بلادُ الرافدين؛ منذ ان أشرقت الشمس عليها ولا تَزَالُ أرضًا معطاء، فأولى الاختراعاتِ في التاريخِ، قدَّمها العراقيُّ الأولُ (السومريّ) وهي: الكتابة، والعجلة (الدولاب)، والمحراث، والموسيقى، والأدب (الملاحم)، وعلم الفلك، وعلم الرياضيَّات، وعلم الخرائط، والتاريخ، والقانون، وتخطيط المدن، وصناعة البطاريَّات.. وغير ذلك الكثير، وفي التاريخ الوسيط أضحَت بغدادُ منارةَ العالَم وقِبْلَتَهُ في العلمِ والتَّرجمةِ والثَّقافةِ العامَّة.

وفي العصرِ الحَديثِ -وبعد  تشكيلِ الدَّولة العراقية الحديثة سنة (1921م)- برزت شخصياتٌ علميَّةٌ مهمَّةٌ كانَ لها صدًى واسعٌ، شغلت الناسَ وملأت الدنيا بنشاطها العلميّ والثقافيّ، ومن هولاء اللغويّ والمؤرِّخ مصطفى جواد الذي يُعدُّ من أهمِّ اللغويين العرب في القرن العشرين، وقد مرَّت الذكرى الخمسون على رحيله قبل أشهرٍ قلائل.

ولد مصطفى جواد سنة (1904م) في منطقه (عگد القشلة)  بالجانب الشرقيّ من بغداد من عائلة تركمانيَّة الأصل، وكان جده (مصطفى إبراهيم البياتيّ) شاعرًا يكتبُ باللغة العثمانية ذات الحروف العربيَّة، أمَّا والده فكانَ خيَّاطًا ماهرًا ومشهورًا في بغداد آنذاك.

وبعد الاحتلال الإنكليزيّ لبغداد سنة (1917م)  انتقلَ مع عائلته إلى مدينةِ دلتاوة (الخالص اليوم) وهو لم يكمل الابتدائية، وفي هذهِ المدينة دخل الكتاتيب فتعلَّم قراءة القران والكتابة، فضلًا عن حضورهِ المجالس الحسينية برفقة والده الذي أُصيبَ في عَيْنَيْهِ، ثم انتقل –بعدَ ذلكَ- إلى رحمة اللّه ، فأصبح مصطفى تحت رعاية أخيه الأكبر كاظم جواد الذي كان يعشق الشعر والأدب ويُعَدُّ من أدباءِ بغداد في حينه، فأثَّرَ بشكل كبيرٍ في تحديد مسار مصطفى جواد الثقافيّ والفكريّ، بعد أنْ أهداه معجمًا لغويًّا طالبًا منه حفظ عشرين كلمة في اليوم، مستفيدًا من وصية ابن خلدون الّتي يَقولُ فيهَا: "لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلُّم اللسان العربي، وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته تكون جودة المَلَكَة الحاصلة عنه للحُفَّاظ" حتى أصبحت لديه حافظة واعية وذاكرة مُتَّقِدَة وقابلية ذهنية عالية مكَّنته من الحفظ والإتقان بشكلٍ سريع.

عاد إلى بغداد؛ ليكمل دراسته في (المدرسة الجعفريَّة) ، فَلَقِيَ رعايةً من مديرها (شكر البغدادي) الذي اكتشف موهبته، ثُمَّ ألزمه بحفظ (الاجروميَّة) وهي موجز في النحو على مذهب الكوفيين من كتاب «الجُمل في النحو» لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحق الزجّاجي (ت: 340هـ) في 145 بابًا، ألفه محمد ابن اجُرُّوم (ت: 723هـ)، فحفظها في ثلاثةِ أيام، وزاده أكثر فأهداه كتاب (شرح قطر الندى) لابن هشام الأنصاريّ (ت761هـ)، فأتقن مضامينه، فاشتهر أمرُ هذا الصّغير النّابِه في المدرسَةِ وبينَ الأسَاتيذ، حَتَّى لُقِّبَ بـ (العلّامة النَّحويّ الصغير)!

وحينمَا دخلَ دار المعلِّمين ببغداد، وجد من يرعاه فيها؛ إذ حظيَ برعَايَةِ الأستَاذ طه الراوي (1890- 1946م) الّذي أهداه (ديوان المتنبي) بـعد أن وجده يحفظ القصيدة الطويلة بساعةٍ واحدةٍ حِفظًا سليمًا مُتقَنًا، وَتَلَقَّاهُ بالرّعَايَةِ أيضًا الأستَاذ ساطع محمد هلال الحُصري (أبو خلدون) (1879- 1968م) الذي أهداه قلمًا فضيًّا عندما وجده يكمل عجز البيت الشعري إذا توقف عن تذكره، ولهُ ذائِقَةٌ نَقدِيَّةٌ في الشِّعرِ، وفي أثناء دراسته كان ينشر نتاجه الأدبيّ في المجلات المشهورة آنذاك.

وبعد تخرجه عُيِّنَ في لواء الناصرية معلمًا ثم في البصرة فبغداد، وأخذت مداركه تتوسع فأخذ يهتم بتحقيق التراث العربي الإسلامي.

اختير ضمن المبتعثين إلى باريس ليحط الرحال في جامعتها العتيدة السوربون ليدرس التاريخ فيها، بـعد أن درس اللغة الفرنسية في القاهرة لمدة سنة (1933م) وأثار إعجاب علماء مصر ومُثَقَّفيهَا آنذاك وأخَذ القلوب والأبصار عندما وجدوه ثاقب البصر: بعيد النَّظر، ذا فراسة.

ولبزوغه العلمي في جامعة السوربون اختاره المستشرق المعروف لويس ماسنيون (Louis Massignon) (1883 - 1962م) وهو من أكبر المستشرقين آنذاك لكي يشرف على أطروحته للدكتوراه التي كانت بعنوان (سياسة الدولة العباسية في أواخر عصورها) وعند دخول القوات النازية باريس استعادت وزارة المعارف العراقية سنة (1939م) الطلبة المبتعثين من باريس وعاد مصطفى جواد إلى بغداد، ليرسل بـعد ذلك مشرفه لويس ماسنيون رسالة إلى وزارة المعارف بتأهيل مصطفى جواد وحصولهِ على الدكتوراه، وأوعز الوزير صالح جبر بتعيينه في دار المعلمين العالية، وأخذ اسمهُ يسطع في العالم العربي ومجامعه الثلاثة: دمشق والقاهرة وبغداد.

تنوعت كتابات الدكتور مصطفى جواد  فأصبح موسوعيًّا من الطراز الأول، واشتهر اجتماعيًّا عندما كان يطل على الأسرة العراقية ببرنامجه التثقيفي والتعليمي (قل ولا تقل) الذي كانت له شعبية كبيرة، وزاد إقبَالُ النّاسِ علَى هذا البرنامجِ لِمَا كانَ يَتَحَلَّى بِهِ أستاذُنَا العَلّامَة مصطفى جواد بمن رِقَّةِ طَبْعٍ، وَطِيبِ لُقيَا ، وَمَرَاحَةِ نَفْسٍ ، ويروي عنه البغداديون الكثير من النكات والمواقف الأدبية الساخرة في حياته وتعاملاته اليومية مع الناس والأصدقاء ولا تزالُ ذاكرة العراقيّينَ تحتضن صورَ تَجَمُّعِ العوائل أمامَ التلفاز آنذاك؛ بانتظارِ عرض البرنامج.

توفِّيَ- رحمهُ اللهُ – في اليومِ السابع عشر من شهرِ تشرين الثاني سنة 1969م، وسار في تشييعه رئيس الجمهورية آنذاك، وجميع طبقات الشعب.

لقد كانَ – رحمهُ اللهُ – مُبدِعًا في جميعِ مجالاتِ البحثِ العلميِّ، فهوَ مُحَقِّقٌ مُدَقِّقٌ، ومؤلِّفٌ مُستَدركٌ ،ومترجمٌ مُبدِعٌ، ومن جُملَةِ أعلَاقِهِ النّفيسَة: تحقيقه لكتاب (الحوادث الجامعة)، ولكتابِ (رسائل في النحو واللغة)، ومن ترجماتِهِ: ترجمة (قصة الأمير خلف) عن الفرنسية، ومن أهمِّ تَآلِيفِهِ: (سيدات البلاط العباسي)، (المباحث اللغوية في العراق)، و(الأساس في الأدب) و(دراسات في فلسفة النحو والصرف واللغة والرسم)، و(خارطة بغداد قديمًا وحديثًا مع أحمد سوسة) نشره المجمع العلمي العراقي، و(دليل خارطة بغداد) و(دليل الجمهورية العراقية)... وغيرها الكثير.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* رئيس اللجنة العلمية في المجمع العلمي العراقي

عرض مقالات: