في كتابها الصادر أخيرا، عن دار "سوركامب" الألمانية، "مسافرو الثورة العالمية، تاريخ الأممية الشيوعية"، تناولت المؤرخة بريغيته شتودر، أستاذة التاريخ المتقاعدة في جامعة برن، الحياة السياسية لمجموعة من النساء والرجال الملتزمين العابرين للحدود والذين التقوا في أماكن مختلفة منذ عام 1920، في موسكو، برلين، باكو، طشقند، ووهان وشنغهاي، بهدف دفع الثورة العالمية، في كل مكان، إلى الأمام.

ماذا بقي من هذا التاريخ؟ وبعد مائة عام، لماذا من المفيد التعامل مع إرث الأممية الشيوعية؟ التجارب وآمال وخيبات الناس الذين كانت الثورة بالنسبة لهم عملاً وهدف الحياة. بهذه المناسبة أجرت مجلة جاكوبين اليسارية الأمريكية حوارا مع شتودر تناولت فيه أيضا جوانب هامة من تاريخ الأممية، نعرض لقراء الشرارة فيما يلي موضوعاته الأهم.

 مقاربة مختلفة

 تؤكد شتودر على أن معظم الأعمال المنشورة حتى الآن عن تاريخ الأممية تناولت بشكل رئيسي مشاريع القرارات السياسية والاجتماعات وهياكل الأممية، وهذ عمل مهم جدا، لكنها   أرادت توضيح كيفية تشكل هذا الالتزام السياسي التاريخي.  معرفة القناعات السياسية، وكذلك محاولة ترجمتها إلى أفعال، في بلدان وأماكن مختلفة. كيف تعاملوا مع التوجيهات السياسية وأنماط العمل التي كان عليهم تطبيقها في بيئة غريبة عليهم؟ إذن هو تاريخ ممارسات شيوعية.

 كان اعتماد التجريب هو البداية، كان عليهم طرح أسئلة عن ماهية العمل، وكيفية إنجازه. وتبادل الاسئلة مع الشركاء والبيئة المحيطة، وفاعلين آخرين عن كيفية تحويل القرارات السياسية إلى ممارسة. لم تكن هناك معاهد أو مؤسسات للتأهيل السياسي، حتى مدرسة لينين الأممية، بدأ العمل بها عام 1926، أي بعد مرور 7 سنوات على تأسيس الكومنترن، لذا كان يجب تطوير المهارات الفردية في إطار المجموع.

 كادر الأممية

إن العمل في الكومنترن يختلف عن العمل في حزب وطني. كان العمل في هذا الموقع يعني الاغتراب عن الوطن الأم، وأن تُعرف نفسك بأنك أممي، وتتصرف على هذا الأساس.

 وفي الوقت نفسه، كان العمل يعني أيضًا أن تكون جزءًا من الجماعة، وهذا يفسر روحية استمرارهم كشيوعيات وشيوعيين، على الرغم من كل الصعوبات والمحن. لقد كانوا ينتمون إلى الجماعة، وشهدوا الكثير من التضامن، ولكنهم عانوا أيضًا من الصراعات أو الغيرة - كما هو الحال في أي بيئة مغلقة. لقد أعطى هذا الانتماء لحياتهم معنى.

 وأعطت المهام التي مارسوها لبعضهم مكانة وظيفية ومهنية، ما كان بإمكانهم الحصول عليها. كان العمل مختلفا تمامًا عن العمل في المصانع. هنا كانوا قادرين على التطور في سلم المهام، والحصول على التقييم والتقدير، وبلغة عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو، مراكمة رأس المال السياسي. وبالتأكيد لم يكونوا مبتدئين، فقد جلبوا معهم، خبرة الناشط السياسي، التي اكتسبوها في الصراعات والإضرابات والثورات.

 التأسيس

تأسست الأممية الشيوعية الثالثة "الكومنترن"، في عام 1919، بعد وقت قصير من نهاية الحرب العالمية الأولى - أي في وقت الاضطرابات الاجتماعية والصراعات والتحولات الكبيرة. لقد مات الملايين في هذه الحرب، وغرق عدد أكبر بكثير في الفقر. وعليه، كان رفض الحرب قوياً للغاية. وألقى كثير من الناس باللوم على الأنظمة التي تسببت في الحرب وخلق الظروف السائدة. وأدى ذلك إلى تبني أوساط واسعة من السكان في وسط أوروبا، وخاصة في إطار الحركة العمالية، مواقف أكثر جذرية، حفزتها ثورة اكتوبر عام 1917.

