في العام 1970 قرر الفنان "كاظم الداخل" اللّحاق بالجامعة المستنصرية، كلية الاقتصاد، حتى لا يضطر للذهاب للخدمة العسكرية الإلزامية، كفعل احتجاجي ضد السلطة البعثية؛ في لحظة يتوجب على المرء فيها أن يكون شجاعا كي يتخذ قرارا يحدد مسار حياته لاحقا. كان ذلك بعد أن رُفِض تقديمه في أكاديمية الفنون الجميلة، كونه لا ينتمي للإتحاد الوطني لطلبة العراق، وهي واجهة حزب البعث فيها وتؤثر على قراراتها بشكل أو بآخر، لكنه لم يفقد الثقة بحلم السفر ودراسة الفن في أوروبا، وفي العام 1973 قدم معرضه الشخصي الأول في الجامعة المستنصرية، وبعد تسع سنوات حصل على فرصة المشاركة في "بينالي الكويت للفن المعاصر"، الذي تقيمه جمعية الفنون الكويتية في العام 1982، ليحرز الجائزة الأولى فيه، عن لوحته المعنونة "الديمقراطية والعالم الثالث"، الأمر الذي أعطاه دفعة معنوية جديدة، وتميزا له كفنان. وخلال إقامته في الكويت قدم معرضا شخصيا على قاعة دائرة الفنون، ومن حسن حظه كان حضور السفير الإيطالي للمعرض والذي شجعه لدراسة الفن في إيطاليا، ووعده بتقديم العون والمساعدة لاستخراج الموافقات المطلوبة، ليسافر في العام نفسه الذي فيه قبل في أكاديمية الفنون الجميلة في روما.  

عُرف "الداخل" بتنوع تجاربه في الرسم، فقدم مواضيع لا يرغب الكثير من الفنانين الخوض فيها، كالدين والجنس والسياسة، فكانت السمة التي ميزته كفنان يبحث في المحرم والمحضور في العقل الشرقي عبر اللوحة. لو تأملنا في بعض عناوين معارضه مثل: "شعراء، الرأس، الأهوار، مدن الزهايمر، انستليشن، أسطوانات، ... وغيرها" نلاحظ اهتمامه الواضح بالموضوع وما يثيره من دلالات فكرية، حول حياة الإنسان العراقي أو العربي، وهيمنة الخطاب الديني وفتاوى القتل من جهة والقمع السياسي من جهة أخرى، حتى لتبدو اللوحات التي انجزها ضمن مجموعة تدين فتاوى التحريض على القتل والعنف الديني عموما، قريبة من أسلوب البوستر بوضوحه في عرض الفكرة أو التنبيه لموضوع معين. كما أنه عمد على وضع بعض الآيات القرآنية في اللوحات أو الصور الفوتوغرافية في مواضيع الجنس مثلا، أو رموز ديكتاتورية، كما في وضعه صور مكررة لهتلر وهو يلقي إحدى خطبه بحركات يديه وانفعالات وجهه المعروفة، أو رسم مشاهد منقولة من الأخبار لمشاهد القتل التي تمارسها المجاميع الدينية المتطرفة حول العالم.

وعلى صعيد الخامات الفنية، لا يلجأ "الداخل" إلى تقنيات معقدة أو مواد لا تحمل بعدا حسيا أو دلاليا في حياتنا، بل خامات ترتبط بمخيالنا الجمعي وحميمة لذكرياتنا العزيزة تعامل معها في أكثر من تجربة، مثلا رسم على اسطوانات -جرامافون- مجموعة مشاهدَ تعبيرية من التاريخ العراقي الحديث، تُدين الحرب، وما تتركه من خراب، ولوعة الفقدان في نفس الإنسان ودمار للبيئة والحضارة. وفي تجربة أخرى صنع أشكالا مصغرة لأكياس تشبه أكياس التسوق من مادة الخشب، رسم عليها شخوص يعانون من الوحدة بأسلوب يجمع بين التجريدي والتعبيري، مع قوة الألوان في التعبير عن مشاعر الشخوص الداخلية وهواجسها العميقة. وفي عمل أسماه نافذة الجواهري، رسم مباشرة على مجسم واجهة خشبية أو باب بنوافذ تطل منها وجوه تعبيرية للشاعر وعوالمه. إضافة إلى بعض المجسمات القريبة من السيراميك أو النحت الملون.

ثمة هاجس دائم يلازم الفنان "الداخل" لخوض مغامرة مثيرة، وترحال من منطقة فنية إلى أخرى، ومن موضوع جمالي إلى آخر حسي أو جمالي، تحول مع الوقت إلى نزعة متجذرة في دواخله العميقة. ويبدو لي أحيانا أنه يتقصد فعل النفي من ذاته، لتجريب مواضيع جديدة أو تذوق مشاعر مختلفة، وسلك طرق غير معبدة. لذلك تسبق تلك الرحلة عملية الرسم المباشر بوقت كاف، لتصبح بمثابة التحضير والتفكير في الموضوع الذي يريد رسمه، مع إدراكه لأهمية الإكتشاف والتفاعل والمباشر على السطح التصويري للوحة، خاصة في أعماله التجريدية والتعبيرية. إن ما يشغله هو الموضوع المعاصر، المحمل برؤى جديدة، لها القدرة على الإثارة والتفاعل الفكري والجمالي، عبر تواصل حسي مع شخوصه، سواءً في عالم شرقي أو غربي، داخل كتل من الألوان المتجاورة بدرجاتها الباردة والحارة، كأنها تود التحرر من سطوة الضوء أو رفض الظلام المحيط بمخاوفها، حيث تشكل عملية التلاعب بالضوء عنصرا مهما في إثارة الحواس جماليا وعاطفيا إلى جانب قوة اللون، وهنا تكمن براعة "الداخل" في خلق إيحاء بعالم حسي يموج فوق رغباتنا الخفية. 

إن استدعاء صور الأمكنة الأولى هي في الحقيقة محاولة لخلق صور شعرية عنها، كما عبر عن ذلك مرة المفكر الفرنسي "غاستون باشلار"، وعن الفائدة الرئيسية للبيت كمكان يقول: "البيت يحمي أحلام اليقظة- والحالم- ويتيح للإنسان أن يحلم بهدوء". وعند الفنان "الداخل" ليست الأمكنة مثالية أو ساكنة أو صورة نوستالجيا لذكريات الماضي الجميل، بل هي أمكنة متحركة، تتغير مع الأحداث والزمن، كا في لوحات "الأهوار ومدن الزهايمر". وهو كغيره من المسافرين الأبديين، دأب على التواصل مع بلده ومشكلاته من خلال إيمانه بقوة الفن على تغيير الوعي والمفاهيم وعلى الاحتجاج، إذ كان العراق حاضرا برموزه وتاريخه وخرابه أيضا، حتى باتت صورة لأمرأة عراقية بثوبها التقليدي، تلف وجهها بربطة رأس سوداء وعباءة تتكرر في الكثير من أعماله، وتصبح أيقونة من شمع أسود يختم جلّ أعماله، خاصة في لوحة كبيرة -كما في أكثر لوحاته - أو هي مجموعة لمئات المصغرات حملت وجوه نساء، كأنها طوابع مكبرة لأمهات مفجوعات، وأخريات ينتظرن غائبين، زوجات وحبيبات وأخوات فزعات يجرح أرواحهن الفقدان. وفي لوحات "الأهوار" رسم مشاهد الحياة اليومية فيها بطريقة عين الطائر أو الصقر، في تجاور موضوعي لعين الفنان نفسه التي تسافر وتحلق فوق المشهد لتصور أكبر مساحة منه، بحيث تبدو حجوم الناس والطرق والبيوت أصغر وأبعد كما هي في ذاكرته، كأنها نظرة وداع لتاريخ مجيد من الأحلام والعمل الدؤوب والبهجة، واصطياد اللحظات الهاربة للدهشة الأولى.  

__________________________

الفنان كاظم الداخل:  1950تولد في مدينة الناصرية... 1986 تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة في روما/ إيطاليا... 1991يقيم في السويد منذ العام... بعض معارضه الشخصية: 1973معرض شخصي، جامعة المستنصرية في بغداد/ العراق... 1982 معرض شخصي في جمعية الفنون التشكيلية/ الكويت... 1986 مركز الفن والثقافة (فيلاجا) روما/ إيطاليا... 1993 ستوديو الفن، مالمو/ السويد... 1993 معرض كاليري 4، لندن/ إنجلترا... 1995 شامبالا، صالة Det atniske ، كوبنهاغن/ دانمارك... 2000 أولكافيه، مالمو/ السويد... 2012 معرض أوكامبو، مالمو/ السويد... 2016 معرض (Jäger &  Jansson ( لوند/ السويد... 1993 عضو نادي الفنون السويدية.

عرض مقالات: