منذ العام ١٩٧٣ تعاقبت الاقتراحات النيابية المتتالية التي استهدفت المساس بالطابع المدني للدولة سواء عبر اقتراح تنقيح المادة الثانية أو المادة ٧٩ من الدستور، وهي الاقتراحات التي سبق رفضها، وكذلك عبر تشريع قوانين للتمييز بين الناس على أساس الدين أو الجنس، بما يخلّ بمبدأ المساواة، وتشريع قوانين أخرى لتقييد الحرية الشخصية والتدخّل في الحياة الخاصة للأفراد والوصاية على حرية الاعتقاد التي هي من الحريات المطلقة، بالإضافة إلى التضييق على حرية التعبير، حيث تمّ تشريع ترسانة من القوانين غير الديمقراطية وذلك بالتواطؤ مع السلطة، والمؤسف أنّه في ذلك كله فقد جرى استغلال الدين الإسلامي الحنيف والشريعة الإسلامية كشعارات سياسية، لتصوير أي اعتراض ضد هذه التوجهات والتشريعات غير الديمقراطية على غير حقيقته، وكأنّه مخالفة للدين وعداء للشريعة.

إننا عندما نتمسك بمبادئ النظام الديمقراطي وندافع عن دستور ١٩٦٢ بوصفه دستور الحدّ الأدنى، فإننا نرى أنّ المادة الثانية والمادة ٧٩ من الدستور مثلما تمّ التوافق عليهما في المجلس التأسيسي تلبيان على نحو واقعي ومتوازن الاستناد إلى الشريعة الإسلامية في التشريع بوصفها مصدراً رئيسياً له، ونتفق مع ما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور في هذ الشأن، ومن هنا فإننا نرفض اقتراح تنقيح هاتين المادتين على النحو الذي تكرر وذلك لأهداف سياسية وحزبية دينية وانتخابية وبدافع النفاق الديني الاجتماعي.

ومن منطلق احترامنا للدين الإسلامي الحنيف والشريعة الإسلامية يجب أن نكون واضحين في رفضنا لاستغلالهما كشعارات سياسية، بما في ذلك ما جرى طرحه حول “أسلمة القوانين” لما انطوت القوانين التي جرى تشريعها تحت هذا الشعار من نواقص وتناقضات، بل ما مثلته من إساءة مرفوضة للإسلام والشريعة الإسلامية… وهذان مثالان على ذلك:

المثال الأول لهذه الأسلمة الشعاراتية للقوانين، هو التعديل الذي تمت إضافته على المادة الأولى من قانون الانتخابات المتصل بإقرار الحقوق السياسية للمرأة بحيث “يُشترط للمرأة في الترشيح والانتخاب الالتزام بالقواعد والأحكام المعتمدة في الشريعة الإسلامية”… وهو شرط لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع الانتخابي الملموس، ولم يكن له أي مبرر عملي.

وأما المثال الآخر لمثل هذه الأَسلمة المدّعاة فنجده في القانون رقم ٤٦ لسنة ٢٠٠٦ في شأن الزكاة ومساهمة الشركات العامة والمقفلة في ميزانية الدولة، الذي يقرر نصاباً للزكاة ما أنزل الله به من سلطان يقلّ ويختلف عن النصاب الشرعي البالغ ٢.٥ في المئة، إذ تنصّ المادة الأولى من هذا القانون على أن “تُحصَّل نسبة مقدارها ١% سنويا من صافي أرباح الشركات الكويتية المساهمة والمقفلة، ولهذه الشركات عند تقديم إقراراتها بالمستحق عليها مرفقاً بها ميزانياتها السنوية بموجب هذه القانون أن تحدد القدر الذي يمثّل زكاة عن أموالها من المبلغ المحصّل…”.

حيث يقدم هذان المثالان دلائل ملموسة على ما ينطوي عليه شعار “أسلمة القوانين” الذي يرفعه نواب الأحزاب الإسلامية من غرضية سياسية ومقاصد انتخابية أكثر منها ضرورات دينية أو حاجات عملية.

وها هو أحد أقطاب نواب تيار الإسلام السياسي يعلن عن محاولة جديدة لتقديم طلب بتنقيح المادة ٧٩ التي تنصّ على أنّه “لا يصدر قانون إلا إذا أقرّه مجلس الأمة وصدّق عليه الأمير” بحيث تضاف إليها عبارة تشترط أن يكون هذا القانون متوافقاً مع أحكام الشريعة وغير متعارض معها.

إنّ هذا الطلب لتنقيح المادة ٧٩ من الدستور، الذي سبق تقديمه في العام ٢٠١٢ ورفضه الأمير حينذاك، يتجاهل ما نصّ عليه الدستور في المادة ١٧٥ من شروط موضوعية للتنقيح وهي أنّ “الأحكام الخاصة بالنظام الأميري للكويت وبمبادئ الحرية والمساواة المنصوص عليها في هذا الدستور لا يجوز اقتراح تنقيحها، ما لم يكن التنقيح خاصا بلقب الإمارة أو بالمزيد من ضمانات الحرية والمساواة”… وهناك مخاوف جدّيّة من استغلال هذا التنقيح للمساس بمبادئ الحرية والمساواة استناداً إلى المواقف المعلنة للعديد من النواب الإسلاميين والقوى المتزمتة التي تدعو إلى التدخّل المباشر في الحرية الشخصية والحياة الخاصة للأفراد وتحاول فرض الوصاية على حرية الاعتقاد وتعارض مبدأ المساواة بين الجنسين وتكريس التمييز على أساس المعتقد الديني… وغير هذا فإنّ التثبّت من توافق القوانين مع أحكام الشريعة الإسلامية في حال تنقيح المادة ٧٩ من الدستور يفرض أن يتم تحديد جهة ما لتقرر هذا التوافق من عدمه، وبذلك سيتم تنصيب سلطة دينية غير منتخبة فوق مجلس الأمة لتقرر ما إذا كان هذا المشروع بقانون المقدم من الحكومة أو هذا الاقتراح بقانون المقدّم من أحد أعضاء مجلس الامة متوافقاً مع أحكام الشريعة أو يتعارض معها سواء كان هذا قبل أن يقرّ مجلس الأمة القانون ويصدّق عليه الأمير أو بعد الإقرار والتصديق على القانون… وبالتأكيد فإنّ تنصيب مثل هذه السلطة الدينية غير المنتخبة سيقوّض الطابع المدني للدولة ويهدم الأسس الديمقراطية لنظام الحكم، التي تنطلق من أنّ الأمة هي مصدر السلطات جميعاً.

إنّ طلب تنقيح المادة ٧٩ من الدستور لا يستهدف تحقيق المزيد من ضمانات الحرية والمساواة، بل أنّه سيغيّر الطابع المدني للدولة الكويتية عبر قيام سلطة دينية تشريعية، وهذا على أقل تقدير عبث بالدستور ومتاجرة سياسية وانتخابية بالشريعة الإسلامية.

إننا نحمّل العابثين الجدد بالدستور المسؤولية عن عبثهم، ونناشد الشعب الكويتي والقوى الحيّة في المجتمع الكويتي وأعضاء مجلس الأمة الحريصين على النظام الدستوري إلى التحرك لاتخاذ مواقف واضحة في رفض العبث بالمادة ٧٩ من الدستور والتمسك بأسس النظام الديمقراطي وبالطابع المدني للدولة ورفض أي مساس بهما.

 الكويت في ١٧ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠٢٢