يمثل الغزو الروسي لأوكرانيا تحديا للعديد من اليقينيات السياسية، وهذا يشمل اليسار الأوروبي. وفي ظل هذه الحرب المتعارضة للقانون الدولي، هل يمكن الاستمرار في المطالبة بنزع السلاح؟ هل تحتاج أوروبا إلى جيشها الخاص؟ وكيف يجب أن يكون السلام مع روسيا مستقبلا؟ حول هذه الأسئلة وغيرها اجرت مديرة مكتب مؤسسة روزا لوكسمبورغ في بروكسل آنا شرودر، حوارا مع أوزليم ديميريل،  عضوة البرلمان الأوروبي عن حزب اليسار الألماني، ونائبة رئيس لجنة الأمن والدفاع فيه.  ولأهمية الحوار وراهنيه الأسئلة المطروحة، نقدم فيما يلي عرضا لاهم ما ورد فيه.

"البوصلة الاستراتيجية"

التقى رؤساء الدول والحكومات الأوروبيون في قمة في فرساي في منتصف آذار وناقشوا خطط الاستراتيجية العسكرية للاتحاد الأوروبي، او ما يسمى بـ "البوصلة الاستراتيجية". والمفاوضات حولها سبقت الحرب في أوكرانيا.  وهي معنية بكيفية فرض "مصالح" االاتحاد الأوروبي بشكل استراتيجي ومستقل في السياسة الخارجية. وفي وقت مبكر من عام 2016، تم التأكيد على ضرورة أن يكون الاتحاد الأوروبي قادرا على تأمين طرقه التجارية والبحرية، إذا لزم الأمر عسكريا أيضا. وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تم تحديد مسار حاسم عبر "التعاون المنظم الدائم"، الذي عد مركز التعاون بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في السياسة الأمنية والدفاعية. وتضم البوصلة الاستراتيجية الأهداف والأدوات التي تم إنشاؤها وتحديد القدرات العسكرية "المطلوبة" في اطار استراتيجية شاملة للاتحاد الأوروبي. والأساس في ذلك واضح: اتحاد أوروبي جيد التسليح يمتلك سلطته الذاتية في وقت التنافس الكبير بين القوى العالمية.

في اجتماع القمة الاخير، أرادوا طمأنة بعضهم البعض بأن الجميع متحدون وراء هذه الاستراتيجية الأمنية العسكرية الجديدة. ومع اندلاع حرب أوكرانيا، أثير النقاش حول الدور الذي يجب أن يلعبه الناتو في هذه التشكيلة.  وبينما تدفع فرنسا باتجاه توسيع قدراتها العسكرية وتحديد المصالح الاستراتيجية بشكل مستقل عن الناتو، أي عن الولايات المتحدة الأمريكية، تصر دول أوروبا الشرقية على وجه الخصوص على توثيق العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.

من ناحية أخرى، تريد ألمانيا تطوير وتعزيز  صناعة الأسلحة الخاصة بها بالاستقلال الاستراتيجي، ونظرا لاعتمادها على الترسانة النووية الأمريكية، فهي لا تريد انفصالا صريحا عن الولايات المتحدة، على عكس جارتها فرنسا. لقد كانت هناك مفاوضات طويلة وراء الكواليس حول مدى إمكانية استفادة المانيا من الأسلحة النووية الفرنسية، وبما ان ألمانيا إلى حد بعيد، هي القوة الاقتصادية الأولى في الاتحاد الأوروبي، فهي لا تريد الاعتماد المفرط على فرنسا.

ومعروف، أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، منحت أهمية لقوات الحلف الأوربية وتلك العابرة للمحيط في الاتحاد الأوروبي وفي ألمانيا. ولذلك تم تعديل الفقرات المعنية في الوثيقة بحيث يتم الآن توسيع الاستراتيجية العامة والأدوات بما يتماشى مع استكمال قدرات حلف الناتو. لقد اخذت الحرب تسهل عملية التصويت بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بعد ان بدت صعبة في البداية.

 الحرب وعسكرة الاتحاد الأوربي

يجري توظيف الحرب ومعاناة الأوكرانيين، لتعزيز العسكرة، والاستثمار في أحدث المعدات الحربية وأسرعها وأكثرها ذكاءً وقوة. في المانيا تم تخصيص 100 مليار يورو دعما للموازنة العسكرية.  والنمسا التي يفترض انها محايدة تريد زيادة الإنفاق العسكري بنحو 40 في المائة وبولندا بنسبة 30 في المائة. كلاهما أعلى بكثير من النسبة التي حددها الناتو 2 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي لكل بلد عضو بالإضافة إلى ذلك، أصبحت الدنمارك رسميًا الآن جزءًا من سياسة الأمن والدفاع المشتركة. وقررت لاتفيا وليتوانيا في بداية اذار رفع موازنات الدفاع إلى 2.5 في المائة على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي. وفي غضون ذلك، أعلنت فرنسا عن "قرارات تاريخية"، لا سيما فيما يتعلق بـ "زيادة الاستثمار في الدفاع" بموجب قانون البرمجة العسكرية.