 لقد ظهرت حركات اجتماعية قوية، وأطيح بالأنظمة الملكية في ألمانيا والنمسا-المجر. ورأى الشيوعيون الروس، البلاشفة، هنا إمكانية لتوطيد نظامهم الجديد: لقد أرادوا تغيير الظروف الاجتماعية من خلال ثورة بروليتارية عالمية. كانت هذه اللحظة السياسية وراء تأسيس الكومنترن.

لقد لعب تفكك الأممية الثانية دورا محوريا، لقد أدرك البلاشفة علامات العصر جيدًا وحاولوا في الوقت المناسب بناء أممية جديدة. لقد انهارت الاشتراكية الدولية في الحرب بعد أن تبنت احزابها مواقف قومية مؤيدة للحرب، بدلاً من التضامن الأممي. لقد شغل المؤتمر الأممي الثاني للكومنترن، الذي انعقد في موسكو عام 1920، والذي أعتبر المؤتمر التأسيسي الفعلي للأممية الجديدة، هذا الفراغ. واجتمع فيه مندوبون من جميع أنحاء العالم تقريبًا، معانين من صعوبات سفر حقيقية. لقد تلمسوا هذه الأممية الجديدة شخصيًا وتمكنوا من المشاركة فيها. هذه اللحظة لا ينبغي الاستهانة بها.  ان مجرد الإعلان لم يخلق تجربة أممية، بل ان تجربة جماعية تبلورت في نقطة لقاء عابر للحدود في العاصمة السوفيتية موسكو.

 تركيبة المؤتمر الثاني

 كان تنوع المشاركين كبير ومذهل. امتد من هيلدي كرامر "الصغيرة" المجهولة إلى لينين وتروتسكي وغيرهم، من شغيلة الطباعة والمترجمين إلى الشخصيات البارزة في الحركة العمالية العالمية. وشارك عدد من النساء في المؤتمر، لم تهتم بهن البحوث التأريخية حتى الآن، مثلن وفقً محضر الاجتماع قرابة 10 في المائة من المندوبين. لكن هذه الأرقام ليست دقيقة بالكامل، فلم يتم تسجيل عدد من الذين شاركوا في أعمال المؤتمر في محاضر الجلسات.

الكومنترن والجندر

 وفق المعطيات المتوفرة كان هناك 30 ألف من العاملين بالاسم في مهام مختلفة في الكومنترن، قرابة سدسهم من النساء، أي 16 في المائة من العدد الكلي. يعتبر ذلك مؤشرا عميق المحتوى على أن الشيوعية تحمل أيضًا أملًا في المساواة بين الجنسين. لقد كان ذلك حركة نسوية، دون ان تحمل المصطلحات التي تستخدم اليوم، فمصطلح النسوية حينها كان يشير للحركة النسوية التقليدية، أي البرجوازية.

جرى التركيز في الكتاب على السير الذاتية للنساء المشاركات، لعدم تسليط الضوء على أدوارهن، فغالبا ما تتجاهلهن المصادر، وبالتالي لا يتم تناولهن كثيرًا في الدراسات التاريخية، بسبب هذه المحاكاة الرتيبة. أن من الضروري عند دراسة الكومنترن كجهاز، كمنظمة عالمية، لا يجوز التركيز فقط على الأمناء في اللجنة التنفيذية، بل يجب الأخذ بنظر الاعتبار تنوع المهام التي كانت موجودة آنذاك والتعامل معها بموضوعية. لقد لعبت النساء دورًا رئيسيًا. في التسلسل الهرمي للمهام والاعمال المرتبطة بها، كان يناط بهن ما يسمى عادة بالمهام الفنية، الأعمال الثانوية، والتي كانت لا غنى عنها في سياق انجاز ما يجب إنجازه.

 أهمية مؤتمر شعوب الشرق

 في أيلول 1920 انعقد "مؤتمر شعوب الشرق" الذي شارك فيه 1900 مندوب من آسيا وأوروبا.  لقد أرسى الأساس لاندماج مجموعات جديدة في نضال الحركة العمالية. ومن خلال المؤتمر، انفتح الكومنترن، الذي كان يركز سابقًا على المعيار الطبقي، على فئات الجنس و "العرق" / الإثنية وتفاعلاتهم. وبالتالي هناك من يقول إن الكومنترن دعا إلى "النظرية التقاطعية" بشأن تداخل أشكال التمييز، التي تعتمدها الحركات النسوية، قبل التوصل اليها، وان كان بشكل غير صريح. يمكن القول إن قيادة الكومنترن بذلت جهودا كبيرة في الجمع بين مختلف الفئات التي تناضل ضد مختلف اشكال التمييز. لقد كانت الطبقة دائمًا، بالنسبة لهم، هي المعيار المركزي. لكن الكومنترن رأى أن الاضطهاد على أساس الجنس أو العرق يلعب دورًا مهما أيضا. أرادوا دمج نضال الأوساط الاجتماعية المتضررة. ويعتبر مؤتمر باكو مثيرًا للاهتمام، لقد تم التأكيد على انتخاب النساء لعضوية لجنة رئاسة المؤتمر، وفي بعض الحالات على قدم المساواة، على الرغم من النساء شكلن نسبة ضئيلة بالنسبة لمجموع قوام المؤتمر.

بالإضافة إلى ذلك، حظيت قضايا المساواة بين الجنسين بقدر كبير من الأهمية. وهذا نهج رائع، خاصة وانه حدث قبل مئة عام. بالإضافة إلى أن البيئة التي انعقد فيها المؤتمر، هي جزء من العالم تسوده ثقافة إسلامية أبوية ومحافظة جدا. لقد قاد البلاشفة حراكا استثنائيا، في لحظة للتقريب بين حركات التحرر الغربية والشرقية.

 معاداة الإمبريالية والشبكات الاستعمارية

 كانت مناهضة الإمبريالية من الناحية النظرية عنصرًا مهمًا في المفهوم السياسي والرؤية النظرية للبلاشفة. لكنها ظلت مجردة بعض الشيء. ويعود ذلك أساسًا إلى أن الصلات بين القوى المناهضة للاستعمار والتواجد الجغرافي للفاعلين في المراكز الأساسية الكومنترن، شبه معدومة. لقد كانت هناك قوى معادية للاستعمار في فرنسا لم تكن على اتصال بالشيوعيين لفترة طويلة.  كانت هناك رغبة في التواصل،، لكن معظم الأحزاب الشيوعية كانت، في سنوات الكومنترن الثورية الأولى، لها أولويات مختلفة. ولهذا كانت هناك حاجة إلى وسطاء بين الطموحات السياسية وقرارات الكومنترن والممارسة السياسية.

كان على بعض كوادر الكومنترن القيام بهذه المهمة، منهم، على سبيل المثال، الألماني فيلهم مونزنبيرغ، الذي كان قياديا شيوعيا، وصاحب دار نشر، وصانع أفلام، الذي كان شديد الالتزام وحقق الكثير. لقد نجح في إنشاء شبكات عالمية. لكن كان عليه دائمًا توفير قناعات بمبادراته والحصول على موافقات، وغالبًا ما كان يواجه جهازا يرفض خططه، بسبب التردد والخوف، بحدود معينة من اتخاذ قرارات سياسية خاطئة. وفي أحيان أخرى، تكون التكاليف المالية هي العائق، بالإضافة إلى نقص الكادر، أو أن الكومنترن كلف كوادره بمهمات في مواقع أخرى. نحن هنا امام معادلة مثيرة للاهتمام بين المثل العليا والامكانيات الواقعية، وغالبا ما كان يُسمع: للأسف هنا يجب علينا الادخار.

 الكومنترن وصعود الستالينية

 منذ عام 1924 أصبحت الستالينية سائدة ليس في الكومنترن، بل في الحركة الشيوعية العالمية. وأصبح العمل في ظل الستالينية أكثر صعوبة، بدءا من تحديد مساحة حرية التعبير عن الرأي وتعميق المناقشات، وبمرور الوقت. لم يعد كل موقف مقبولًا بعد الآن، لذلك كان على كوادر الكومنترن دائمًا الاعتماد على قدراتهم في معرفة: ما الذي يمكن أن يقال؟ ما هي الخيارات التي يمكن استخدامها؟ كما أثرت المركزية والهرمية الشديدة بشكل متزايد في تضيق مساحة خيارات العمل. ومن الأمثلة على ذلك ما حدث للشيوعي الهندي الشهير روي، الذي تم إرساله إلى الصين، على الرغم من أنه فضل العمل في الهند. لكن ستالين حرمه من ذلك. لم تقتصر عمليات التطهير الستالينية على الحزب الشيوعي السوفيتي، بل شملت عددا كبيرا من العاملين في الكومنترن، وعددا من شخصيات شيوعية قيادية، وكوادر فنية ومهنية في الأحزاب الشقيقة، جاءت لدعم البناء الاشتراكي، أو لجأت إلى الاتحاد السوفيتي، بعد فشل عدد من الثورات العمالية، وتصاعد قمع النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، وفي هذا السياق تمت تصفية العديد منهم، بالإضافة إلى التدمير النفسي الذي عاشه عدد آخر، وخصوصا المثقفين والمشتغلين في المجالات الإبداعية.

*- نشرت في العدد 147 من مجلة الشرارة النجفية

عرض مقالات: