لا يمكن لنا تقديم ورقة جرد دقيقة حول ما كُتب من روايات أو قصص قصيرة عن الحرب العراقية الإيرانية 1980 ـ 1988، ولكننا نقول باطمئنان إن الأغلب الأعم وهو كثير بلا شك كُتب بعجالة تفتقر إلى التروي في موضوع كبير اسمه الحرب. كما أنه كتب بعاطفة جياشة كون البلد الذي يخوض الحرب ماض إلى المجهول.

إن كل الحروب التي عاشها العالم هي تفريغ وخراب تام للبنى والمجتمعات من صلات حميمة وإنسانية، يكون فيها الإنسان الذي يتعرض لشراسة الحرب “جندياً” مشاركاً هو وقودها الآن أو بعد حين، هو الضحية الجاهزة الكاملة لمشعلي هذه الحروب، المالكين لزمام المال والقابضين بيد من حديد على السلطة والإنسان، الإنسان بوصفه روحاً وجسداً وتطلعاً وحياة.

رواية “صوت الطبول من بعيد” للروائي فلاح رحيم هي الرواية الاستثناء التي خرجت بعد أكثر من ثلاثة عقود، خرجت بعيداً عن الانتصارات والملاحم والصولات لتؤسس صورة خوف ودمار وهزائم وخيبات لم تتوقف حتى الآن! على صعيد الواقع المعاش، على صعيد العمل، الحب، الأمل، الحلم في فضاء من اللاتوقع والغرابة التي تهدد حاضر الإنسان ومستقبله. هذا الواقع الصعب (الحرب العراقية الإيرانية) يقاومه فلاح رحيم عبر لغة يفجرها كنصال حادة في وجه الحرب، يقاومها بالحياة والحب والعشق والأمل والموسيقى، وبأصوات الطبول الأتية من بعيد، طبول الأسلاف (عمر الخيام) في مفتتح الرواية الذي يبارك الهوى والمتعة واللذة وصحبة الراح!

تتحرك الرواية على وفق عدة مسارات أو ثنائيات ضدية الأهم فيها:

الموت / الحياة

الحرب / الحب

القبح / الجمال

اللامعنى / البحث عن معنى

تبدأ رواية “صوت الطبول من بعيد” مع صعود نجم الديكتاتورية في العراق عام 1980 ومغادرة “سليم كاظم” معسكره في البصرة/ أم قصر بعد إكماله الخدمة المقررة في الجيش. يصل مدينة بغداد وفي منطقة علاوي الحلة يشتري رغيف خبز حار من الفرن، مراقباً حركة الخباز المنقطع إلى مهمته النبيلة، يأخذ الرغيف، وعبر انثيالات حميمة يخاطب الخبز الذي يصفه بالرمز المقدس، وكأن سليم يبحث عن دفء أكبر من دفء الخبز وحرارته يفتقده في حياته، يتحسسه الآن عبر قطعة الخبز الطازجة (ص 15). بعد أيام يعمل مترجماً في شركة “سيمودكس” في الرمادي ليلتقي بالشقراء البولندية بيانكا رمز الحياة والجمال والحيوية، المتزوجة من أوليك مدير الشركة. بينها وبين زوجها علاقة فاترة وجفاء واضح سيغطيه سليم التواق إلى الدفء والحب الذي يعاني ضغطاً يعيشه من قبل السلطة الديكتاتورية التي تطارده كونه ينتمي إلى حزب يساري محظور في العراق.

لا نفهم بوضوح ملامح علاقة الحب بين سليم وبيانكا إلا بالرجوع إلى مشروع الروائي فلاح رحيم وخاصة روايته “حبات الرمل ... حبات المطر” وعلاقة الحب المعقدة بين سليم وهدى الطالبة معه في قسم اللغات الأوربية التي أحبها. وقد جرى التعامل مع هدى برفعها إلى مصاف الإله المعبود عبر لغة تفيض بالأفكار والنزعات الصوفية. الآن سليم مع بيانكا حيّان وراغبان في الوصل، يغترفان المتعة سوية وينصهران بها، عكس هدى التي لم يمسسها مرة واحدة كونها الحب الذي يسمو إلى ما فوق الرغبات والشهوات، فيما تكون بيانكا هي موضع الرغبات الحارة والحس المباشر و”الحب” أيضاً والحياة نفسها.

بعد ثلاثة أشهر على تسريح سليم من الجيش تُستدعى مواليده 1956 لخدمة الاحتياط ويساق بعد فترة تدريب قصيرة إلى جبهات القتال، فالحرب العراقية الإيرانية قد اشتد سعيرها وهناك مدن (خرم شهر، عبدان، ديزفول) تسقط كل يوم على جبهة نار تمتد أكثر من 1500 كيلومتر.