تظهر سرعة التنفيذ بوضوح، ان الخطط والأفكار موضوعة مسبقا ومركونة في الادراج منذ زمن، والآن يجري استخدام اللحظة المناسبة. لولا الحرب في أوكرانيا، لكان تنفيذها أكثر صعوبة. بسبب تاريخ الحربين العالميتين، هناك تحفظات قوية بين السكان ضد نزعات العسكرة في أوروبا وألمانيا.

لقد أغضبت حرب أوكرانيا الكثير من الناس، ويجري استغلال هذه الفرصة، لكن هذا يضر بالاحتياجات الأمنية لشعوب أوروبا. والعسكرة لا تؤمن السلام، لكنها تهيئ لحروب مستقبلية. وبغض النظر عن حقيقة أن مليارات اليورو هذه ستكون مفقودة عند تمويل المشاريع الاجتماعية. وسيتعين على العاملين تحمل التكاليف الهائلة، اذ سيتم تمويل هذا التسلح على حسابهم.

وحتى قبل حرب أوكرانيا، وبدون الولايات المتحدة، أنفقت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قرابة أربعة أضعاف ما أنفقته روسيا على قدراتها العسكرية. ألمانيا الآن في طريقها لاعتماد ثالث أكبر موازنة عسكرية في العالم، بعد الولايات المتحدة والصين.

 خطر تزايد عضوية الناتو.

يجري العمل حثيثا وبقصدية واضحة من اجل ضم المزيد من بلدان أوربا الى الناتو. وبالمقابل من الواضح أيضًا أن الاتحاد الأوروبي يطرح روايتين متناقضتين: فمن ناحية، يُقال إن الأوكرانيين يقاتلون أيضًا من أجل "قيمنا" في هذه الحرب. ومن ناحية أخرى، يؤكد ان طريق انضمام أوكرانيا الى الاتحاد الأوربي سيكون طريقًا طويلاً. لذلك يتم الإشادة بحكومة زيلينسكي حتى يكون لديها الدافع لمواصلة القتال. وفي الوقت نفسه، وكإجراء احترازي، تضاءلت توقعات الانضمام. لقد أشار  زيلينسكي مرارًا وتكرارًا أنه يمكنه الموافقة على الحياد العسكري، أي عدم الانضمام الى الناتو، مقابل انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي.

لكن بلدان الاتحاد الأوروبي مترددة، وخصوصا ألمانيا وفرنسا. ترتبط دول أوروبا الشرقية ارتباطًا وثيقًا بالولايات المتحدة الأمريكية وتعتمد عليها. وبالمقابل يمكن ان تكون أوكرانيا ميدان نشاط آخر لكل من ألمانيا وفرنسا.  أضف الى ذلك، ستكون أوكرانيا ما بعد الحرب مدمرة وتحتاج إلى إعادة بناء، دون اهمال ان نظامها السياسي يخضع لسلطة مباشرة وقوية للاوليغارشية. وكانت مؤسسات الاتحاد الأوربي تنتقد افتقار أوكرانيا لسيادة الدولة وكذلك انتشار الفساد فيها.

في هذه الحرب، اقترب الغرب المنقسم من بعضه البعض مرة أخرى، لكن التناقضات بين الولايات المتحدة وكل من ألمانيا وفرنسا لم تذب في الفضاء. وبغض النظر عن السرعة التي تم بها رص الصفوف بشكل مفاجئ في الوقت الحالي، يمكن بالفعل رؤية تصدعات صغيرة في هذه الوحدة الجديدة. على سبيل المثال، عندما أرادت الولايات المتحدة عزل الصين بسبب امتناعها عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، اتفقت ألمانيا وفرنسا مع الصين على التوسط معًا لوقف إطلاق النار.

وبشكل عام، تعتمد عضوية الاتحاد الأوروبي أيضًا بشكل خاص على مدى تكيف أوكرانيا ونظامها الأوليغارشي مع قواعد اقتصاد السوق الحر تقنيا واقتصاديا. وبخلافه، لن يكن مفاجئا تعامل الاتحاد الأوربي مع طلب انضمام أوكرانيا بطريقة مماثلة لتعامله مع تركيا، أي مفاوضات انضمام يطول أمدها، وتجمد لاحقا، ويتم الحفاظ عليها بطريقة ما بواسطة خدمات الدعم المختلفة، لكون هذا الشكل مفيد للطرفين من الناحية الجيوسياسية.

 اليسار الأوربي والشعب الروسي

يحتاج شعب روسيا الآن إلى تضامن اليسار التام، لإن حظر الفن والثقافة الروسيين في الغرب هو نهج خاطئ جملة وتفصيلا. ويرى العديد من الروس أن الأوكرانيين أمة شقيقة لا ينبغي لروسيا أن تشن حربًا ضدها. والشعب الروسي هو القادر على وقف حكومته، وليس الغرب، الا إذا اراد الأخير الحرب، وستكون حربا عالمية ثالثة.

هذه الحرب لها مستويان: الأول اجتياح روسي لأوكرانيا مدان ويجب ان تنسحب القوات الروسية فورا. والمستوى الثاني: صراع القوى بين الناتو (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) من جهة وروسيا من جهة أخرى. هذا يعني ان أوكرانيا أصبحت مسرحا للحرب بين القطبين المتصارعين. وبقدر تعلق الامر بالناتو يجب الكف عن سياسة تأجيج الحرب واطالة امدها.  ومن الضروري الوقف الفوري لإطلاق النار، والعمل على حل سياسي للصراع، ليس بعيدا عن الاوكرانيين. ويجب أن يشمل الحل أيضًا سلامًا دائمًا في أوكرانيا، لأن الحرب الأهلية كانت تدور هناك منذ سنوات.

وعلى اليسار رفض اية حروب دموية على حساب الشعوب، التي يجب ان لا تتحمل نتائج الحرب الدائرة بين المراكز الامبريالية.

شحنات السلاح مرفوضة

إن توريد الأسلحة في حرب غير متكافئة مع الإعلان في نفس الوقت عن عدم وجود نية لتدخل عسكري يبدو غدرًا.  يتم التخلص من مخزون الأسلحة القديمة، وبالمقابل تقوم بلدان الناتو بتجهيز جيوشها بأسلحة فتاكة حديثة.

من الواضح لا شحنات الأسلحة ولا العقوبات، لها تأثير حاسم على مسار الحرب. روسيا ليست مضطرة لشراء الوقود لدباباتها من الخارج وروسيا قوة عسكرية. وبالتالي لا حل لهذه الحرب، سوى الحل السياسي. ولهذا يجب أن يزداد الضغط السياسي من أجل وقف إطلاق النار، وتفعيل المفاوضات. وبالمناسبة، طالب الأوكرانيون بذلك أيضًا. لأن الحرب لن تأتي بحل، بل ستزيد الموت وتعمق المعاناة.

 تباينات في كتلة اليسار البرلمانية

تباينت المواقف داخل كتلة اليسار في البرلمان الأوربي، فمنهم من اتفق مع فقرات ادانة الحرب ومنهم من رفض فقرات تتعلق بسوء استخدام الحرب في أوكرانيا لتعزيز عسكرة الاتحاد الأوروبي. ان ما يحدث، يُظهر ان أوربا تمر حاليًا بنقطة تحول، تصبح بعدها الحرب وسيلة لفرض السياسة هي القاعدة.  وهذا لا يجعل العالم أكثر أمنا، وبالتالي من الضرورة معارضة هذا التوجه بشدة.  ان العسكرة تسير دائما جنبًا إلى جنب مع تفكيك الديمقراطية الليبرالية.

لقد دعا اليسار إلى حل الناتو وطرح بديل الامن الأوربي المشترك بمشاركة روسيا. ومعروف أن الولايات المتحدة، بصفتها القوة المهيمنة في الناتو، ليس لديها أي مصلحة في ذلك، والسؤال، لماذا لم تتمكن أوروبا من إنشاء نظام سلام خاص بالقارة، على الرغم من أهميته. ومعروف ان روسيا طلبت الاندماج في الناتو لماذا لم يتم التعامل الإيجابي مع طلبها؟  ان أسئلة كهذه مثيرة للاهتمام.

في إطار التنافس الاقتصادي لم تكن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مستعدين للاستجابة للمطالب الاقتصادية والتقنية لروسيا في الحد من حصة رأس المال الغربي في السوق الروسية. كانت القضية الأساسية هي ضمان حصول الغرب على الحصة الأكبر من تدفقات رأس المال العالمي.

ان على اليسار التشكيك في الأسباب الاقتصادية المنهجية للحرب. وفي الوقت نفسه، يجب زيادة الضغط للحد من التصعيد العسكري، والتركيز على إيجاد حلول سياسية ودبلوماسية.

 حركة السلام

في هذه المرحلة، أصحاب الخبرة في حركة السلام مطالبون أن يوضحوا ضرورة رفض أي شكل من أشكال العسكرة. وفي النهاية، كل رصاصة يتم إنتاجها تخدم الحرب ولهذا السبب فان إعادة التسلح وتصاعده له تداعيات مدمرة.

على الأحزاب اليسارية في أوروبا والعالم قراءة ما يحدث جيدا، والتوصل الى تحليلات رصينة تكشف طابع هذه الحرب، فالتناقضات بين القوى الإمبريالية قد ازدادت وتيرتها.

والأمر يتعلق بالمصالح الجيوسياسية، أي الهيمنة الاقتصادية والسياسية. وعلى اليسار ان لا يتسامح مع صراعات الهيمنة داخل المعسكر الإمبريالي على حساب الفقراء والعاملين. يجب أن يرفض اليسار العسكرة والحروب المبنية على دماء الناس. وتحليل سياسات الهيمنة طبقيا.

*- نشرت في العدد 153 من مجلة الشرارة النجفية

عرض مقالات: