الأنساق المضمرة في التفكير البلاغي:

يعتني البحث البلاغي المعاصر كثيرا بالأنساق المضمرة ، فالأساس في النص هو المضمر ،أما الظاهر فهو معطى سطحي ، له وظيفة ثانوية في النص هي الوصول الى النص المضمر ،وقد اعتنت لسانيات النص بالمضمر مثل التداولية والحجاج و السيميائية وبعض النظريات النقدية مثل نظرية استجابة القارئ، ونشير بوجه خاص الى الحجاج " ..إن فجوات القراءة، هي تلك التي يضعها المحاجج في النص، والغرض هو ملء فجوات القراءة، وندخل هنا في بعض اليات التأويل ، فالمعنى المضمر، هو في النصوص العالية وفي بعض النصوص التاريخية والأدبية والإعلامية، والمعنى التأويلي هو معنى مضمر ، تستخرجه القراءة ،ولكن أين يقع المضمر في لسانيات النص ؟ هل هو في العلاقة الوثيقة بين الخطاب والجدل؟ هل هو في السلم الحجاجي؟ هل هو في مطلق اللغة؟ كل هذه الأسئلة مهمة للوصول الى هذا المضمر، وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من الإشارة إلى مصطلحين : هما الحضور والغياب في النص ، فالحضور هو ظاهر النص والغياب هو المضمر ، على الرغم من أن المعنى الفلسفي لهما مختلف ..يلاحظ القرب الشديد بين لسانيات  النص ونظرية التلقي، ففي النصوص المعتبرة يلجأ الكاتب إلى مقاومة سهولة التلقي، لأن هذه السهولة تطيح بهيبة النص ..والمعنى والدلالة لا يمكن لهما أن يرسخا في ذاكرة المتلقي ، إلا بهذه الصورة التي تعتمد على عنصري الحضور والغياب ، لكنهما قديمان قدم أرسطو، وقدم الفكر المعاصر  توجد تصورات جديدة عن هذه الثنائية ... أفكار أرسطو كانت  حول استراتيجيتين، أولهما الإخفاء ويكون مصدرها المحاججة، وتعتمد الثانية على إظهار المضمر وتصدر عن القارئ ، المتلقي الذي يعمل بواسطة اليات معينة على وعي المخفي بطريقة تتلاءم مع المسلك الحجاجي، تنتظم هذه الثنائية مع ثنائيات علم اللغة الحديث واللسانيات ، أي أن النص الظاهر طريق لمعرفة النص الغائب ، ويقترب من ذلك تشومسكي في البنية السطحية والبنية العميقة ..إذ الظاهر دليل على المتخفي .

لامست الظاهراتية ذلك، كما اقترب منه أفلاطون من قبل، فالنص الظاهر ملموس ودون ذلك المتخفي.. الفكر والحقيقة قضيتان مجردتان، كلما ابتعدنا عن الملموس قاربنا الحقيقة، وهذه فكرة تتصل بنظرية أفلاطون في المثل، التي تجعل عالم المحسوسات ليس سوى مثير وتذكير بالعالم الاخر الغائب.. و سنجد هذه الفكرة في بعض معانيها عند أعضاء الهرمونطيقا الظاهراتية، أي البحث عن الدلالات والمعاني الثاوية بعيدا خلف السطور.

تعددت التسميات والمضمون واحد. نص غائب ونص متخف، نص مضمر ونص مسكوت عنه، ويكاد يلتقي مع هذه المسميات نص موحى به، والايحاء قريب من الإضمار ،وكل هذه المفاهيم تحتاج الى تأهيل مفاهيمي ولاسيما بارتباطها  بالقصد والسياق ، وهما عماد النظريات الحديثة كالتداولية ..ولابد في حضرة النص الغائب أن يكون للحجاج مثلا إضماره الخاص.. لكن الإضمار يتدرج من الجمل البسيطة الى الجمل المعقدة.. إن الجملة مهما كانت ، لابد أن تحتوي على إضمار ما ، ففي جملة : ذهبت الى التنزه  هذا اليوم ، على بساطتها فيها إضمار  لكننا في الإضمار  الإعلامي  والادبي  سنصل الى مستويات عالية منه .

