يمنى العيد*

في أواخر شهر تشرين الأول من العام 1967 كان لقائي الأول به. لا أدري لماذا حين سلَّم عليَّ معرِّفاً بنفسه، راودتني صورة الجموع التي كنتُ قد شاهدتها قبل أشهر في تظاهرة احتجاج على هزيمة حزيران (يونيو). ربما هي تعابير وجهه ولباسه البسيط وضعاه متموِّجاً، كشبيه، في تلك المظاهرة.

في ما بعد، وكان وجوده قد صار أليفا، أخبرته بحكاية الشبيه في تلك المظاهرة. هكذا انفتح الحوار بيننا ليستمر على مدى عشرين سنة، بدأ من صورة الشبيه للمناضل وانتهى بالمناضل الحقيقي الذي لم يعد يُحتمل، فاغتالوه.

تحملني ذاكرتي اليوم إليه، وقد وصلني عتابه: “لا زلتُ أنتظر زيارتك لي، لذلك الزمن الذي كنا نتحاور فيه. تقرأين ما أكتب وتطرحين عليّ أسئلتكِ… كنتُ وأنا أجيب عليها وأشرح أفكاري، أقول لكِ بأن ذلك يجعلني أتعمَّق في ما أكتب وأستوثق منه”.

وكنتُ أبتسم مدركةً غايتكِ ممّا تقول. تودُّ إفادتي بدون أن أشعر بأني أتعلّمُ منك. هو نبلكَ الذي لم يحتمله الآخرون.

سأعود بذاكرتي اليوم إليكَ… إلى بعض الأوراق التي وجدتُها صدفة بين ملفاتي، سأستعين بها لأوقظ ذاكرتي ببعض حواراتنا الفكريّة التي كنتُ أدوِّن بعضها حين أخلو لنفسي.

المفكر: البنية والاختلاف

س ـ ما هي البنية؟

ج ـ البنية هي مفهوم تاريخي. إنها مرحلة، أو زمن مخصَّص بنمط من الإنتاج. لكن بنية هذه البلاد، بلادنا المتخلِّفة، محدَّدة لا بصفتها الإنتاجيّة بل بصفة علاقتها بالرأسماليّة.

س ـ هل يعني ذلك أن الصّراع يتحدَّد بصفته صراعاً مع الرأسماليّة، أي أنه صراع سياسيّ؟

ج ـ هو كذلك، أو هو أساساً، أي في حقيقته، تناقض سياسي، ولكنه يظهر عندنا، في لبنان، كتناقض طائفي. فالطائفيّة هي الشكل الإيديولوجي الرئيس للتناقض السياسي.

س ـ ولكن الصراع يدور على الأرض بين الطوائف… فكيف يمكن أن تكون حقيقته غيرَ ذلك، أي غير طائفيّة؟

ج ـ ينتمي هذا القول، أي القول بأنَّ الصّراع هو صراعٌ طائفي، إلى الفكر التجريبي الذي يرى إلى الأمور في تمظهرها، وليس في حقائقها. الصراع الطائفي هو مظهرٌ للتناقض الرئيس الذي هو دوماً سياسي. إن هذا الصراع الطائفي هو مشروع للبنان، والسير فيه هو تجاوز للحقيقة، ويؤدي إلى الانتحار.

أتذكّر وأتساءل: هل نحن اليوم، في ما نعانيه، نسير على هذا الطريق؟ طريق الانتحار! أأتساءل وأستعيد ذاك الحوار الذي اعتمدتُ في تدوينه على الذاكرة. لكن الذاكرة لا تكفي حين الكلام على مسائل فكريّة. هكذا أعود إلى كتاب مهدي عامل “في التناقض” الذي كان يقرأ لي بعضَ صفحاته. يستوقفني مأخذه على ألتوسير وبولانتزاس، أي على عدم تمييزهما بين هذا التناقض الرئيس المسيطر، والذي هو دوماً التناقض السياسي، وبين مظاهره، لينتقد من ثمَّ النزعة الاقتصاديّة والإراديّة والذاتيّة واليساريّة.

كان مهدي يناقش مقولات الآخرين وينقضها، وذلك بالنظر فيها في إطار علاقتها بجهازها المفهومي عندهم.. فالمقولات هي أثرٌ لهذا الجهاز، وبالتالي فإنَّ نقضها يستوجب نقضه. هكذا حاول مهدي ترسيخ الحوار، لا من منطلق الواقع التجريبي، بل على أسس منهجيّة صلبة تعتمد العلم وتنتج المعرفة.

يشرح لي مهدي كيف انزاح التناقض السياسي، في لبنان، عن مستواه بحيث صار الصراع الطبقي يظهر كصراع طائفي، وصار هذا الصراع الطائفي هو المسيطر. هكذا وبدل أن يناضل المعوزون ضدَّ الأثرياء، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينيّة أو الطائفيّة، صار المعوز يقف مع الثري الذي هو من طائفته وضدَّ المعوز لأنه من طائفة أخرى. وبدل الصراع من أجل العدالة والمساواة، صار الصراع انتصاراً لطائفة ضدّ أخرى.

قول مهدي أنَّ الصّراع هو في حقيقته صراعٌ سياسي/طبقي أثار الكثير من ردود الفعل المستنكرة، فالصّراع في نظر المستنكرين كان يدور على الأرض بين الطوائف، فكيف يمكن أن يكون غير ذلك!

لكن مهدي كان يرى أن سادة الطوائف يريدون أن يكون هذا الصّراع طائفيّاً، ويعملون كي يبقى كذلك، وكي يصدق الناس أنه كذلك، عملوا على إدارة الصراع السياسي تحت يافطة الانتماء الطائفي، ففي ذلك مبرر لوجودهم في السلطة، بل ولبقائهم فيها.

أصرَّ مهدي وعمل، قولاً وكتابة، على توضيح كيف يمكن أن يكون الصّراع في مظهره غيره في حقيقته، أي كيف يمكن أن يتخذ الصّراع الطبقي/السياسي مظهراً طائفيّاً. هكذا ناقش مقولات الآخرين وعمل على نقضها بالنظر فيها في إطار علاقتها بجهازها المفهومي. فالمقولات، كما يقول، هي أثر لهذا الجهاز، وبالتالي فإن نقضها (وليس نقدها) يستوجب نقضه.

لم يتردد مهدي في مناقشة نصوص الماركسيين العرب أنفسهم. بل لعلّه، كما أذكر، أولى هذه النصوص أهميّة خاصّة، شأنه في كتابه “في الدولة الطائفيّة”. فقد انتقد استخدام بعضهم للمقولات الماركسيّة استخداماً ميكانيكيّاً، أو اعتمادها كمسلّمات جاهزة يجري إسقاطها على الواقع، ممّا يشوّه هذا الواقع ويكرّسه، بدل إنتاج معرفة به تساعد على تطويره، وربما على تغييره.

أذكر وأتذكر وأتساءل: هل كان إصرار مهدي على توضيح الحقيقة السياسيّة للصّراع الطائفي، وترسيخ أسس نظريّة منهجيّة صلبة تعتمد العلم وتنتج معرفة، سببا في اغتياله؟

ربما!

إذ لم يكن مقبولاً إزاحة الصّراع عن حدّه الطائفي لإنَّ هذا يعني، أو يؤدي إلى، إزاحة أسياد السلطة الطائفيّين عن مواقعهم فيها، فكيف إذا كان هذا الذي يوضح حقيقة هذا الصراع، مناضلاً شيوعيّاً خارجاً على كلِّ الطوائف؟

لم يكن مقبولاً أن يناضل المفكر ضد الطائفة التي ينتمي إليها، في الوقت الذي عليه أن يناضل إلى جانبها. لكن مهدي ناضل ضدَّ الطائفيّة، ضدَّها كنظام سياسي، وليس ضدَّ الطائفة. كما تصدّى لنقض الكثير من المقولات السائدة في ثقافتنا العربيّة، مثل: الأصالة والحداثة، الشرق والغرب، التخلّف والتقدّم، وموضوعة الـ أنا والآخر، والذات والموضوع… لأنها مجرد ثنائيات ترصد ولا تكشف عن حقائقها. كما ناقش عدداً من القضايا الهامّة المطروحة على فكرنا العربي المعاصر، مثل: قضيّة الفكر العدمي والفكر الهامشي، وقضيّة الطبقة المتوسّطة، وقضيّة البرجوازيّة الصغيرة…

كنتُ أسمعه يقول في بعض نقاشاتنا الفكريّة: ليس من مسلّمات ينطلق منها الفكر، بل على المفكِّر، وخاصة الماركسي، أن ينتج، أو يعيد إنتاج، مفاهيمه النظريّة بالنظر في الواقع بما لا يتنافى والاستمراريّة، أو يكرّر البدايات.

كان يقول ما يقول لأنه، كما أتذكر، بل وأعرف، كان يحبُّ الحياة، وكان ينتصر، بشجاعة، لها… شجاعة هي من النوع الذي ينطوي على احتمالات الموت.

الموت الذي ينتصر الشعرُ عليه.

الشعر الذي ينشد الحياة.

الشاعر

أتذكّر لقاءاتنا التي كنا نحتفي فيها بالشعر.

أتذكّر ذلك اليوم الذي زارنا فيه مهدي حاملاً كتابه الشعري الأول ” تقاسيم على الزمان” (1974)، تحت اسم هلال بن زيتون. قال:

ـ أنتظرُ رأياً وإن كنتُ لا أخشى قارئي.

ها أنا أتصفح الديوان وأقرأ: “لا بدَّ أن يهوي/ هذا الزمان الذي/ واقفاً يجري/ أدركتُ بالعقل هذا/ لم أكن وحدي/ معي كان الرفاق/ لكنني/ في لوعتي مما رأيت/ بقيت وحدي أنتظر/ على ضفاف الحلم/ وحدي/ سوف أهوي”.

هل كان يستشعر نهايته؟ هل كان رائياً كما كان يقول أحياناً؟

ربما!

لكن اللافت أن مهدي رفض مغادرة لبنان يوم أُخبِرَ، من قبل قيادة حزبه، بأنه مستهدف. كان ذلك بعد المعركة التي جرت في شباط/فبراير 1987، بين الشيوعيين والاشتراكيين من جهة، وحركة أمل من جهة ثانية (في رأس بيروت/شارع مدام كوري).

أتذكر تلك المعركة… كنتُ شاهدة على انتصار مقاتلي الحركة الوطنية ودخول الجيش السوري بعدها، مباشرة، منتصراً لمقاتلي حركة أمل.

لماذا؟ لماذا رفضت النجاة بنفسك؟ أسأل. وأسمعه يقول: “القضية ليست قضية فرد ينجو بنفسه، بل هي قضية وطن”.

أنت لم تغادر…

وأنا أعود بك إلى ذاك الزمن الجميل، زمن لقاءاتنا في الثانوية في صيدا، زمن الشعر، زمن إصغائنا للشاعر حسن عبد الله يقرأ من ديوانه الشعري “أذكر أنني أحببت” (1972) أبياتا من قصيدة “صيدا”. يخاطبك:

“ـ مهدي…/ ما هذا التجريد القاتل للأشياء/ ليت لي عين مهدي/

لكي أستطيع التوغل في العمر… “

مهدي… هل تسمع؟/ هل تسمع شيئاً غير هدير البحر البحر البحر البحر؟

لا تجيب، بل تقرأ من ديوانك ” تقاسيم على الزمان”:

“أنا الحدث الأول/ أهدم/ أبني/ والتاريخ بإمرة قولي ينتعل العقل بعيداً.

في نافذة العين/ أقيم/ يسطع وجهي/ حلم في حلم”.

حلم في حلم كان ذلك الزمن الجميل، الزمن الذي جمعنا في صيدا (1968-1976)، الزمن الذي لم يبق لنا منه سوى تلك الذكريات.

مهدى!

هل حقاً رحلت!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* تعيد "طريق الشعب" هنا نشر مقال يمنى العيد (القدس العربي - 5 تشرين الأول 2019) احتفاء بالذكرى الـ 33 لاستشهاد مهدي عامل، التي تحل هذه الايام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مهدي عامل في سطور

- د. حسن حمدان (مهدي عامل): من مواليد بيروت 1936، ابن بلدة حاروف الجنوبية، قضاء النبطية.

- درس في مدارس المقاصد الإسلامية في بيروت.

- 1956 سافر إلى فرنسا. نال من جامعة ليون شهادتي الإجازة والدكتوراه في الفلسفة.

- 1960 انتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني.

- 1963 سافر إلى الجزائر، وبقي فيها أربع سنوات معلما في دار المعلمين في مدينة قسنطينة.

- 1977 أستاذ في الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية الفرع الأول، وبقي فيها حتى اغتياله بتاريخ 18/ 5/ 1987.

* بين مؤلفاته:

- مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني

- أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازية العربية؟

- النظرية في الممارسة السياسية - بحث في أسباب الحرب الأهلية

- مدخل إلى نقض الفكر الطائفي: القضية الفلسطينية في إيديولوجية البرجوازية اللبنانية

- هل القلب للشرق والعقل للغرب - ماركس في استشراق إدوارد سعيد

- في علميّة الفكر الخلدوني

- في الدولة الطائفيّة

- نقد الفكر اليومي

- في تمرحل التاريخ

- وفي الشعر: (تقاسيم على الزمان) و(فضاء النون)