
صدرت رواية الكاتب كريم عباس حسن عن دار ميزر في السويد عام 2025وهي الرواية الخامسة بعد روايات (مصير بلقيس، البطريق الحالم، قاموس الخلاص وغابة همر باكر).
يهدي الكاتب كريم روايته، الى أصدقائه السوريين الذين عاش معهم على الحلوة والمرة والذين تركوا لديه الانطباع الطيب والوجداني فعاشوا في ذاكرته رغم البعد والمنافي.
وهذه الرواية تتجسد في عمق الروابط التي أقامها بطل الرواية سليم مع أهالي الشام، خاصة وهو الذي عاش في اغلب مناطق دمشق وتعرف على ناسها وأقام علاقة مودة ومحبة معهم.
لم يترك لي المجال في ترك قراءة الرواية، اكملتها في نفس اليوم الذي اشتريتها من معرض الكتاب في ستوكهولم، فهي ممتعة وذات سرد جميل تضع القارئ في متابعة احداثها الشيقة. خاصة انا وغيري من معارضي النظام الدكتاتوري في بغداد عاش في سوريا وفي العاصمة دمشق ولنا من الذكريات الكثير.
المواطن العراقي سليم ابن الديوانية الحالم بعالم جميل والوطن السعيد يترك بلده نتيجة الاضطهاد والمطاردة من قبل الأجهزة الأمنية في العراق التي تتعقب كل مواطن لا يسير مع نهجها الدموي ومارست شتى أنواع القهر والملاحقة. لكنه في خضم تلك الحياة أصبح جنديا في جبهة الحرب العراقية الإيرانية. برغم انه يكره الحرب حين يقول (انا انسان مضطهد ضد الحرب وضد النظامين في العراق وفي إيران).
لقد عاش بطل الرواية سليم معاناة حقيقية من أجل ان يعيش مثل الاخرين وكان نشطا ويحاول ان يجد عملا يليق به فهو الحلاق منذ الصغر وتعلم على ايدي ابن خالته حسن، ولكن بسبب ظروفه الاقتصادية لا يستطيع ان يعمل بهذه المهنة مستقلا. فكر في ان يجد ادميته في العيش الكريم اللائق، ولهذا عمل في إحدى عشرة مهنة مختلفة، صبغ الموبيليات وخباز وحارس وصانع حلاق وحلاق ...الخ.
كانت لديه لوعتان، لوعة الجوع القاتل عندما كان طفلا، تضمه امه لصدرها ولوعة الحب الذي تركه في إيران بعد ان تم تسفير خطيبته (آمال) لها.
لوعة الجوع لثلاثة أيام لم يتذوق فيها سليم وجبة طعام، ذاق مرة واحدة رزا مطبوخا خاليا دون أي إضافة. ويذكر هنا (في اليوم الثالث من لوعة جوعه، كان سائرا يبحث عن عمل، مر قرب مخبز في مساكن برزة، لم يستطع مقاومة رائحة الخبز الطازج الحار، المنبعث من الريح الساخنة، بينما وقف الناس في طابورين يصطفان بانتظام، ينتظر كل واحد منهم دوره، فكر ان يطلب رغيفا من أي شخص، لكنه عدل عن رأيه، فكر ان يقف في الطابور، وحين يصل دوره، يطلب من البائع رغيف خبز او اثنين بحجة فقدان المبلغ الذي كان معه. اثناء هذه اللحظة الطويل، وهو مطأطئ رأسه، شاهد عملة بيضاء نصف ليرة على الأرض، وضع قدمه الايسر على العملة، ثم نزل بهدوء جالسا القرفصاء بحجة ربط حذائه لأجل الحصول على الكنز الذي وجده. لذا كان وقوفه في الطابور أمرا طبيعيا، فهو يملك المال لشراء ثلاثة أرغفة خبز تناولها ماشيا وهو في سد رمقه الأخير الذي ذكره بقطعة خبز امه وحنانها في لوعة الجوع الأولى ص54).
أقام سليم علاقة خاصة مع عائلة أبو وسام حتى أصبح واحدا منهم، خاصة عندما أراد ان يسافر رفضت العائلة سفره حين قال لأم وسام (خلاص يا اختي بلا سفر، بلا وداع إذا انت ما بدك بكرة افتح المحل (أي محل الحلاقة الذي كان يعمل به في دويلعة).
وصل بطل الرواية سليم الى الدنمارك طالبا اللجوء وبعد عامين عاد الى دمشق لزيارة عائلة أم وأبو وسام وهي القريبة جدا منه حتى يطلق على أم وسام انت مثل اختي أم كاظم. ذهب مع صديقه حسين الى دويلعة لزيارة العائلة وبعد الاستقبال والاهتمام من العائلة حيث عم الفرح والسعادة في نفوس الجميع بما فيه حسين الواقف خارج البيت وبعد ان شاهد هذا الاستقبال اعتذر حسين من دخول البيت قائلا (هنيئا لك هذا الاستقبال، فقط أهلك في العراق يستقبلونك بهذا الزخم من المحبة والاهتمام) ص 77.
حاول زيارة أغلب أصدقائه الباقين في دمشق ومنهم من كان دائم الحضور أبو حالوب والفنان غانم بابان كما سافر الى الكثير من مناطق سوريا التي لم يرها سابقا بسبب ظروفه المادية.
حاول سليم ان يجمع أصدقائه ومنهم المتضادان (فليح وعبد) وهم على طرفي نقيض حيث كل واحد منتم الى جهتين الحزب الشيوعي اللجنة المركزية والقيادة العامة وكان في وقتها سليم مع اللجنة المركزية مع الاحتفاظ بصداقته وعلاقاته الاجتماعية بجماعة القيادة.
يحاول سليم ان يعيد ذكريات سنوات من العشرة والعلاقة الطيبة لكنه ومنذ الزيارة الأولى تتداخل الامنيات مع الواقع حيث يقول (لابد من الانتظار، السفر الى سوريا لايزال فيه نوع من المجازفة.. خاصة عند لقائه مع زميلته الحلاقة عشتار بعد عودتها من سوريا وكان يريد تقصي الاخبار في دويلعه وبعض من يهمه امرهم حيت تسرد له الوضع فكانت النتائج سيئة جدا فالدمار شامل ولا أثر لمن يسأل عنهم. قالت عشتار كلاما معطرا بشوارع دويلعة، مألوفا، كما يشمه خلال طعام المكدوس في بيت أم وسام...خرج سليم محبطا بعد إزالة الشعر الطويل من تجاويف اذنيه أحس بنشاط حاسة السمع لتعيد اخبار ومصير أصدقائه الذين تشتتوا في بقاع العالم.
الرواية تجمع المتضادات الحياة القاسية والامل الذي ينتظره سليم ورفاقه.
رواية (حنين لسوريا) تستحق القراءة. شكرا للكاتب الروائي كريم عباس.
*الرواية كتبت بعد سقوط نظام الأسد في سوريا.
تشرين الأول 2025