 

المحكية والعالم الرقمي:

المحكية ترافق كل اللغات بلا استثناء، فهنالك اللغة العالية او لغة الادب وهنالك المحكية التي يتداول بها الناس عادة وتوجد لغة وسطى بين الاثنين هي لغة الاعلام وأصبحت هذه الوسطى مشكلة في البحث الأكاديمي.. اين نجدها؟ هل في الكتابة ام في الاستعمال. اننا نفكر بالمحكية ونكتب بالفصيحة، كان الجاحظ قبلا يكتب بهذه الوسيطة وكذلك فعل أبو حيان التوحيدي ولعل خطاب ألف ليلة وليلة مثال واضح كان ينحو أحيانا نحو المحكية بسبب طبيعة الحكي الذي هو قوام الليالي .... كانت المحكية تشكل تحديا للغة لكن  العالم الرقمي فاقم المشكلة بل قلبها راسا على عقب. لقد وجد تغيير كبير في الاداء اللغوي, والمواقع الشخصية لا تكاد تتحدث الفصيحة وتحسبها عيبا, و لابد من الحديث بالمحكية فهي اكثر ايصالا و اقل عناء ..اول انتهاك كبير حصل في بنية اللغة العربية هو تحويلها من لغة معربة الى لغة مبنية.

وقد يعتقد ان الإعراب ليس مشكلة العربية بل هو إشكالها، فهو يضع حروفا خارج البناء المعروف عادة للكلمة، اما البناء فإن كل الحروف داخل اللغة ولا يوجد حرف خارجها الا نادرا كما هو الحال في اللغة الإنكليزية.

التغيير الذي حصل في العقود الأخيرة كان حاسما لقد قلل من استعمال اللغة واستبدل الكلام بالصمت بمعنى ان هناك استعمالا اقل للغة في المعاملات اليومية بسبب التقنية الجديدة اذ تنجز المعاملات اليومية بلا استعمال للكلام، تدخل السوق وتشتري ما تشاء دون ان تنبس ببنت شفة، لان السعر مثبت وتدفع الثمن بالبطاقة الشخصية التي لديك.

وهذا الاستعمال لا مفر منه لأنه ينسجم مع طبيعة العصر و قد تشتري بضاعة وتدفع سعرها من دون ان ترى البائع بطريقة الثقة بالزبون في بعض المحلات و تصلك الى الدار بتطبيق الكتروني معين, بضع كلمات مكتوبة او مرسلة صوتيا.. حاصرت اللغة هنا الرموز الالكترونية وكذلك الصور والإعلانات فحلت هذه محل الكلمات، وليس ثمة اكثر من الإعلان دلالة و موضوعا واصبح الاعلان قبل البضاعة وتحليل الإعلانات الكبيرة ميزة أدبية كما فعل رولان بارت في بعض الإعلانات، هي دعوة مبكرة للأدب ليعطي بعض مهامه للإعلان وللصور.

((تنوب عن اللغة في فضاء التداول رموز الصور و الكتابة, يعني ذلك ان الممارسة اللغوية الفصيحة (تداول الكلام) اخذ بالنضوب, لتحل محله الرموز التعبيرية كما يحدث في النظام الاشاري بلغة المرور واللغات المحكية (اللهجات) واللغات المهاجمة (اللغات المصدرة للسلع المادية و المعرفية) لتنوء طبقة الفصيحة تحت ضغط طبقات أخرى مما يؤدي الى تسرب عناصرها وتراكيبها)) (مناهج اللغة والادب ص8).

المقتبس السابق لا يبالغ حين يشير الى خطر تسرب بناء اللغة الذي بنيناه وعرفناه و لعل الترجمة من اللغات الأخرى الإنكليزية و الفرنسية كان له هذا الأثر منذ زمن بعيد و لكن ما الذي حدث الان لتكون المشكلة اكبر واكثر تحديا..  يتعلق الامر باللغة الإنكليزية لدى الشباب و صغيري السن وهذا و ان كان غير محسوس لكنه طاغ على نحو واضح ف الإنكليزية لغة الحضارة والتقنية و من يمتلكها يمتلك القدرة على التفاهم مع الاقوام الكثيرة, يذكرنا ذلك بالشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي فهو وان كان يكتب شعره بالعربية السليمة و يحافظ على معمارها غير  انه تواق للإنكليزية منذ بداية القرن  فهي لغة الاختراع من القاطرة الى السيارة الى التلفون ثم الكهرباء وأي خير يرتجى من لغة لا تخترع شيئا و أهلها نيام حتى أفول الصباح.

لكن ما يقف بوجه هذا الازدراء للغة معمارها العظيم و تاريخها و ارتباطها بالدين اما الان فقد اصبح التحلل من قواعد اللغة ومن قدم هذه القواعد وتعقيدها امرا لا مفر منه من دون ان يرافقها الصوت او الاستعمال و بهذا الجو الجديد بدت حركة التصحيح اللغوي لا معنى لها,  تصحح الأخطاء لا لكي يتجاوزها الكاتب بل لكي يكررها كل مرة و من امثلة تسرب التراكيب (التاثير في الشيء) يتحول الى التاثير على الشيء احتذاء بالتركيب الإنكليزي.. (His words had a strong effect on me)

كان لكلماته تأثير قوي وتقوم اللغات المحكية الاختزالية بانفكاك بنيوي عن الفصيحة و ليس بانفكاك على مستوى العناصر, الخطورة تزداد حين ننظر في تدفق المصطلحات التي ينتج عنها زعزعة المفاهيم التي تؤثر في أنماط الفكر لدينا ولهذا أسباب موضوعية لا علاقة له  بصراع اللغات بل له علاقة بوضعنا في موقع الحضارة, فنحن نحتل موقع المستهلك الذي يستورد الالة مع اسمها.(مناهج اللغة والادب ص9.)  من الإشارات البدهية،أ ن الكلمات الجديدة والصيغ الجديدة ، يصنعها الإعلام ، وهذه المواضعة الفكرية أصبحت أكثر رسوخا بعد الثورة الرقمية ، فقد ضعفت سلطة المجامع اللغوية عن ملاحقة الجديد ، فأصبحت أجهزة الإعلام ، هي التي تقود المجامع اللغوية ..توسعت أجهزة الإعلام في الأقيسة ..مثل توليد أفعال على وزن فعل أو فوعل أو فعلن مثل تعذيب مياه البحر ،تبوير الأرض الزراعية والعوربة، والإكثار من صوغ المصدر الصناعي من الأسماء الجامدة والمشتقة مثل الدونية  الاحقية ..وجمع الجمع مثل نفوط أقماح السحوبات وغير ذلك كثير يبقى ان وصف الظاهرة ليس طريقا سليما دائما، لابد من جهد مؤسسي وهو ليس في متناول اليد .

 

المصادر

1- مناهج اللغة والادب مجموعة بحوث صدرت عن جامعة الامام الكاظم عن مؤتمر مناهج اللغة العربية.2023

2-  عبد الله محمد الغذامي, النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي.

3- النقد واللسانيات محمد رضا مبارك.دار أمل الجديدة دمشق 2019

4- ميلكا افيتش, اتجاهات البحث اللساني, ترجمة سعد عبدالعزيز مصلوح, المجلس الأعلى للثقافة, المشروع القومي للترجمة في جمهورية مصر العربية.

5- مورفولوجيا الحكاية الخرافية ترجمة أبو بكر احمد باقادر, النادي الثقافي الادبي في جدة 1989.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*اكاديمي، شاعر وناقد عراقي.

عرض مقالات: