بالتعاون مع دار نشر “أمل الجديدة” في دمشق صدرت عن مؤسسة “المثقف العربي” في سيدني رواية “زيزفون البحر” للروائي العراقي قصي الشيخ عسكر الذي دمغَ روايته بالدمغة المَهجرية لأن أحداثها تدور في المَهاجر الأوروبية وهو توصيف مقارب لرواية المنفى التي تقع في العادة بعيدًا عن حدود الوطن الأم الطارد لأبنائه. تتميّز هذه الرواية بغياب الفصول أو الترقيم أو التقطيع العادي للأحداث الذي يمنح القارئ فرصة لالتقاط الأنفاس فقد انتظم شكل المتن السردي في قطعة واحدة تخلو من الفواصل من جملتها الاستهلالية حتى الجملة الختامية. كما تميزت الرواية بخلوها من الأسماء الصريحة التي غيّرها المؤلف إلى ألقاب وصفية مثل “حُبّار البحر”و “لاحق السراب”و “كوسج البحر” وما إلى ذلك.
يعتمد المتن السردي للرواية على “ثنائية الشرق والغرب” التي سبق للمؤلف أن اشتغل عليها في روايات أخرى مثل “وأقبل الخريف مبكرًا هذا العام”، و “نوتنغهام في عُلبة اللشمانيا” وهي ثيمة ليست جديدة لكن معالجتها مختلفة بسبب اختلاف زاوية النظر إليها، فالراوي العليم والمشارك في صنع الحدث منبهر بالثقافة السويدية والأوروبية بشكل عام، ولاغرابة في أن يندمج بها تدريجيًا مثلما تماهى معها من قبل عمّهُ المُفترَض ، وصديقه المترجم، والطبيب السويدي من أصول عراقية.
تتوزع الشخصيات المهاجرة في النص السردي إلى ثلاث مراحل زمنية للشخصيات الرئيسة، فالعمّ المُفترَض غادر مع زوجته العراقَ عام 1968، وفي عام 1974 قَدِم المترجم إلى ستوكهولم، وفي ثمانينات القرن الماضي خرج الراوي من الحرب العراقية- الإيرانية مُثقلاً بالجروح البدنية والنفسية وهرب إلى السويد التي لم يصلها مباشرة وإنما مرّ بمراحل متعددة تبدأ بحسب السياق السردي من معسكرات اللجوء في روسيا البيضاء، مرورًا بالعاصمة الإستونية تالين، وانتهاءً بستوكهولم.
على الرغم من واقعية الأحداث إلاّ أنها لا تخلو من الوهم وعلى القارئ ألا يثق بكل شيء يسرده الراوي العليم فثمة أفكار هي أقرب إلى التهيؤات أو التصوّرات التي تقع في منتصف المسافة الغائمة بين الحقيقة والوهم.
تستدعي هذه الرواية أن نتتبّع الثيمة الرئيسة والثيمات الفرعية المؤازرة كي نفهم الفحوى العام للرواية. ونظرًا لأهمية التغيّير في هذا النص السردي فإن الثيمة الرئيسة التي نراها مهيمنة هي الجملة الآتية التي تقول:” إنّ الإنسان مثل الماء إذا لم تغيّره ينْتن ويقتلك” ثم يتوسّع في التشبيه ليقول:إنه “مثل سرّ الليل في المعسكر يتغيّر كلّ ليلة” ولا يمكن أن يظل ثابتًا على حاله وإلاّ فإنه قد ينكشف للعدو إذا ما استمر لأكثر من ليلة واحدة لذلك علينا أن نشفِّرهُ ونحيطه بهالة من الرموز الغامضة التي لا يفكّها إلاّ منْ توفر على “كلمة السرّ” التي تؤهله للولوج إلى هذا الحيّز المحظور. ومن الثيمات الفرعية هي الحروب والكوارث التي تغيّر المجتمعات، والمعارضة العراقية التي كانت تسعى لتغيير النظام المُستبِد، واللاجئين الذين يتقمّصون دور المجانين من أجل الحصول على المكاسب والامتيازات ليغيّروا من أوضاعهم المادية والمعيشيّة، وتهافت اللاجئين الشرقيين على النساء الأوروبيات، وطبيعة الرجل الشرقي واستعماله للقوة العضلية بدلاً من القوة العقلية وسواها من الثيمات الأُخر. تلعب الشخصيات دورًا مهمًا في هذه الرواية المهجرية التي تدور معظم أحداثها في المنافي الأوروبية وسنأتي عليها بحسب أهميتها في الأحداث الروائية وأولى هذه الشخصيات هي شخصية الراوي العليم الذي لم نعرف له اسمًا طوال النص السردي. وبما أنّ الحروب تغيّر المجتمعات فإن هذا الشخص الذي اشترك في الحرب العراقية-الإيرانية على مدى ثماني سنوات وصادفته الكثير من المواقف التي قلبت حياته رأسًا على عقب، وحين يصل إلى السويد ويتعرّف على عمّه المُفترَض الذي أسماه “حوت البحر” بَغية الزواج من ابنته التي أطلق عليها اسم “زيزفون البحر” لكنها خانته أيضًا مع صديقها الذي ادّعت أنه من ذوي الاحتياجات الخاصة فاضطر إلى ضربها وتعنيفها في مكان عام فوجد نفسه محشورًا في السجن ولولا تنازل خطيبته وتدخّل والدها لدفع الثمن غاليًا.
تُعدّ “زيزفون البحر” شخصية إشكالية فهي فتاة متحررة، تتكلم السويدية والإسبانية والإنكَليزية، وتعمل متطوعة في دائرة الرعاية لذوي الاحتياجات الخاصة، وهي ابنة مليونير أولاً وأخيرًا عرف كيف ينحت شخصيتها على هواه، ويروِّض سلوكها الاجتماعي على وفق طباعه الإشكالية أيضًا، فهو يريد لها أن تتزوج من لاجئ عراقي مسلم، وأن يضمن لها مستقبلاً رصينًا لا يتزعزع عند أول عاصفة تضرب حياتها الزوجية وتقوّضها بالكامل.
تبدو شخصية العمّ المُفترض أو والد “زيزفون البحر” الذي أطلق عليه الراوي 15 اسمًا أو يزيد تبدأ بـ “حوت البحر” وتنتهي بـ “ذئب البحر”. يغادر العمّ المُفترَض مع زوجته “قطر الندى” بحسب تسمية الراوي أيضًا العراقَ عام 1968إلى موسكو ويحصل على الدكتوراة في الزراعة، وكان يوصف بالرجل اليساري المتفتح الذي لا يؤمن بالخرافات، ثم يرحل إلى بولندا ويعمل في ليبيا والجزائر مُدرسًا قبل أن يستثمر أمواله في السويد ويصبح تاجرًا مرموقًا يقتني من محلاته، رخيصة الأسعار، الأعداء والأصدقاء على حد سواء.
يسعى قصي الشيخ عسكر لاستثمار المكوِّن الفيلي في هذه الرواية وربما تكون شخصية المترجم الذي أطلق عليه الراوي اسم “لاحق السراب” هو خير من يمثل هذه الشريحة الاجتماعية لكنه لم يسلم من بعض التُهم التي وُجهت إليه من بينها العمالة المزدوجة للسويد والعراق مع أنّ موقف المترجم ضد الحكومة العراقية المُستبدة التي اضطهدت، بحسب رأيه، الكرد الفيلية والشيعة العرب أكثر من بقية المكوّنات العراقية. وذهب البعض منهم إلى إتهامه بالعمالة الثلاثية والرباعية لكل من إيران ومصر. وقدر تعلّق الأمر بالراوي فقد نصحه المترجم بالزواج من “زيزفون البحر”، وأن يشكِّل من عجينتها الخام شخصية المرأة التي يريدها شرط أن يتنازل عن بعض المواقف التافهة التي تتعلّق بماضيها العاطفي وعلاقاتها السابقة إن كانت لها علاقات تُذكر.
أمّا الشخصية الخامسة والأخيرة من حيث أهمية المحمولات السردية التي تنطوي عليها فهي شخصية الدكتور محمد الطيب الذي أكمل دراسته الثانوية في السويد، ثم درس الطب، وحقل الاختصاص في الجامعة السويدية، وخلّف الماضي وراءه، وبدأ حياته من جديد. وربما تكون الخطوة المهمة التي أقدمَ عليها، وحقق فيها قصب السبق على الراوي هي أنه غيّر اسمه من “مهمد التيّب” إلى ياكوب بيترسون وتماهى تمامًا مع الطاقم الطبي السويدي في المستشفى الأمر الذي يختصر لنا جانبًا مهمًا من ثنائية “الشرق والغرب” التي أشرنا إليها سلفًا.
ولوعُدنا إلى نموّ الأحداث وتطورها فيما يتعلّق بالراوي الذي قطع بحر البلطيق مع سبعين آخرين في سفينة صغيرة بثلاثة أيام انقلبوا فيها ذات مرة على رؤوسهم “وتوهّم” أنه الشخص الوحيد الذي تضرّر بينهم الأمر الذي دفع طبيبه الخاص لأن يُحيله للفحص بجهاز “القُبّة البيضوية الشفّافة” الذي يكلّف الدولة 25000 كرونة للتأكد من سلامة دماغه المُرتجّ كما يدّعي، ولو كان حزب المحافظين على رأس الوزارة لما حصل على هذا المبلغ لمجرد الإدعاء القائم على الظن والتباكي.
تنتكس علاقة الراوي بخطيبته “زيزفون البحر” لأنه صفعها أمام الملأ ودخل السجن ولولا تدخّل عمه وتنازل خطيبته لما أخلت الشرطة سبيله، فيعتذر لها بنصيحة من عمّه الذي يقترح عليها أن تسافر إلى طهران ومنها إلى القاهرة ثم تقفل راجعة إلى ستوكهولم. أما الراوي فقد أخذ يفكّر باختراع اسم جديد له لا يشاركه فيه أحد بعد أن سمّى معظم الشخصيات والأماكن بأسمائها الجديدة وفقًا لأهواء البحر وحالاته المتقلبّة.

 

عرض مقالات: