تعد إيزابيل الليندي، واحدة من أبرز الروائيات في أدب أمريكا اللاتينية، والتي عُرفت بقدرتها الفريدة على المزج بين التاريخ والخيال، وإضفاء بعدٍ إنساني عميق على الأحداث الكبرى. إذ لم تكن أعمالها مجرد سرد للحكايات، بل إعادة إحياء للذاكرة الجماعية، حيث تتشابك السياسة مع مصائر الأفراد، والواقع بالخيال، في نسيج أدبي ينبض بالحياة والأنسانية. وفي روايتها "سفينة نيرودا" تعيد الليندي تسليط الضوء على حدث تاريخي مهم، وهو هجرة اللاجئين الإسبان إلى تشيلي عام 1939، عبر السفينة (وينيبغ) التي نظمها الشاعر بابلو نيرودا. لكن الرواية ليست مجرد تأريخ لهذا الحدث، بل استكشاف لمصائر الشخصيات التي حملتها السفينة، وتجسيد لكيفية تشابك السياسة مع قدر الإنسان. ومن خلال هذا السرد، تطرح الليندي تساؤلات جوهرية حول تكرار التاريخ، والمنفى، والهوية، مما يجعل الرواية شهادة أدبية تتجاوز زمن وقوعها، لتلامس قضايا معاصرة لا تزال حاضرة حتى اليوم.

 السياسة أداة توجيهية في الرواية

تُوظّف إيزابيل الليندي في "سفينة نيرودا" السياسة كعنصر محوري يوجه مسار الشخصيات ويعيد تشكيل مصائرهم، حيث تتشابك الأحداث الفردية مع التغيرات السياسية الكبرى. الرواية لا تقتصر على كونها سرداً لأحداث تاريخية، بل تستخدم السياسة كأداة لتوضيح تأثير السلطة والصراعات الإيديولوجية على الأفراد والمجتمعات، مما يمنح السرد بعداً نقدياً وتحليلياً يعكس تعقيدات الواقع.

 السياسة هي المحرّك الأساسي للأحداث

تبدأ الرواية من سياق سياسي واضح: الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) وما تبعها من قمع وفرار آلاف الإسبان إلى المنفى. القرار السياسي الذي اتخذه الشاعر بابلو نيرودا، بتنظيم رحلة السفينة وينيبغ لنقل اللاجئين إلى تشيلي، يُمثّل نقطة انطلاق الرواية، حيث تتحول الهجرة القسرية إلى تجربة إنسانية تعكس التداعيات القاسية للقرارات السياسية على الأفراد. فيجد أبطال الرواية أنفسهم عالقين بين الإيديولوجيات المتصارعة، حيث لا يكون المنفى مجرد انتقال مكاني، بل تجربة سياسية تفرض إعادة تشكيل الهوية والانتماء. اما المسافرون على السفينة فليسوا مجرد لاجئين، بل هم ضحايا لصراعات سياسية فُرِضت عليهم حياة جديدة لم يكن مخطط لها، بل لم يكونوا مستعدين لها.

كما تُظهِر الرواية تأثير السياسة في تشكيل الشخصيات وتوجيه أفعالهم، حيث يتحوّل الانتماء الإيديولوجي إلى عنصر محدِّد لمصائر الأفراد. فهؤلاء اللاجئين القادمين من إسبانيا يحملون معهم آمالاً ثورية، لكنهم يصطدمون بواقع سياسي جديد في تشيلي، حيث يواجهون تحديات التكيف مع مجتمع له سياقه السياسي المختلف. كما أن شخصية نيرودا نفسها تُقدم من منظور مزدوج؛ فهو ليس فقط الشاعر الرومانسي الذي أنقذ اللاجئين، بل هو أيضاً شخصية سياسية ذات تناقضات كثيرة، حيث تُسلّط الرواية الضوء على تعقيدات دوره السياسي، مما يجعل السياسة ليست مجرد إطار للأحداث، بل عنصراً يؤثر على الأبطال أنفسهم. كما تعكس الرواية كيف أن السلطة السياسية هي التي تحدد من يُمنَح حق البقاء، ومن يُجبر على الرحيل. والمنفى في الرواية ليس مجرد نتيجة للحرب، بل هو سياسة ممنهجة تُعيد توزيع البشر وفق مصالح القوى الحاكمة. اللاجئون الذين استقبلتهم تشيلي في البداية بحفاوة، وجدوا أنفسهم لاحقاً في مواجهة تحديات سياسية جديدة، خاصة مع التحولات التي شهدتها البلاد لاحقاً، مثل انقلاب بينوشيه في السبعينيات.

هذا الاستخدام للمنفى في الرواية جعل السياسة ليست مجرد خلفية للأحداث، بل عاملاً مستمراً يدفع الشخصيات لاتخاذ قرارات مصيرية. من هنا، تتحوّل الهجرة إلى تجربة سياسية بامتياز، حيث يكتشف اللاجئون أن نجاتهم من القمع لا تعني نهاية الصراع، بل بداية مواجهة سياسية جديدة في وطنهم الجديد. ولا تتوقف الرواية عند عرض تأثير السياسة على الشخصيات، بل توجه نقداً واضحاً للأنظمة القمعية، سواء في إسبانيا الفرانكوية أو في تشيلي لاحقاً. تُبرز الليندي كيف أن السلطة السياسية ليست مجرد أداة حكم، بل هي قوة تُعيد تشكيل التاريخ والذاكرة الجمعية، وتحدد من يمكن ان نعده "بطلاً" ومن يمكن ان يُعد "خائناً". كما تكشف الرواية التناقضات في تعامل الدول مع اللاجئين؛ ففي لحظة ما، يكونون موضع ترحيب لأسباب سياسية، ثم يتحوّلون لاحقاً إلى عبء يُراد التخلص منه. هذا النقد يُظهِر كيف أن السياسة ليست فقط أداة حكم، بل هي أداة تُعيد تشكيل صورة الشعوب أمام نفسها وأمام الآخرين. وعبر كل هذا يتحول التاريخ  إلى أداة نقدية، حيث يتم تسليط الضوء على تناقضات المجتمع، بحيث يصبح السرد التاريخي في سفينة نيرودا وسيلة لتأمل الحاضر بعيون الماضي، وإعادة تقييم الروايات السائدة عن الهجرة والمنفى. ولكن من المهم ادراك ان الرواية لا تقتصر على سرد الحدث التاريخي بشكل دقيق، بل تستعين بالخيال الأدبي لملء الفجوات وتقديم منظور جديد للأحداث، إذ تمنح الليندي القارئ فرصة لرؤية التاريخ من زاوية إنسانية، حيث تركز على معاناة اللاجئين، والمصائر غير المتوقعة التي قادتهم إلى الرحلة، والتحديات التي واجهوها في وطنهم الجديد. كما تُظهر الرواية كيف أن الأحداث الكبرى، مثل الحروب والثورات، لا تؤثر فقط على القادة وصناع القرار، بل تمتد إلى الأفراد العاديين الذين يجدون أنفسهم مجبرين على إعادة تعريف هوياتهم في أماكن جديدة. وهنا يتحول التاريخ إلى تجربة شخصية، تعكس صراعات الفرد مع المصير والاغتراب.

 التاريخ يعيد انتاج نفسه، لكن إلى متى؟

تفتح سفينة نيرودا باب التساؤل حول تكرار التاريخ، حيث تعكس مصائر شخصياتها دورات متكررة من النفي، القمع، وإعادة تشكيل الهوية. فمن الحرب الأهلية الإسبانية إلى التحولات السياسية في تشيلي، كما لو ان الإنسان محكوم بإعادة ارتكاب أخطاء الماضي، وكأن التاريخ دائرة مغلقة لا مفر منها. لكن الرواية لا تكتفي برصد هذا التكرار، بل تدفع القارئ للتساؤل: إلى متى سيظل التاريخ يعيد نفسه؟ وهل يمكن كسره؟ في جوهرها، تقترح الرواية أن الحل لا يكمن فقط في استذكار الماضي، بل في إعادة قراءته بوعي نقدي ذكي، وفهم أسبابه العميقة لمنع تكراره. إن هذه الرواية ليست مجرد قصة عن اللاجئين والمنفى، بل دعوة للتأمل في مسؤولية الأفراد والمجتمعات في كسر دوامة التكرار، وخلق مستقبل مختلف عن الماضي بخيباته والذي يُعاد إنتاجه مراراً. بحيث تساعدنا الرواية على محاولة استعادة الماضي، لكن بتأمل عميق للحاضر.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتبة وناقدة من الموصل.

عرض مقالات: