوادث رافقت ثورة 14 تموز، لم تكن من ضمن سياسة تنظيم الضباط الاحرار. والجميع يعترف ان عملية اغتيال الملك قام بها أحد الضباط بشكل انفعالي. وكان المخطط ان يتم اعتماد نهج مثلما حصل في ثورة مصر، وإبعاد الملك الى خارج البلاد، وهذا الامر لم يحصل. لكن ان تختزل ثورة تموز بحدث معين فقط، فهذا لا يعني تقديم قراءة موضوعية، إذ أقدمت الثورة على خطوات وإجراءات غيّرت من الواقع الاجتماعي والاقتصادي في العراق. وهي لم تأت لتغيير سياسات جزئية».
إنجازات الثورة
وأشار الى ان «ثورة 14 تموز أدت، ضمن ما أدت، الى القضاء على سلطة الاقطاع، من خلال تشريع قانون الإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي على الفلاحين. كذلك حققت الاستقلال السياسي الفعلي بالخروج من الاحلاف العسكرية وإزالة القواعد العسكرية، وفك الارتباط بالجنيه الإسترليني»، مبينا ان «هذا يعتبر حدثا نوعيا واستقلالا فعليا».
ووصف فهمي، الاستقلال الذي يراد الآن ان نحتفل به في 3 تشرين الثاني بأنه استقلال «شكلي»، مضيفا انه «كان بتدبير من الاستعمار البريطاني. صحيح ان قسما من العراقيين أرادوا هذا التاريخ ولا ننفيه، لكن عمليا بريطانيا لم تنه انتدابها على العراق، الا بعد ان امنت معاهدة 1930 وربطت العراق بعجلة بريطانيا وهيمنتها. ولم يكن هناك أي استقلال فعلي وحقيقي».
وتابع، انه «حين نتحدث عن 14 تموز، فإنه أولا: تم التحول الى جمهورية وتغيير طبيعة النظام. وثانيا: تحقق الاستقلال السياسي الفعلي. وحين يكون يوما وطنيا للعراق فهو ليس تجاوزا. وإذا كان البعض يحاول ان يربط بينه وبين الحزب الشيوعي، فلا أساس لهذا الكلام، انما نحن نتحدث عن يوم 14 تموز وهو يوم عليه إجماع من قبل الحركة الوطنية العراقية، فالالتفاف الشعبي الذي جرى يوم 14 تموز ونزول الناس إلى الشوارع أيضا يؤكد انه يوم وطني بامتياز».
وأكمل الرفيق فهمي، قائلاً: «اليوم ومع الأسف يصار الى ان الدولة تأخذ بتحليلات ليست محايدة، وتعبّر عن مجاميع معينة، أضرت ثورة تموز بمصالحها. ويتم تقييم الثورة من مصلحة طرف يقف موقفاً من تموز، لأنه يختزل ما حدث باغتيال العائلة المالكة»، متسائلا «حين نتحدث اليوم من خلال النقاشات عن تواجد القوات الأمريكية والتحالف الدولي، عن ماذا نبحث؟ أليس معنياً الاستقلال وهذا هو الهدف؟ فكيف بثورة 14 تموز التي حققت الاستقلال السياسي الفعلي وأنهت التواجد الأجنبي والعسكري في العراق، والغت جميع المعاهدات، كيف يجري التنكر لهذا الموقف بإلغائه، بينما هذه المهمات التي حققتها تموز تتم المطالبة بها اليوم؟! هذا تناقض كبير!».
التنكر للثورة
وبين، ان «ثورة 14 تموز حدثت بعد اتفاق جبهة الاتحاد الوطني التي تضم جميع الأحزاب الوطنية آنذاك، وقد مثّلت محصلةً لنضالات الحركة الوطنية منذ العشرينات وحتى 1958. واليوم يتم الغاؤها! هذا عمليا يشكل تنكرا لهذه النضالات كلها، فضلا عن كونه الغاءً لتاريخ العراق الحديث. تاريخ النضال الوطني. وتضع يوماً لا صلة له بتاريخ النضال الوطني».
ولفت إلى انه «تحدثنا عن موقف ثورة تموز من العدالة الاجتماعية، وايضاً رأينا موقفها ونظرتها التحررية والتقدمية إزاء المرأة، حتى في فتراتها الأولى، وتعاملها مع النضالات الشعبية والقوانين التي أسست للنقابات والاتحادات. فهذه الابعاد التأسيسية تعود للعراق الجمهوري. ومع ان التجربة استهدفت واجهضت، لكن بقيت امتداداتها حاضرة الى هذا اليوم»، موضحا ان «إلغاء هذا اليوم يقود الى استنتاج، يتمثل في أن الغاء هذا اليوم هو الغاء لدلالاته ومضامينه والوجهة والاحداث التي يحتويها هذا اليوم. وهي قضايا راهنة تتعلق بالتضييق على المساحات المدنية. ومن ذلك الموقف إزاء المرأة، وازاء الحريات النقابية والتنظيمية. ومعروف الموقف الان من اتحاد الطلبة وعمله في الجامعات. كذلك حقّ الباحث في إعطاء رأيه وأشكال الرقابة المفروضة».
تأسيس النقابات والاتحادات
وأضاف، ان «القول بأن النظام في فترة عبد الكريم قاسم لم يطلق كل هذه الحريات، نعم، هو لم يعمل على الإطار الديمقراطي المؤسساتي، لكن خلال تلك الفترة تأسست النقابات والاتحادات، وان جرى تقييدها لاحقاً، لكن الواضح ان ثورة تموز هي من أطلقت الحريات واعطت المبادرة للجماهير، وقامت بتحولات اجتماعية. إن تغييب كل هذا ونفيه من التحليل، واختزال 14 تموز بعملية قتل العائلة المالكة، نراه عملا مقصودا وغير موضوعي، وتعتيما مبسترا».
واردف الرفيق فهمي، ان «الحديث عن 14 تموز ليس باعتباره عطلة رسمية وحسب، بل ان تعترف الدولة بان الثورة وما دعت اليه وما حققته بتوجهاتها ومحصلة النضالات التي جاءت بها والتحام الجيش والشعب، وكذلك الدور الحاسم الذي لعبته الجماهير في عملية حسم الصراع لصالح وجهة التغيير، فهذه قيم ثورية ووطنية وعبر ودروس مهمة، يراد إنهاؤها اليوم»، مبينا انه «لا يفترض النظر الى العطلة والموقف من تموز من زاوية ضيّقة باعتبارها تهمُّ الحزب الفلاني، انما تهمّ الوطن والشعب العراقي ومنجزاته».
وأكد فهمي أنه «لا يمكن نكران ان ثورة 14 تموز، هي يوم وطني والتفاف شعبي حقيقي وتجاوز لكل أشكال التمييز. كما انها حققت خطوة كبيرة باعتبار العراق شراكة بين العرب والكرد، في حين يتم الحديث اليوم عن تشظية المتشظي الى هويات فرعية وقوى سياسية تعتمد تلك الهويات، بل وتعمل على تكريسها وتكريس نظام المحاصصة».
وشدد الرفيق فهمي على أنه «من واجبنا وواجب المؤرخين المنصفين والموضوعيين ان يكشفوا أبعاد هذه الثورة في المجالات كافة: من أثرها السياسي والتاريخي والحدث الاجتماعي على مستوى الحريات وحتى على المستوى الخلقي؛ فقادة ثورة تموز وعلى اختلاف انتماءاتهم السياسية تميزوا جميعهم بالنزاهة، وقسم منهم قتلوا بسبب معتقداتهم وان اختلفنا معها. وهذا كله واضح من خلال البساطة والنزاهة وأيضا عدد المشاريع التي أنجزت خلال خمس سنوات، في ظل أجواء محفوفة بالمؤامرات والضغوطات. ولكن تحقق ما لم يتحقق في عشرات السنين لاحقا».
النزاهة والوطنية
وأوضح، أن «ثورة 14 تموز تؤكد انه من خلال توفر عناصر النزاهة والحماسة والوطنية لدى الشعب، وكذلك وجود قيادات مخلصة حقيقية ووطنية وتمتلك الإرادة، هنا يتمكن الشعب من تحقيق المعجزات، وان تلك الإنجازات التي تحققت في تلك الفترة تكاد ترقى الى المعجزة قياسا الى الأوضاع الراهنة؛ حيث تتوفر اليوم كل هذه الإمكانيات والموارد، ولم يتم تحقيق عُشر ما تحقق في ذلك الوقت. وهنا حين نتحدث عن ثورة تموز، فنحن نتحدث عن اليوم الحالي، ولا نقصد التاريخ فقط»، لافتا الى ان «قرار الغاء مناسبة 14 تموز يحمل دلالات على مستقبل العراق، وفيه مؤشرات تدعو لقلق المواطن على القادم من الأيام، ولا يمكن الاستهانة بها، وهذا المؤشر لم يأت بمعزل عن مؤشرات أخرى، لذلك ننبه الى انه اذا كان لدى بعض الأطراف ملاحظات على 14 تموز ـ وهي قوى كان لها دور في النضال الوطني ـ فعليها ان تدرك أبعاد هذه النقطة، وهي قد تختلف في بعض الأمور، لكن لا يتوجب ان تختلف في ان 14 تموز كان من اهم منعطفات تاريخ العراق السياسي بعد عام 1921. ومن غير المعقول ان يمر هذا اليوم وليس له حضور، لا في العطل الرسمية، ولا في المناسبات والدولة ساكتة. فهذا أمر معيب ومقلق!».
وأكمل الرفيق فهمي، ان «ثورة 14 تموز تحمل دروسا تؤثر في مهامنا اليوم ومساعينا نحو التغيير، وتمنحنا خطوطا مرشدة؛ فالشعب بعد تموز توحّد سياسيا، والجيش أيضا توحد بشكل معين، ومن ثم التحام الجماهير. وبالتالي كل الاحداث لم تكن لتحصل لولا ان التناقضات وصلت مرحلة معينة. ولا بد أن نذكر ان عددا من ضباط الجيش كانوا مسؤولين في حمايات الملك، فما الذي حصل بحيث إن هؤلاء القادة العسكريين ينقلبون على واقعهم؟»، مشيرا الى « الحقد الشعبي الذي انطلق على الحكام، ووصل الامر الى استخدام ممارسات غير مقبولة سواء السحل وغيرها، لم تأت بتوجيه من احد، انما جاءت باندفاعات وتجاوزات عفوية شعبية، لكنها تنمّ عن حقد كبير على قادة الحكم آنذاك. واليوم يجامل البعض بتصويرهم بانهم كانوا مثالا للوطنية. فما الذي ولد كل هذا الحقد؟ ونحاول ان نتذكر اليوم ان آلاف الفلاحين يأتون من الجنوب الى بغداد وكانوا يعاملون كعبيد من قبل الملاك. كذلك ممارسة الإعدام في الشوارع من قبل النظام الملكي، الذي كان سبّاقا في ضرب الاحتجاجات بالنار وارتكاب مجازر ضد الآشوريين. أما بشأن النظام البرلماني الذي كان موجودا، فمعروف ان الشخص جالس في بيته يصبح نائبا تنصبه السلطات. هذا البعض الحاقد على ثورة تموز يقوم هو بتزييف التاريخ الذي قسم منه معاش».
تضرر المصالح
وختم فهمي بالقول: ان «طريقة التعامل مع 14 تموز تشي بان هناك مخاوفَ من حدث حصل قبل 66 سنة. انهم مازالوا يشعرون بخطره عليهم وعلى مصالحهم، وفي وقت سابق كانوا يهملون 14 تموز باعتبارها تاريخا وانتهى، لكنها لم تعد تاريخا فقط ودروسها حاضرة، وتغييبها يجري عن عمد كونهم يشعرون انها قد تلهم الشباب إذا ما اطلعوا عليها بشكل جيد بدروسها ومُثلها الملهمة. وهذا ما حصل فعلاً في انتفاضة تشرين 2019، التي هزت اركان منظومة المحاصصة، وشكلت خطراً حقيقياً على مصالح المتنفذين».