بدأ توليف الاعمال المسرحية في العراق منذ فترة التكوّن الأولى وكان من روادها من الأجيال اللاحقة الراحل قاسم محمد والرائد المعاصر سامي عبد الحميد. لكن فكرة التوليف التي تتضمن اقتباس نصوص خارج جسم العمل ومعايشته مع نص افتراضي يطرح من قبل العاملين على إنجاز العمل الجديد.  وثمة سبب ثالث يتمثل في وجود فكرة في ذهن المخرج او اذهان مجموع العاملين اوجدتها ظروف مختلفة راهنة لكنها لم تجد الرداء التعبيري اللفظي أو المضموني الخاص بها رغم استقلاليتها الظاهرية. إن ذلك على اية حال لا يخلوا من مغامرة يتحملها عادة العمل المسرحي.  وهذا ما اقدم عليه الفنان احمد شاكر وفرقته "العقيدة" الخارجة من الركام الكثيف الذي فرضه اعداء المسرح والفن الذي يمكن ان يغير العالم وربما يوضح ان صانعي الركام هم من المعادين للتغيير. وقد اطلق الممثل الأول الموجوع الصرخة العتيقة التي تجسد التزام المسرح العراقي بقضايا الإنسان المضطهد والمنسي المبعد عن الحياة بعد سلب كرامته وتجريده من انسانيتيه. يصرخ الراوي وهو الممثل الاول بتلك المقولة التاريخية التي انصفت الفن والمسرح بخاصة: "اعطني خبزا ومسرحا،  اعطيك شعبا!"  وردت تلك الجملة في سياق تدخلات الراوي لربط مفاصل المشاهِد التي شكّلت الكيان التفصيلي للعمل.

استطاعت مجموعة الممثلين تجاوز مغامرة التوليف بين اقتباسات من قصائد الشاعر مظفر النواب بالمزيد من هندسة الحركة على الخشبة وتنشيطها فضلا عن اطلاق نصوص مكملة للاقتباسات الشعرية من أعمال الشاعر فتم خلق التوازن المطلوب الذي اجلس النص المسرحي على قاعدته. 

لم تكن تجربة فرقة "العقيدة" المسرحية جديدة على النشاط المسرحي  العراقي.  فقد  كمنت مؤقتا تحت الركام المصنوع لطمر الفن العراقي والمسرح العراقي بخاصة  بغية منعه من مواصلة إطلاق اشعاعه. لكن قائد الفرقة والممثل والمخرج فيها الفنان احمد شاكر يواصل مراقبته لما يجري على الساحة وخاصة محاولات كسر العمود الفقري للمسرح الملتزم بشكل مخطط ومنظم.  إن الرد الفني من قبل الفرقة على محاولات الطمر التي خططت لها قوى عمياء تملك النفوذ  في المجتمع  هو ان تنهض من جديد كالعنقاء من بين التراب.

  إن هذا النهوض الفقير يتناغم مع الوصف الذي أطلقه أحمد شاكر بان المسرح الذي يشتغل عليه يمكن تسميته  بالمسرح الفقير.  وها هي فرقته تقدم عملها الاول في ظل فقر لوجستي شامل.  فخشبة منتدى "بيتنا الثقافي" الذي احتضن العمل الجديد السبت 5/5/ 2018 يحتل موقعا في مركز العاصمة قرب ساحة الاندلس إحدى أهم بؤر تجمع المثقفين من محبي الادب ومنتجيه في المدينة حيث استقبلوا "القصخون" بمودة واستعراضات احتفالية وقدمت باقة ورد طرية من قبل عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي الى الفرقة ترحيبا بمبادراتها في اعادة إحياء المسرح رغم شحة الإمكانيات.  فخشبة المسرح عجزت عن استيعاب  حركة الممثلين الثمانية الذين قفزوا على خزين التجارب الطويل وأسسوا تجربتهم او تجاربهم الجديدة الخاصة في ظروف فنية غير مواتية لكن حب الجمهور لهم وانسجامه مع هواء حناجرهم وحركتهم المفعمة  بالإيحاءات المعبأة بأفكار حول قضايا الناس الراهنة.  كما ان الرد تضمن تقديم كوكبة من الممثلين الشباب معظمهم من الطلاب وبينهم عامل بناء.

 ان هؤلاء الشباب لا يملكون تجربة طويلة بل يملكون الحماس والصدق والإخلاص لقضية العمل المسرحي الكافية لاكتساب عنفوان من الاداء المسرحي الناضج كي يطرحوا عملا خلاقا.

  يشدد المخرج على الصراع بين الحكام العرب بأدواتهم القمعية التي تخدم انظمتهم الدكتاتورية من جهة وجمهور الناس العزّل  الذين لا يملكون سوى الاحتجاج والتعبير عن السخط على ما يجري من جهة أخرى.

 لكي يفرش المخرج  مواضيعه المقلقة على مساحة الحركة المسرحية قام برسم صور تمثيلية تعبيرية مشحونة بالتجريب والفنتازيا.  كل صورة تطلق حركة تفسر نوع الممارسة التي تصدر عن الدكتاتور او اجهزته القمعية.

  لكن المخرج لم يكن على عجلة من أمره فاستبق عرض الصور بمشهد كوميدي يضم في طياته لمسات حزينة فكان ان اضحك المشاهدين ثم اغضبهم في تحول درامي بين الكوميديا والتراجيديا.  وبهذا المنحى ومن خلال الجرد العام لمسيرة الاحداث وأسلوب تحريكها يمكن تجنيس العمل على  انه "تراجي كوميدي".

  إنها مسرحية الفصل الواحد التي انطلقت  على اساس ثيمة تراثية تقول:" الحياة كلمة،  أن قلتها مت،  وإن لم تقلها تموت،  فقلها ومت" وهي مقولة ذات طابع اخلاقي  طوباوي صوفي،  لكنها مسرحيا تمهد لموقف مطلوب من قبل المظلومين،  فطبيعة الدكتاتورية إفساد الحياة وقصم ظهر الانسان وسلبه كرامته مما يوفر لها ديمومة البقاء في عروش السلطان ونهب البلاد. لذلك لم تجد المسرحية غير دعوة المظلوم صاحب القضية ان يقول كلمته الاحتجاجية  بل وتخطي هذا الحد الى مسار متصاعد يتمثل بالسعي العملي للمساهمة في عملية تغيير حاسمة وجذرية لصالح الانسان المهمش الضائع. لتهيئة اذهان المشاهدين لاستيعاب ما يجري  حاول المخرج استخدام عنصر المشاهد التمهيدية لعرض قضيته لتحقيق عنصر التحريض بجرعات مؤثرة لخلق موقف يتسم بالثبات لدى الجمهور.

  مارس المكان تأثيرا كبيرا على حياة الممثلين  وهو الحانة التي يلجأ اليها هؤلاء ويجرون لقاءاتهم للأداء تفاهماتهم.  يعمل في الحانة شاب مسيحي الفنان حسين محمد يقدم خدماته لمجموعة الممثلين.

يمهد الممثل الاول احمد شاكر لعرض ثغرة مأساوية في السياسة الحاكمة في بلادة فيروى قصة إنسان اراد تعلم الكتابة فعلموه الخط بأشكاله المختلفة حتى بات يسمى صاحب "الخط الحلو" والآخرون "اصحاب الخط غير الحلو" ثم راح يتحدث عن كثرة الشهداء في عهود مختلفة... آخر ما توصل اليه "العلم العربي".

 ويبدأ الكورس الذين هم مجموعة الممثلين بأداء مقطع من احدى قصائد الشاعر العراقي مظفر النواب. 

ثم توالت المشاهد التي تكشف عن حجم الحيف الذي يحيق بالمواطن في البلدان العربية فالممثل علي نصار الذي ارتدى الزي النسائي تقدم الى مقدمة الخشبة لكي يتعرض للتحرش من قبل رجل خليجي، الممثل بدر الرومي وهو نفسه من يؤدي دور بائع المشانق محاججا بان البلاد قد تعودت على المشانق لقتل الناس. اما علي نصار فيمارس دورا مركبا فهو يقود تظاهرة ضد الدكتاتورية في مشهد آخر.  ويظهر مواطن ليبي، الممثل بهاء مهند يشكو مما جرى لهم من الدكتاتورية في بلاده،  اما الممثل حمزه علي فيؤدي دور مواطن عراقي مهمش. ومثله يمارس الممثل برهان حكيم دور مواطن معدم لا يمد اليه أحد يد العون.  كل هؤلاء الممثلين شباب من فئة الطلبة احدهم عامل بناء حسين رزاق ويلعب هذا الممثل دور رجل مخابرات وكان هاجر الى الشام هربا من مخابرات بلاده، لكن مخابرات  بلد المنفى  جندته في صفوفها.

  في هذه الزحمة من البؤس يتدخل حدث يفسر قوة الاعتراضات والاحتجاجات الشعبية ونتائجها حيث يسمع المشاهد صوت طفل وليد في معنى يعبر عن التفاؤل بإمكانية الوصول الى التغيير الجديد.