(تعبتُ فجلستُ
ومرّت بي فتاة ٌ وقالت:
ما بك تجلس على الوقت!) زياد رحباني/ القصيدة(22)
(*)
(صديقي الله) كتابات سجلها زياد بين سنتيّ (1967 و1968) بدأها وهو في الحادية عشرة وانتهى منها وهو في الثانية عشرة، لا عناوين للقصائد بل أرقام، تمنح القارئ حرية العنونة، ربما يكون أكثر من عنوان لكل قصيدة من القصائد ال (49)
وفي هذا الشهر وتحديداً في 31/ 8/ 1971 صدحت هذه الكتابات الشعرية. زياد الرحباني جاء إلى الدنيا في 1956، وهو واضح مثل ورقة بيضاء، لكنه مصاب بلوثة الشعر، هبطت عليه الإصابة وجعلت أصابعه أوتاراً تعزفه أحلام زياد من خلالين : الرؤية/ الرؤيا هو الصغير الذي يعلن (ما أحلى الحياة عند أطفاءة شموع سادسة)،هو لا يدعي معرفة ً بل يجاهر بجهله البريء وهو السائل والمجيب
( ما أعرف؟
لا أعرف شيئا)
ثم يرسم لنا مخططاً شعريا لفضائه المعرفي المادي الملموس والمعيش
(لا أعرف إلاّ لي بيتاً بجدران
سريراً وصورتين
خبزاً وماء لا غير)
كأنه في قليةٍ من قلالي الرهبان، الطفل زياد في وردته السادسة المضيئة لا أحد معه، كأن الفضاء حيز ٌ والعالم بعينيّ هذا الطفل (بيتاً بجدران) ما بين القوسين يحوّل العادي إلى غير العادي، كان من الممكن أن يكتفي القول الشعري: (بيتاً) كما قال (سريراً) لكن تثبيت مفردة (بجدران) توحي بالضيق، فهو يريد البيت، لكن يرفض جدرانه، وها هو الشاعر يخبرنا في القصيدة (6)
(أخرج من غرفتي وأختي ما تزال نائمة
هي مرتاحة البال
أصدقاؤها كلهم هنا في الحي
يلعبون كل يوم، كل ساعة
يعمرون الوقت كالبيوت الرملية
ومتى هدموه، غابت الشمس فوق البحر
سأعود إليهم
نلعب بين البيوت)
الفرق بين هذه القصيدة والقصيدة الأولى، أن هذه القصيدة، الشخص مرتاح البال: وهي الأخت، أما في القصيدة الأولى، فالشخص وحدهُ، وحدةٌ مطلقة
بينما الأخت (أصدقاؤها كلهم هنا في الحي) ولهم حرية ٌ باذخة (يلعبون كل يوم، كل ساعة) ويتعاملون مع الوقت رمليا (يعمرن الوقت كالبيوت الرملية)
وحين يعودون يعود معه ويشارك اللعب لكن (بين البيوت) لا (في البيوت)
كأن البيوت أقفاص والشاعر زياد رحباني عصفورٌ، كما جاء في القصيدة (38) وهي قصيدة قصيرة، مكتملة جمالياً :
(كيف أفهمك
يا عصفور قفصنا
إنني غيرُ أهلي
لا أحبُ أن أقتني
لا أقفاصا ولا عصافير)
لكن الشاعر يحتاج البيت أمام شراسة الطبيعة في القصيدة (8) فهو يطالب المطر والرعود والريح والصواعق والثلج، بفروض التأجيل، يريد من السماء أن تأجل مطرها، ريثما يصل هو إلى بيته :
(متى عدت إلى بيتي
فأمطري يا سماء
لن يتبلل ثوبي الأحمر).. ونفس الخطاب يبثه إلى الرعد
(متى عدت إلى البيت
فأغضبي يا رعود)
ثم يخاطب الريح
(متى سكرت الباب
وقفلته مرتين
فصرّخي يا ريح أمام الأبواب
لن تفتح)
ثم يخاطب الثلج :
(متى أوقدت النار في الموقد
فسل يا ثلج عن ولد
كان هنا مكانك يلعب)
ثم الصواعق
(متى غفوت في السرير
لا عندما أكذب على أمي
بل عندما أغفو حقاً
فأنزلي حقا يا صواعق)
الإحالة التكرارية الأخيرة، تختلف
(أنا في الداخل
والباب موصد
والنار مشتعلة
فيا شتاء أقبل)
نلاحظ أن المستثنى من التأجيل هي النار التي أراها شخصيا فاكهة َ الشتاء
الذات هنا وحدها، لا أحد معها، وهذه الذات لا تقول بيتنا، بل (بيتي)
وهي ذات لا قدرة لها على عناصر الطبيعة، وكل ذواتنا لا قدرة لها
ترجوها لتأجيل فاعليتها : (متى عدت) وما بين القوسين نسق خماسي
ومتى : اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب على الظرفية الزمانية
وضمن سياق الجملة الشعرية فأن متى تعني : حين أعود إلى البيت
والقصيدة لا تخلو من المرح بين صبي في بداية العقد الثاني من عمره وهو زياد الرحباني وهذه العناصر المكينة. في النسق السادس/ الأخير تسري الطمأنينة في ذات المتكلم فهو في البيت، وخلف الباب، والنار مشتعلة، وحين يقبل الشتاء أمامه مصدان : بابٌ موصدٌ ونارٌ مشتعلةٌ.. السيادة هنا للنار المشتعلة، التي تسري في شرايين البيت والمتكلم
(*)
القصيدة (10) تفند واحدية الذات في القصيدة السابقة، والقصيدة(10) حكاية شعرية بسيطة وعميقة
(جلست أمي أمام الموقد تخبرني قصة
قالت : كان رجل يعمر بيتاً
كان فقيراً وجمّع الأحجار حجراً حجراً
أتى بها من الأحراج والغابات
وأتعبه العمل لكنه أكمل قائلاً في نفسه :
أعمر بيتاً وأسكنه لباقي العمر.
وظل يعمر طول عمره
وعندما انتهى البيت، انتهى صاحب البيت.
قلت لأمي : هل انتهت القصة؟
فقالت أمي: نعم.)
حكاية شعرية قصيرة لكنها عميقة المغزى، وتزداد عمقا ً حين يسأل الابن أمه
: (هل انتهت القصة؟) أليس في سؤال الابن: رفضا لهذه النهاية الحكائية؟
الثلاثة انتهوا: الحكاية، والبيت، والفقير باني البيت، الذي لم يعنه أحد في البناء، وكأن قول الفقير (أعمر بيتاً أسكنه لباقي العمر) استفز قوة ً غامضة!!
في القصيدة (30) السطر الثالث يعني الكثير (العمر يفر من ساعة على طاولة في بيتنا) وفي السطر السابع يتساءل الشاعر
(إذا يوماً خطر ببال الطريق أن يسافر
أن يحمل الأشجار ويسافر).. هنا الغرائبية الشعرية في السطر الثالث، العمر يفر من ساعة على طاولة البيت! لماذا العمر الذي يفر وليس الوقت الذي في الساعة ؟ ربما سنجد جوابا ً بعد عدة سطور في قول الشاعر
(ومهما اشتدت الحروب
ألا تبدر ضحكة عن وجه
من حشود تجمعت رسميا؟)
وتتضح الصورة أكثر في هذه السطور
( وفجأة
انفجر البعيد
ارتج بيتنا)
ثم تنشط المخيلة الشعرية
(خاف المطر وسقط عن الشبابيك)
(الأولاد كالعصافير رفرفوا وطاروا)
(سقطت صورة عن الحائط)
تتوالي سطور الحرب شعريا، ينهمر الخراب ويسقط المستقبل بهيئة شباب
مسالمين تقتلهم الحرب، وحده الشعر من يستعيد الحياة، فالأمل
والرسم توأمان :
(أتيت ُ الأولاد المشردين بالأوراق
وسألتهم أن يرسموا أشجاراً)
هو أراد منهم أن يرسموا الأمل، لكن الأولاد رسموا المجزرة:
(فرسموا أغصانا طويلة فارعة
نائمة على الأرض
وعليها مدفع وعسكر)
(فقلتُ : لا، إلاّ هذا )
يصرّ الشاعر على الجميل والطمأنينة العائلية، فيطلب منهم
(أرسموا زهراً وبيتا ً)
الأولاد يرسمون ما تراه أعينهم
(فرسموا زهورا ملقاة ً في مياه المطر
والعسكر يدوسها)
ويواصل الشاعر الرسام مخاطبتهم
: (أرسموا عصفوراً يغني)
(كما كنتم ترسمون مِن قبل)
الرسام يريد تنشيط ذاكرتهم، لكن العين التي رأت كل الخراب، تتقاطع مع إرادة الرسام :
(فرسموا عصفورا يبكي
والمطرُ يهطل
فسكتُ وأخذت أوراقي
وذهبتُ) الرسام ينهزم، المشردون في طفولتهم، يرفضون تزييف الميداني البشع، يريدون تأبيده فنيا حتى لا تغفر الذاكرة.
(*)
يستوقفني هذا المقطع من القصيدة (9)
(آه لو كان الكلام كالخبز يشرى
فلا يستطيع أحد أن يتكلم
إلاّ إذا أشترى كلاما) هذا النص عميق وغزير، لكن الآن عطلته التقنية، فصرنا نشتري الكلام، أرصدة للموبايل، أرصد للنت تدفع شهريا، وصار الكلام، أهم من الخبز ويصاب الكل بالهلوسة، حين ينقطع النت. كأن التواصل النتي أوكسجين حياة البشرية!!
(*)
كتاب زياد رحباني(صديقي الله) يبلغ الآن من العمر أكثر من نصف قرن وما زال الكتاب حيويا ويدفع القارئ لأكثر من نزهةٍ فيه، في هذا الكتاب نلمس علاقة العبد بالمعبود، وكيفية التعامل بينهما، وفي هذا الكتاب يصبح للضحك أكثر من معنى. لكن قراءتي توجهت بعد تكرار النزهات وحاولت الصيد مع مفردات (البيت) في هذا الكتاب المحافظ على دفئه وسعته الشعرية
(*)
مسك الختام اقتطف القصيدة (21) ليتأملها القارئ بعينين مغمضتين
(لو عددتُ درجات بيتي
وكم مِن مرة صعدتُها
لكان هذا الدرج طويلا
يخترق السحب
ولو عددت ُ ضحكات أمي لي
لرافقتني طوال صعودي
ووقعت ْ مِن بعدي الضحكات على الدرج
وأزهرت زهراً)