مهّد رئيس مجلس الوزراء لزيارته الى واشنطن بنشر مقال بقلمه في مجلة الشؤون الخارجية الأميركية «فورن افيرز»، تناول فيه قضايا أساسية ومهمة وذات صلة ليس فقط بمستقبل العلاقة بين العراق والولايات المتحدة، بل وبالعديد من القضايا العقدية التي تشكل تحديات كبرى امام الحكومة والقوى السياسية الحاكمة، ومختلف الفعاليات السياسية والاجتماعية، والشعب العراقي بأطيافه كافة.
وفيما يخص العلاقة مع أمريكا، سيكون محورها الأساسي من وجهة نظر العراق، إعادة تنظيمها وترتيبها ليس فقط فيما يتعلق بتواجد القوات الأمريكية وقوات التحالف، وإنما ايضاً بإنهاء تداعيات وآثار الاحتلال ورفع مختلف أشكال التدخل والوصاية على الشأن العراقي في الميادين العسكرية والمالية، ولا يمكن الا الاتفاق على أهمية وضرورة ان تُبنى، كما مع بقية دول المنطقة والعالم، على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، واحترام سيادة العراق وقراره الوطني المستقل، ووقف اية تدخلات في شؤونه الداخلية، العسكرية وغيرها. وفي هذا الشأن لابد من السير بخطوات ملموسة وبتوجه واضح لتعزيز قدرات العراق وامكاناته على مختلف الصعد، بما يمكّن القوات العسكرية والأمنية العراقية من أداء مهامها الدستورية والقانونية في تحقيق الامن والاستقرار، وحماية السيادة والنظام الديمقراطي الاتحادي (الفيدرالي). وان تكون واضحة أهمية وضرورة الرفض التام لاي وجود عسكري أجنبي على أراضي وطننا، ومن اية جهة ودولة كان، وتجنيب بلدنا صراع المصالح الذي لا ناقة لشعبنا به ولا جمل.
وفي هذا السياق وفيما اشّر مقال رئيس الوزراء وجود السلاح خارج مؤسسات الدولة، وتعهد بمعالجة الامر بما يحمله من تعقيدات جمة، مؤكدا وجوب أن يكون التحكم بقرار الحرب والسلم بيد الحكومة والدولة حصرا، وهو امر سليم، تبقى خطوات وإجراءات تطبيق هذه الوجهة متواضعة جدا، ولم يمكن تلمس نتائج محسوسة وذات شان في هذا السياق حتى الآن، فضلا عن زيادة عديد التشكيلات العسكرية او شبه العسكرية واغداق الأموال عليها، ما يضع الحكومة ومختلف القوى ذات العلاقة امام تحد كبير واختبار لجديتها في رفع شعار حصر السلاح بيد الدولة.
وفي هذه الزيارة المهمة لابد ان تكون قضايا الشرق الأوسط على طاولة البحث، وبالذات العدوان الصهيوني المتواصل على الشعب الفلسطيني، والمطالبة الواجبة بالوقف الفوري لحرب الإبادة، وتوقف الولايات المتحدة الامريكية عن دعم الكيان الصهيوني وعدوانه المستمر، وان تتم تلبية حقوق الشعب الفلسطيني العادلة كاملة.
من جانب اخر وارتباطا بوضع بلادنا الداخلي ومسار الاحداث فيها، ذكر المقال ان امام العراق طريقا مليئا بالتحديات، وان من الواجب ولوج طريق التنمية، والاقدام على إصلاحات اقتصادية ومالية، وتعزيز حقوق الانسان، وتمكين المرآة، وتعزيز مباديء الحرية والديمقراطية، ومحاربة الفساد والإرهاب، وتنويع مصادر الدخل الوطني، وغيرها من القضايا.
ولا شك ان الحديث عن هذه القضايا المهمة واعتبارها تحديات امام الحكومة والقوى المشكلة لها والداعمة، يؤشر الحاجة الى معالجات جدية لها، ورسم خارطة طريق بتوقيتات محددة للتنفيذ والانتقال من مرحلة الى أخرى. فالكثير من هذه التعهدات جاء بها البرنامج الحكومي، لكن بعض جوانبها لم تنفذ، بل ويلاحظ نكوص وتراجع عنها واتخاذ قرارات تناقضها، خاصة ما يتعلق بالحريات العامة وتعزيز الممارسة الديمقراطية. وقد بالغ بعض المحافظات والوزارات كثيرا في إجراءاته ذات العلاقة، وعلى مرأى ومسمع من الحكومة والبرلمان، اللذين لم يحركا ساكنا للحفاظ على روح ومبادئ الدستور، ووقف هذا التقزيم التدريجي للديمقراطية تحت عناوين شتى.
وهنا يثار سؤال مهم يتعلق بالتحدي الأكبر كما نرى. إذ لا يمكن المضي قدما في تحقيق الوعود دون ادخال إصلاحات جدية وجوهرية على نهج إدارة الدولة وبناء مؤسساتها والتوجه الجدي نحو الخلاص من نهج المحاصصة، فمن دون ذلك لا يستقيم ولا يمكن وضع حد لتفشي ظاهرة الفساد في ظل تواضع الإجراءات بشأنها.
وتشير تجارب الشعوب الى أن مواجهة تحديات كالتي أشار اليها رئيس الوزراء، تتصل وثيقا بتعزيز مدنية الدولة، وترصين بناء مؤسساتها على أساس المواطنة والعدالة الاجتماعية.
هنا تكمن نقطة البدء والانطلاق، فما لم تتخذ خطوات واضحة جدية لإعادة توزيع عادل للدخل الوطني، وتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية وتوفير الخدمات الأساسية، وبناء سلم اهلي ومجتمعي وطيد على اساس تعزيز هيبة الدولة وامكانية انفاذ القانون بالفعل على الجميع، تبقى الوعود وعودا.
ومن المؤكد ان تحقيق التعهدات أيضا لا يجمعه جامع مع أي مسعى لاحتكار السلطة، وتحويل تداولها السلمي الى تبديل لأدوار المتنفذين، وتضييق دائرة اتخاذ القرار الوطني.
ان اعلان التوجهات امر مفيد ومهم، لكن العبرة لا تكمن في حسن النوايا على أهميتها، وانما في ان ترى تلك التوجهات النور وتتحول إلى واقع ملموس ومعاش، وان تكون في خدمة المواطنين جميعا من دون تمييز.