اقترح الفنان السينمائي قاسم عبد على المقهى الثقافي العراقي في لندن، أن يعرض في أحد أماسيه، آخر فيلم له وهو " أعيش هنا وأتنفس هناك ".. والـ " هنا " لندن والـ "هناك " بغداد، ويبدو إن هذا المقترح يأتي منسجما مع تنوع الحقول الإبداعية التي يزخر بها برنامج آماسي المقهى الذي يدخل في هذه الأمسية عامه الرابع عشر.
.. الانطباع الأول عن الفيلم يوحي بأنه سيتناول الغربة والحنين، الوطن والشتات، الداخل والخارج، الذات والآخرون هذه الثنائيات تمت معالجتها سينمائيا في نتاجات عديدة. إذن ما الجديد الذي سيطرحه قاسم عبد وقد قدم من منفاه أفلاما تصدى في معظمها لهذه الموضوعة؟
لنرى ما أجابت على هذا السؤال أمسية المقهى التي أقيمت في الحادي والثلاثين من آيار/ مايو ٢٠٢٤.. يبدو لسنا وحدنا الذي ساوره هذه الاستفسار، إنما حشد من الجاليتين العراقية والعربية كان معنيا بانتظار تلك الإجابة، وتجلى ذلك في كثرة عدد الحضور..
حسناً.. فتغطيتنا الصحفية هذه للأمسية ستنطوي على استعراض لمجرياتها بذكر محاورها الرئيسية التالية: تقديم الفيلم الذي تولاه الكاتب والروائي لؤي عبد الإله إضافة الى تعقيب المخرج عبد ثم عرض الفيلم على الشاشة الكبيرة، ثم نقاش الحضور وحوارهم مع صانع الفيلم وقراءات أخرى للفيلم نشرت بعد العرض في أكثر من مكان، ونأتي في الختام الى إجابة عبد على سؤالِ توجهنا به اليه.
لؤي عبد الإله: (مقدم الأمسية) مساء الخير.. اليوم، الصديق قاسم لديه فيلم جديد وهو بعنوان: " أعيش هنا وأتنفس هناك" ويمكنني القول، من خلال مشاهدتي، ان هذا الفيلم استمرار لنفس أسلوبه، ربما نفس الطريقة استخدمها في فيلم سابق هو " همس المدن”.. وبرأيي إن أفضل شيء هو عدم التكلم عن الفيلم.. لأن أي كشف له، قد يفقد متعة المتلقي.. لذلك الأفضل تجنب التكلم عن الفيلم.. لكن هناك ملاحظتان من الممكن قولها، لكنهما خارج إطار الفيلم.. الأولى إن الفنان قاسم استخدم هنا أسلوب الصمت أولا، أعني انه ليس هناك في سياق أحداث الفيلم أي نوع من الحديث أو الكلام أو المقابلات مع الآخرين. والشيء الآخر هو استخدامه نفس الطريقة التي استخدمها مع " همس المدن " وهي ان الشارع او الناس الذين في الخارج هم الأبطال وهنا يمكن ذكر ملاحظة ان المساحة المتوفرة لديه للتصوير وزواياه ضئيلة جدا ، وبالرغم من صغرها نرى إنه استطاع أن يتابع الأحداث التي تجري بالحياة ..وأستطاع ان يخلق منها المشاهد هنا وهناك ، نستطيع القول خيطا فرديا، والذي يستغرق مدة طولها ساعة وربع الساعة ، والأخ قاسم له أفلام تنقسم الى نوعين من الأفلام التي اشتغل عليها من الأفلام الوثائقية وحسب متابعتي لها من البداية ، ففي عدد منها يستخدم المقابلات (الإنترفيو) كأساس ويبني عليها الخط السردي بالفيلم ، مثال على هذا النوع فيلم " ناجي العلي ..فنان ذو رؤية" والفيلم الآخر بنفس النمط كان " مرايا الشتات " .. بعد ذلك حاول مع " همس المدن " أسلوبا آخر، تجريبي بالتأكيد، وفيلم أمسيتنا هذا اليوم هو استمرار لهذا النوع. أترككم كي تشاهدون الفيلم الذي يستمر حوالي الساعة وربع الساعة، كما ذكرت، وبعد العرض ممكن لكم ان تبدون رأيكم او إذا كانت هناك أسئلة لديكم سيتولى قاسم الإجابة عليها.. أي سنجري معا حوارا بسيطا حسبما يسمح لنا فيه وقت الأمسية.
قاسم عبد: (مخرج الفيلم) أهلا وسهلا بكم الذي أريد قوله في دقيقتين إن هذا الفيلم لا يصنف من السينما التقليدية.. فيلم يأخذ منحىً تجريبيا، ويمتلك مساحة واسعة للتأويل والتفسير والإحساس الذاتي الخاص بالاستجابة الذاتية للمتلقي. انا موجود هنا بينكم وبودي أن أسمع آراءكم وانتقاداتكم، كذلك أرغب ان أصغي اليكم بماذا تفكرون في هذا النوع من الأفلام.. وطلبي منكم ان تكونوا صبورين لأن الفيلم يخلو من الكلام ولا الحوار.. انه يعتمد بشكل أساسي على الصورة.. السرد البصري فقط.. فهو فيلم معمول بلغة السينما وليس بلغة الحوار وليس بلغة الأدب.. شكرا لكم مرة أخرى وسنتكلم بعد العرض عن تفاصيل أخرى.
ترك قاسم ولؤي المنصة وأطفأت إنارة الصالة وابتدأ العرض.. (تنويه: يعرض الفيلم على صفحة المقهى الثقافي العراقي في لندن (وهذا إثم الصفحة على الفيسبوك من الممكن كتابته بالعربية على محرك البحث، فتجدون الفيلم وباقي أرشيف آماسي المقهى.. وأدناه رابط الصفحة:
https://www.facebook.com/profile.php?id=100063998972229
بعد أن انتهى عرض الفيلم عاد المخرج والمقدم الى المنصة وطلب الروائي لؤي عبد الإله إبداء ملاحظاتهم او أسئلتهم.
صادق الطائي: (كاتب وإعلامي) عندي سؤالين، الأول أستاذ قاسم بصفتك صانع أفلام تسجيلية هل أخذت، قبل صنع الفيلم، موافقات الناس الذين يظهرون في الفيلم خصوصا اننا شاهدناهم غير مكترثين او منتبهين لوجود كاميرا فهل كانت الكاميرا متلصصة؟ السؤال الثاني هو تحديدا عن هذه التجربة ممكن ان تستمر وتستمر فيها.. كيف تعرف او تحدد فتقول هنا أصل الى النهاية؟ لأنك ممكن ان تستمر الى ما لا نهاية، أي تبقى الكاميرا تدور وتصور دون توقف؟
قاسم: بخصوص السؤال الأول.. القوانين البريطانية تتيح لك تصوير أي شيء يحدث بالشارع لأن هذا يعتبر مكانا عاما، لكن إذا حملتُ الكاميرا ودخلت الى بيتك وصورتك وأنت بالبيت فهذا لا يسمح به، هذا ممنوع ينبغي عليك ان تأخذ موافقة الشخص الذي تصوره وفي بيته.. انت لاحظت عندي في الفيلم ليس هناك من الأشخاص الذين صورتهم يلاحظون ان هناك كاميرا تصورهم.. كان التحدي في الفيلم انني صورت من زاويتين فقط.. من مكانين ولم تك تلك المسألة سهلة وهينة ان تصور فيلما من خلال زاويتين فقط.. كاميرتي كانت خفية.. وكان هذا في كل من بغداد ولندن.. وعندي تحول الشارع الى شخصية.. الشارع هو البطل في الفيلم.
أحد الحضور: الفيلم ممتع من الناحية البصرية.. لكني، حقيقة لم أفهم ما هي الفكرة التي تريد إيصالها من الفيلم، ما هي الرسالة التي كنت ترغب ايصالها لنا من الفيلم؟ كأي عمل فني أو أدبي يجب ان تكون له رسالة.. ما الهدف؟ ما هي رسالتك؟
قاسم: المكان لكل إنسان.. يعني ماذا يعني لنا المكان، نحن كبشر، مثلا أنا عشت جزءا من حياتي في بغداد والجزء الآخر عشته في بريطانيا.. فهذان المكانان مرتبطان بحياتي الشخصية.. والفيلم هو نظرة ذاتية لما يحدث بالبيئة المحيطة بيًّ.. ولهذا سجلت هذه الأشياء لأنها ترتبط بيًّ. . بتاريخي الشخصي، وكما ذكرت بالتقديم ان الفيلم لا ينطوي على بناء قصصي.. فهو يعتمد على السرد البصري.. ان أساليب السينما مختلفة.. ممكن ان تعمل فيلم بلغة السينما.. الفيلم فيه أفكار ومشاعر، بعض الناس تحس بها وربما آخرون لا يستطيعون التوصل لها.. فهنا كيف يتفاعل المشاهد مع الصورة التي يراها على الشاشة.. الفيلم يعتمد على المشاعر، على الأحاسيس.. ان كل فيلم نعمله ليس بالضرورة يجب أن يتضمن قصة ولها بداية ونهاية ووسط.. هذا الطراز من الأفلام يندرج تحت تصنيف كونه وثائقيا تجريبيا.. فأنت عندما تدخل الى مضمار التجريب فمعناه إنك تسير على حافة الخطر.. لأن الكثير من الناس لا يستطيعون ان يفهموا ما الذي أردت أن تقوله.. والسينما أذواق.. فليس هناك من فيلم بمقدوره أن يرضي كل الناس.. فهناك مشاهدون يحبون هذا الفيلم ولكن غيرهم على العكس لا يحبونه.. مثل ما أحد ما يحب الموسيقى الكلاسيكية هناك غيره الذي يحب موسيقى الجاز.. النوعان موسيقى لكن لكل منهما محبيه.. اما بالنسبة للرسالة.. انا ليس عندي رسالة معينة سواء كانت أخلاقية او بناء قصصي.. انا عملت فيلما من خلال لغة السينما.. وفي هذه اللغة عناصر منها الضوء، الحركة، زاوية الكاميرا، الكومبوزيشون (تكوين الكادر او اللقطة).. فمن خلال هذه اللغة (السينمائية) حاولت عمل هذا الفيلم.
نضال إبراهيم: (إعلامية) أحببت التعليق لأن الفيلم أثار فيًّ شعورين الأول انني تذكرت شبابي في بغداد.. اعادني الى كيف كنت أغسل مقدمة البيت او أسقي الحديقة.. وكما قلت اننا حينما نعيش في لندن، أنا اجبر نفسي على التعايش مع غربتي واحاول التأقلم مع الجو الذي يحيطني.. فحينما التقي مع جيراني أتجاذب أطراف الحديث معهم وأداعب كلابهم، بهدف بناء علاقة معينة بهم، لكني مع كل هذا أتنفس هواء بغداد، كل شعوري هناك.. فعلى الرغم من ان الفيلم كان يخلو من الكلام إلا إنه أثار بي تلك المشاعر.
نشر زميلنا الفنان فيصل لعيبي على صفحته في الفيسبوك انطباعاته عن الفيلم تحت عنوان:
(أعيش هنا واتنفس هناك)
عندما تكون الكاميرا هي بطل الفيلم بين مدينتين
"هذا هو عنوان فيلم المخرج السينمائي المميز قاسم عبد. إذ ترك للكاميرا تقص علينا حكايات مشاهد من نافذتين متقابلتين، نافذة بغدادية ونافذة لندنية، صورعن أحوال الناس والبيوت والعربات، الباعة والشغيلة، الأطفال في الجانبين. كاميرا تسجل حركة المدينتين من زوايا ثابتة لكن الحياة تتحرك من خلالها، النخلة هناك والشجرة هنا. الغروب هناك والغروب هنا، الأمهات، الآباء، عمال البناء هنا والعمال هناك. رصد بدون تدخل او إجبار او قصدية تتماهى مع حبكة قصة مكتوبة، بل عالم يجري على سجيته بينما الكاميرا تلتهم المشاهد أمامها.
ربما كان الفيلم أطول مما يجب بالنسبة لنظارة ينتظرون حكاية لها بداية ولها نهاية. وهذا ما لم يقدمه المخرج بل دفعنا إلى تأمل هذه الآلة وسحرها الذي تخفيه القصص والسيناريوهات غير المكتوبة ".
أما الشاعر والإعلامي عبد الحميد الصائح فقد كتب عن قراءته للعرض:
خطورة الحياة
على قاعة المقهى الثقافي العراقي
"كاميرا تتربص.. وحياة تتسللُ كالأفعى في فيلم (اعيش هنا واتنفس هناك) للمخرج قاسم عبد
"بعد يومين من مشاهدتي هذا الفيلم وتهرّبي من ابداءِ رأي فيه، كبَر في رأسي سؤال، كم من الالغاز اليومية تحيطنا دون انتباه، ونحنُ نرى السنوات والمنافي والأحلام المهدورة تمضي كالعربات الثقيلة على أرواحنا واعمارِنا وأجسادنا؟ نحن المستسلمين، الذين لا ينقذنا سوى الجنون والوهم حين يوحي لنا بان شيئا ما سيحصل وأنّ ما تراه ليس ما تراه فعلا.. انتظر هنا.. انتظر هناك، شيء ما سيأتي، شيءٌ ما سيحصل.
هذا الوهم الذي أصبح مدارس فنية وضوابط ومعايير، وحركات سياسية وفلسفات وثورات وهجرات وأنواع شتى من السعادات المؤقتة، لكن.. كلّ جديد يصبح قديما، وكلّ من عرِف اللعبة وأكمل مدة العقد في هذه الدنيا عليه الرحيل.
فالحياة الخالصة التي كما هي دون رتوش المملة الخطرة تستفزنا بتهديدها مهما أوتينا من التربص والصبر والأمل والوهم.
الذي أستطيع قوله من وحي فيلم قاسم عبد (أعيش هنا وأتنفس هناك) في أمسية المقهى الثقافي الماضية، إن الحياة (كما هي)
تسللت كالأفعى الى الكاميرا دون ايقاع سوى مللها وتكراراتها واقدام الناس التي تدوس ساعاتها في الشمس والجليد والليل والنهار، لا فرق، الزمن واحد والأمكنة متعددة. تدونُها كاميرا تتلصص من نافذتين، هناك في بغداد حيث الذاكرة المهجورة، وهنا في لندن حيث الذاكرة المهاجرة
نافذتان تختصران الكون، الكاميرا والحياة بطلا قصة بلا حبكة، وحوار بلا كلام وأحداث بلا ايقاع او مؤثرات. لنبقى فاغري الافواه أمام الشاشة بانتظار حكاية مصنوعة أو وهمٍ يشجعنا على المتعة، لا شيء من ذلك كله سوى الكاميرا التي تتربص كالزمن، والحياة التي تتسلل كالأفعى، ورئة المهاجر المنقسمة، فصٌّ في لندن وآخرُ في بغداد. والهواء هو الزمن المتعثر. رئة عليلة تشبه الشجرة التي اقتلعها الاعصار في الفيلم.
ولذلك هرَبتُ في البدء من التسرع في اصدار حكم على الفيلم أو التساؤل عن معنى الفيلم وماذا يقول وهل هو فيلم ام كاميرا سائبة غير مسؤولة، ام مشروع علمي كمن يصور فاكهة تتعفن ببطء ثم يسرّع الشريط امام الجمهور؟ أجّلتُ كلّ ذلك، لأنه لا يتفق مع سيرة الفنان العراقي الرصين قاسم عبد مبدع الافلام التسجيلية التي تناول فيها سِيَر المهاجرين في المنافي بمستوى من المهارة والحداثة، حتى افلامه المتأخرة مرايا الشتات، وسط حقول الذرة الغربية، حياة ما بعد السقوط.
واخيرا هذا العرض غير المحبوك بسوى لعبة مخرج ذكي ترك الادوات تعمل بتلقائية ليقدم من خلالها (القسوة) في معالجة ناعمة صامته صاخبة.. قسوة العيش بعيدا عن الوطن.. تلك القسوة التي لا يشعر بها الا من عاشها فعلا".
وبعد انتهاء الأمسية توجهنا لضيفها مخرج الفيلم قاسم عبد وسألناه:
*لماذا اخترت المقهى الثقافي لتعرض فيلمك؟! وبما إن هذا هو آخر أفلامك هل سبق ان عرضته في مكان آخر؟!
أجاب قاسم:
"المقهى الثقافي رغم امكانياته البسيطة جداً الا انه في رأيي مشروع حضاري وثقافي يدعم الابداع المتفرد، انه مساحة حرة للاستقلال الفكري والتعبير عن الهوية المدنية للثقافة الوطنية العراقية، كما انه يؤرشف النشاطات الثقافية والفنية للمحافظة على التاريخ الثقافي العراقي بالمهجر او بالأحرى الذاكرة العراقية.
اشعر بالفخر كوني أحد رواد المقهى الذي ساهمت بعرض العديد من افلامي خلال العشر سنوات الماضية كفيلم " ناجي العلي فنان ذو رؤيا "و " همس المدن " و " مرايا الشتات" وغيرها من الافلام
كل هذا النشاط ساهم بشكل فعال وحيوي في ايصال افلامي عبر الأنترنيت ومنصات التواصل الاجتماعي الى شريحة واسعة من المشاهدين في مناطق مختلفة من العالم.
مرة اخرى اود ان أثمن كل هذه الجهود الجبارة الذي يقدمها المقهى لخدمة الفن والثقافة ".
وقد عرفنا من مخرج الفيلم انه كانت هناك مشاركات له بالفيلم في مهرجانات منها كازابلانكا بالمغرب ومهرجان الأرض في ساردينيا جنوب إيطاليا.
مما يجدر ذكره ان العرض كان مثار نقاش بين من استحسن فكرته التجريبية وأولئك الذين يتمسكون بضرورة ان يكون هناك وضوح بالهدف من الإنتاج الإبداعي وله رسالة.. الخ.. لكن كما أكد الفنان قاسم عبد ان ذائقة الجمهور تختلف في تلقيها للفيلم السينمائي.