تكشف لنا اليوميات التي كتبها سليم في الخطوط الأمامية لجبهة ديزفول في القسم المسمى “أيامٌ تتطايرُ كالغبار” عن واقع الحرب الكريه بكل إشكالياته، يشدها خيط واحد من انعدام حس الروابط الإنسانية بين الجنود الذين هم كذلك تواقين لحياة أفضل للخروج من مأساة الحرب، أو هي ـ اليوميات ـ تكتب لكي تخفف حالة التوتر النفسي وحتى العقلي لفهم ما يدور ويهدد وجود الإنسان (هنالك من يُقدم على الانتحار من الجنود لقسوة أيامها، ص193) هذه اليوميات قالت ما هو مسكوت عنه مما لم تقله روايات الحرب العراقية الإيرانية.

إن الرائد صبحي والنقيب خالد والجنود هاشم وخضير وماجد وقاسم وعبد وشمخي وويس وآخرين، المقذوقين في الخنادق والملاجئ وعلى السواتر وفي العراء والتراب وفي وحشة المكان والنفي بعيداً في أرض لا يحبونها بغية إقصائهم من الحياة ذاتها، كل هذه الحيوات يطاردها الروائي فلاح رحيم عن طريق بطله سليم كاشفاً عما لم يُجهر به سابقاً من الخوف والضعف والانكسار والهشاشة إزاء موت يتربص بهم الواحد بعد الآخر. فالرائد صبحي وتمسكاً منه بحياته يحرص على إدامة ملجئه بأكوام من التراب معززا سقفه بـ 500 طابوقة (في إشارة إلى أنه يبني قبراً له) بالرغم من أن ملجأه يقع في مكان أسفل مواضع الجنود، ص173. ويأمر جنوده أن يبنوا له مرافق صحية تقع في واد يجبنبه إصابة العدو، ص 181 (ولا يمكن أن نفهم هذا التصرف الكاريكاتيري إلا برصّ الخوف أطناناً! بالرغم من أنه يشير إلى بعد نرجسي في حب الذات). وعريف عبد وتمسكاً بالحياة وانتقاماً من جنديته وخاكيه إن جاز التعبير، فتاريخه العسكري مضطرب، هرب عدة مرات وسُجن، يحلو له الحديث عن هروبه الذي امتد ثلاث سنوات ويذكر تلك الأيام بفخر كأنه كسر رقماً قياسياً، نراه يتنازل عن صنفه (مثبت معلومات) ليصبح مراسلاً للحفاظ على حياته، ص 181 لظنه أنه بذلك يكون في مأمن من الموت إذا ما لاذ بظل ضابط! والعريف هاشم المائل إلى الصمت لأنه مشغول دائماً بالتقاط صوت نسمة ندية نشطة أو طنين أجنحة ذبابة حول رأسه يعتقد أنها فحيح قذيفة هاون أو متوسط أو ثقيل يبتعد عنه، ص184. إنها مزيج من حكمة وسخرية لا تتوفر إلا في هذه الحرب التي دامت ثماني سنوات.

يعيش كل هؤلاء الأشخاص أعلاه في مواضع كأنها القبور الدارسة فهي مظلمة منحوتة في جدار الساتر لا تقدم أماناً وعيشاً إلا للقوارض والسحالي الصغيرة. ليس فيها منفذ للهواء لأنها أمكنة عدوانية وغريبة. تضيق الملاجئ والمواضع بنفسها وبالجنود التي أرهقها الخوف والحر والعرق وسوء التغذية. إنهم ينامون وينتفضون بحركات عصبية كلما اشتد القصف، حتى الطبيعة القاسية يصفها سليم “إنها جميلة لمن يزورها سائحاً لا فأراً محارباً” ص 191. ويقول عن الجنود الذين معه “هنالك أصحاب طيبون هنا لكنك في المحصلة النهائية تكره كل ذلك ولا تجد له طعماً لأن الطبيعة تضمر لك الموت وطيبة الأصحاب مشوبة بتوتر أعصابهم كما أنها لا تمت بصلة لسحر الأنوثة المفتقد.”

ص 191

هنالك أيضاً مسرات صغيرة إلا أنها كبيرة تسمح بها الحرب وهي تصدر عن الجنود أنفسهم، فثمة منهم من يلعب على الرهان بالتعود بمحاولة إصابة كعب الزمزمية بالحجارة، أو سليم الذي يسمع صوت ليلى مراد وهي تغني “أنا أحبك وأفضل أحبك” فتأخذه المقدمة الموسيقية إلى مديات خارج مكانه الترابي. وعندما يغسل سليم رأسه بالماء والصابون بعد مرور عشرين يوماً داخل طبقات من العرق والغبار ثم يغسل جسده حتى يصبح كالريشة في خفته، تصبح هذه الممارسة من الممارسات التي يصعب تكرارها، ص185، أو عندما ينام ولا يزعجه أحد، هي مسرة لا توصف لأنه حقق رغبة تأتي بعد تعب طويل. وهناك مسرة رائعة تضاف إلى سليم وهي أكبر المسرات المفقودة في الجيش. يكتشف ثقباً صغيراً في موضعه يسمح بدخول الشمس، لنطالع ما يقول: “هذا الثقب الصغير يسمح أثناء النهار بدخول شعاع خيط حاد من الشمس إلى قلب عتمة الموضع يبقى مسقطه يتنقل مع حركة الشمس الأزلية حول تلك الحفرة الخانقة.” ص301 يكبر هذا الثقب ويتسع ليتمكن سليم من خلاله قراءة الروايات فيقرأ رواية “عشيق الليدي تشاترلي” للورنس فيرى من خلال الثقب جسد كوني يتناسخ مع جسد بيانكا المفتقدة في هذا التيه الأعمى من جبهة الحرب الشرقية. بيانكا ذات الجسد الايروتيكي التي يسترجعها سليم كي يمارس معها فعل الحياة النابض بديمومة البقاء على قيد الحياة مهما كلف الأمر، بيانكا الحاضرة داخل مستويات السرد زمانياً ومكانياً، وتكاد تحتل النص كله كحبيبة وعشيقة، هي أيضاً هدى التي ضيعها سليم عبر مثالية مفرطة، لذا ستكون هي حواء التحدي لسليم/آدم (الفصل العاشر من القسم الأول/ فاصل غريب) لتثمر هذه العلاقة (اللعبة كما يسميها سليم) عن وصال جنسي حميم ومتدفق بين سليم وبيانكا لتعود الحياة إليه وإلى جسده (القسم الثاني/ أيام تتطاير كالغبار/ الفصل الثاني المروي على لسان الراوي وسليم مختفياً وحاضراً في السرد).

مع موت كريم ـ شقيق سليم ـ المأساوي والذي لم يأت في أوانه عمرياً تخفت الرواية عن قصد، ويتحول بطلها المركزي/ الثوري / اليساري/ المثقف/ القارئ/ المترجم سليم إلى كتلة حطام حقيقي وهو يزور قبر شقيقه في مقبرة وادي السلام. ثم يأتي طرده من بيت أوليك وعلى لسان الأخير على مرأى من بيانكا التي فشل معها في اتصال جنسي. كانت الرواية قد أرهصت لموت كريم عندما ضاعت خرزة واحدة من مسبحة الأب وبحثت عنها شقيقته إنعام دون جدوى لتقدم المسبحة ناقصة واحدة ص 67 ـ 70.

قامت رواية “صوت الطبول من بعيد” على ثيمة الحرب والتجربة الذاتية في فضاء متعدد الأمكنة (العمارة، بغداد، الرمادي) ولها زمان ثابت تحكمه ديكتاتورية فردية بغيضة تتحكم بمصائر الناس وحياتهم على مدى الحروب التي أكلت لحم ودم الأبناء والتي عبرت عنها قصيدة “فيتنام” للشاعرة البولندية تشمبورسكا ص261 حيث لا تعرف الأم سوى أبناءها. ومن قبل غنت فيروز “أنا ما بدي الأوطان ... أنا بدي الأولاد”. أغنية فيروز منعتها السلطة في أيام الحرب العراقية الإيرانية ولم تذع. تلك هي الحرب، تزدري كل شيء جميل وثمين وعزيز علينا.

أقف مبهوراً أمام الروائي فلاح رحيم وأمام رويته هذه “صوت الطبول من بعيد” التي تناصت شعرياً مع أبيات عمر الخيام ص6 وأثمن نصه السردي في كشف حقيقة مؤلمة ودموية من تاريخ العراق الحديث. نص استطاع بجهد مبدعه أن يتخلص من التقريرية العاطفية وأن يقدم حيوات هي سيرية بلا شك، حفر بها عميقاً وغاص معها لينتزع لنا نصاً يتناول قبح سنوات ثقال مرت على العراق، نصاً يضاف بامتياز وفي الصدارة إلى السردية العراقية الحديثة.

عرض مقالات: