مما لا شك فيه أن القرية هي أولى التجمعات البشرية, ومنها انطلقت بداية الحضارات الإنسانية بعدما تحولت إلى مدينة, والمدن إلى حواضر. وأن الحروب التي دارت بين تلك المدن كانت نهاياتها مأساوية لكثير من تلك الحضارات. وما الآثار المنتشرة في مختلف أرجاء المعمورة, إلا دليل دامغ على ما خلفته من دمار في كل زمان ومكان.
وكان يمكن لتلك الحروب أن تقضي على الحضارات, بل وتُفني البشرية من وجه الأرض, لولا وجود كائن سحري, قوي بضعفه, أرقُّ من زهرة قطن, وأدفأ من بحيرة استوائية! هو بمثابة اكسير سحري يُعيد للأشياء حياتها؛ فتنهض من جديد. وحده قادر على لملمة شظايا ما انكسر, وإعادة ترميمه وإصلاحه. إنها الأنثى بكل تجلياتها, إينانا الأمومة والخصوبة والإبداع, آلهة الخصب والنماء.
وهذا ما حصل في السبيليات/ الرواية, التي استمدت عنوانها من القرية التي ولد فيها الروائي اسماعيل فهد اسماعيل, والتي تعرضت كبقية القرى والقصبات العراقية الحدودية مع إيران لويلات حرب الثمان سنوات؛ فأعادت إينانا لها الحياة. لكن فرق السلسبيات عن بقية تلك الأماكن هي عودة الأنثى لها, أم قاسم "أم الأرض" راكبةً حمارها "قدم خير" وبثتْ الحياة فيها ببساطة! دون الحاجة الى جهود كبيرة! بحمار وبضعة جنود طيبين وبقليل من الجهد, وأمومة عراقية معتقة, صنعت معجزة!

الأرض الأم

بناءً على ما تقدم فقد كان الكاتب موفقاً جداً باختيار المرأة "أم قاسم" بطلاً لروايته تلك.. لأنه من المقنع أن تحدث على يدها معجزة احياء القرية تحت وابل القصف! وتواصلها مع زوجها الغائب عن طريق الرؤيا, ذلك الزوج الذي كان عبارة عن مجموعة من العظام في حفرة مفتوحة وسط الحوش, لم تهل التراب عليها تحسباً لرحيل وشيك, كي تحمله معها إن حصل ذلك. ومن خلال تلك الكوابيس والأحلام التي تشاهد فيها "أبو قاسم" أو حديثها المباشر مع عظامه, كانت تستشرف وجه الغيب, وروح الحكمة, وتؤمن بما رأت, وتنفذه بكل ثقة وبساطة وهدوء "بعض الجنود يقولون أم قاسم تقرأ الغيب". ويستجيب القدر لقرآتها تلك, رغم أنها غير مطابقة للواقع, وغير مطابقة للاقناع الروائي! فعندما بُترت يد الجندي جاسم في القصف وغادر وحدته, تنبأت هي بعودته, ورغم أن "الجنود الذين يصابون بالإعاقة يعفون من الخدمة العسكرية بشكل آلي" وهذا مطابق للواقع في القوانين العسكرية, وهذه الرواية واقعية طبعاً؛ فمن غير المقنع أن يعود ذلك الجندي, لكنه عاد في نهاية الرواية "لم تكمل, غص فمها بصوتها, أفضى نائب ضابط صادق. وصل مع سيارة التموين. استماحها. لحظة. توجه للباب فتحه, دخل جندي جاسم" والغريب أني كقارئ رأيت عودته مقنعة! ولا أدري لماذا رأيتها هكذا! أ لأن الآلهة الأم أرادت, وهي على كل شيء قديرة؟! أم أنها براعة الكاتب؟!
التقنيات
استخدم الكاتب العبارات القصيرة, وهي تقنية ناجعة في القصص القصيرة, هذا إن استخدمت بشكل جيد طبعاً, وليس على علاتها. وهو أمر يعسر استخدامه في الرواية, ذلك العمل النثري الطويل الذي يستلزم اسهابه عبارات طويلة. لكننا نرى "السبيليات" منذ البداية حتى النهاية تتسم بقصر العبارة, التي تكون أحيانا من كلمتين أو كلمة واحدة. وهذا يتلائم مع طبيعة القروي الذي يميل عادة إلى الاختصار في الحديث, والرواية كما هو معلوم تجري أحداثها في قرية. وهذا الفهم يقودني إلى تقنية أخرى؛ فكما هو معلوم إن أي متكلم يقوم بتحريك رأسه وقسمات وجهه ليتمكن من إبصال ما يريد إيصاله إلى محدثه بشكل دقيق, سوى القروي, الذي يتحدث كأنه تمثال, دون أن يحرك شفتيه أحيانا, وربما يحصل هذا لشعوره أن لغته قادرة على التوصيل بشكل كامل. وربما هذا ما دعا الكاتب إلى عدم استخدام علامات الترقيم, طوال الرواية, سوى استخدامه للنقطة والفارزة وعلامة الحذف "التي توضع مكان الكلام المحذوف في نهاية جملة قُطعت لسبب ما". لكنه لم يستخدم علامة "الفاصة المنقوطة؛ "التي تستخدم بين جملتين الثانية منهما سبب للأولى. و"علامة الإستفهام؟ "نهاية الجملة الإستفهامية", و"علامة التعجب!" أو التأثر, التي توضع في نهاية الجملة التعجبية, أو المعبرة عن الفرح أو الحزن أو الاستغاثة أو الدعاء. وعلامة "القوسين" اللذين يوضع بينهما كلمة أو جملة تفسر كلمة غامضة سبقتها, أو الأرقام الواقعة في وسط الكلام. وكذلك لم يتسخدم علامة "التنصيص" وعلامة "خط مائل/" للفصل أو المقارنة بين عناصر مختلفة أوالاختيار المتعدد بينهم الفصل بين أقسام التأريخ.. علماً أن تلك العلامات هي في الأصل لغة, وفيها الكثير من التعابير القادرة على توضيح ماهية الجملة, إن كانت استفهامية أو خبرية أو تعجبية. ودليلي على تلك القدرة القروية أو الإسماعيلية, على الإيصال, أني لم أتوقف أثناء القرآءة لأمعن النظر إن كانت تلك الجملة كذا أو كذا.
كما انه دمج المتن السردي, مع الجمل الاعتراضية, دون أن يميزها كما المعتاد "بالشرطتان ـ " اللتان توضعان قبل الجملة المعترضة وبعدها, حتى يعرف القارى انها جملة اعتراضية. وكذلك دمج بين هذه وتلك, الحوار, الذي كان كثيراً في الرواية, دون استخدام تقنيته. حيث كان يُفترض أن يضع "النقطتان الرأسيتان:"اللتان تستخدمان بعد القول والتمثيل، وبعد الشيء وأقسامه، وعند ذكر معاني الألفاظ, ثم يضع قبل عبارة الحوار علامة "الشرطة الواحدة ـ " التي توضع عادة بين العدد والمعدود. وهذا اسلوب استخدم كثيراً في الشعر الجاهلي وفي النص القرآني, اللذان سبقا ابتكار علامات الترقيم تلك, بل سبقا النقط وعلامات الإعراب أيضاً. واستخدام هذا الأسلوب مخاطرة كبيرة, ليس لأن الكاتب اسماعيل غير قادر على ذلك فهو من أهل الصنعة وذو خبرة متراكمة, ولكن لأن هذه الآلية تقوم على افتراض أن القارئ سيفهم ذلك.
ورغم هذه وتلك, لم أتوقف كقارئ ـ ولو لمرة واحدة ـ لأتامل هذه العبارة من الآخرى, إن كانت متناً سردياً أم جملة اعتراضية أم جملة حوارية؟!

فنطازيا
السبيليات رواية واقعية, لكنها أكثر فنطازيا من الخيال نفسه, من خلال التواصل مع الموتى بشكل مباشر, دون أن يقوم الكاتب بجعل بطلته ساحرة أو إمراة تعرف شيئاً من الرياضة الروحية, ومن خلال تفاهمها مع الحمار الذي يعد في المرورث العربي من أغبى الحيوانات, ودون أن يحتاج الكاتب أن يجعل بطلته ضليعة بترويض الحيوانات ولغة التخاطر معها, ليبرر لنا ذلك التواصل والتفاهم اللذان قامت عليهما الرواية!
ومن خلال المقبرة التي أقامها الجنود لتضم البقايا التي يخلفها رفاقهم الذين يسقطون في الحرب. وعودة الجندي الذي بُترت يده إلى الحرب, في حال أن من كان يصاب باعاقة في الحرب يعد ذلك من حسن حظه لأنه سيتخلص من الموت. ومن خلال أن تترك إمراة تجاوزت الخميسن الحياة مع أبنائها وأحفادها, وتذهب للعيش في منطقة عمليات عسكرية بسبب الحنين إلى قريتها!

رؤية

كان كل شيء في السبيليات يُتفاعل مع أم قاسم, ويستجيب لها, دون أن يقول الروائي ذلك! فالمطر يهطل فرحاً بقدومها, تزامنا مع ارتفاع المد ليملأ أنهار القرية التي جُففت بسبب الحرب, فتفيض بالحياة والنماء وتتقافز فيها الأسماك, فترتوي البساتين, وتطبخ وجبة سمك شهية للجنود, وأشجار النخيل الياسبة تساقط لها رطباً جنياً لتبني مدبسة بمساعدة الجند, وأزهار الجوري تتفتح لتصنع العرائش! حتى الطعام المخزون لسنتين ـ منذ هجرة أهل القرية بسبب الحرب ـ نفض عفنه ودوده وأصبح صالحاً للأكل؛ فطبخته للجنود عندما انقطعت خطوط المواصلات مع وحدات التموين الخلفية, وأنقذتهم من المجاعة مدة اسبوعين. حتى الضفادع في بركة الجامع الياسبة غنت لها مع هديل الفاختة.. وحتى عظام أبو قاسم في حفرة قبره تحولت إلى رجل حكيم يقف الى جانبها. لأنها الأم, وإن أرادت فعلت المعجزات..
رأيتُ أم قاسم عادت لإعمار قريتها أثناء الحرب وليس بعدها, كما حصل للنساء الألمانيات اللواتي فعلن ذلك وتعرضن للاغتصاب. هي لم تتعرض لذلك, ولا لأبسط شيء من امتهان الكرامة, بل أصبحت أماً لأربعين جندي. لكن أولئلك الألمانيات كن نساءً حقيقيات لهذا أصبحت ألمانيا على ماهي عليه الآن.. أما أم قاسم فهي إمراة افتراضية صنعها, إسماعيل فهد اسماعيل, وربما كان يتمنى أن تكون واقعية. وليتها كانت كذلك..

عتبات ومفردات

لن أتحدث عن العتبات النصية كالعنوان الثانوي "ما لم يرد ذكره من حياة أم قاسم" أو الاهداء "الى مريم الحسن الفهد" وعتبة "للكاتب كلمة" ولا الأرقام التي استبدلها بالفصول, ولا النوستالجيا التي عاناها أبطال الرواية وكاتبها "كيف يتسنى لنا أن نغادر تاركين شكل ارتباطنا بالمكان" وقد أترك هذا لمناسبة أخرى, إن وفقت لذلك.. ولن أتسائل لماذا كان عدد الحمير تسعة وليس أقل أو أكثر؟ لماذا كان أولادها وبناتها وأزواجهن والأحفاد, عشرين تحديداً, لماذا لم يكونوا غير ذلك؟ لماذا استخدم الروائي عبارات شعبية من اللهجة الكويتية في رواية تجري أحداثها في العراق؟ عبارات على سبيل المثال لا الحصر مثل: "بوقاسم, حيا الله من زارنا, كُبر واسع لاستقبال الضيوف, لبيه, بمبر, غرفة الجيل, إنت إمراة غير, البروم القادمة من الكويت، زبيط سرب طيور, والطربال".
أ لأن لهجة تلك القرى البصرية تتشابه مع اللهجة الكويتية بسبب قربها منها؟ أم أنه كان يقصد شيئاً آخر؟ سأعيد القراءة, لأكتشف بعضاً من ذلك, وأشكل تصوري الخاص, حسب قرآتي. لا أن أسأل الكاتب؛ فهو غير ملزم بالإجابة. فكما أفهم أن مهمة الكاتب الكتابة فقط, والتأويل مهمة القارئ.