في قراءةٍ متأنيةٍ وباستمتاع قرأتُ ديوان (متى يكون الموتُ هامشاً..؟) للشاعر أنمار مردان، طباعة دار الفرات للثقافة والاعلام- بابل/ العراق، سنة 2019.
أولاً/ عتبات النّص: لعنوانات نصوص الديوان مزيةٌ يتفرّد بها عمّا سواه من دواوين، حيث نجدُ الشاعرُ قد همّشَ، وهشّمَ مقولةَ الناقد الفرنسي(رولان بارت) التي تقول: (العنوان ثريا النّص)، فليس بالضرورةِ أن يكونَ العنوانُ دالاً لفحوى النّص، أو دالاً لمتن القصة أو الرواية، فعنوانات الديوان تسوحُ بك ولا تحيلك الى مبتغى النّص ومرماه، بل تجعلكَ تبحثُ في ثنايا كلّ مقطع، بل يكادُ النّص أن يكونَ ومضةً أحياناً. ومن عنواناته: (متى يكون الموتُ هامشاً؟)، (النهرُ الذي ودّعني توّاً.)، (الحربُ عند رمق الثلج)، (نصوصٌ ملوّثةٌ جدا)،..
ثانياً/ صورة الموت في الديوان: ما إن تلجَ كهوفَ ودرابينَ الديوان حتى تصطدمُ بصور الموت وايحاءاته في معظم نصوصه، بدءاً من عنوان الديوان حتى منتهاه، وهو الشعور والاحساس الذي يظل مسيطراً عليك، كيف لا والشاعر مستغرق في حياةٍ وعالمٍ لا يبعثُ ولا ينتجُ إلا الموت. وبدءاً من العنوان يظلّ الموتُ متناً والحياةُ هامشاً، (متى يكونُ الموتُ هامشاً؟)، وصورة العبور للحياة الأخرى كما يصوّرها في عنوان(متى أحملُ صراطي المستقيم؟)، ويأتي الموت بصورة حذف الذات في قوله(بعدَ حذفي)، وصورة جنديّ مجهول (لا تكتبوا شيئاً على قبري)، ثم يبتكرُ الشاعرُ صورةً أخرى يأخذها من حالة التصوّف، ومن حالة العشق الحلاّجي حينما يصرخُ (أنا سيّدُ الموت)، ثم يتحوّلُ الشاعر في صورةٍ سريالية ليرسم الموت فيقول (الموتُ بركةٌ سمينةٌ)، ويطوي الحزن كما هو (الجوكر) لينشرَ الفرح مع ان كل الأسى والدمار وبرومانسية عاشق يدعونا فيقول (ونزورُ القبورَ بابتسامةٍ)، هي أوجهٌ مختلفةٌ يجعلنا الشاعرُ نستشعرها، ولا يجعلها في قالب واحد، أو أسلوبٍ وألفاظٍ مكرورةٍ، بل أحياناً يجعلنا لا نملّ من مسايرته وسط تابوت أو في مقبرة، صورٌ تتجلى فيها صلابة الشاعر وعدم خوفه باللقاء المحتوم بل يسطّره ويتغنّى بأوجهه وصوره التي شكّلها .
ثالثاً/ السؤال في الديوان: الديوان مزدحمٌ بالأسئلة، لا يخلو نصٌّ من سؤال، وقد قارب عدد الأسئلة الأربعينَ سؤالاً، والأسئلةُ لها أجوبةٌ أو مفاتيحُ في المقطع ذاته أو النّص، وفي الأغلب الأعم، أسئلةٌ يُرادُ بها استفزاز المتلقي، واطلاق صافرة انذار، أو بعضها أسئلةٌ إنكارية، أو يراد بها السخرية، وأمور ومعانٍ وضعها الشاعر عن قصد. فقد تكرّرت الأسئلة باستخدام حروف وأسماء الاستفهام كما أحصيتها: (متى / 6 مرات)، (منْ/ 8 مرات)، (لماذا/ 3مرات)، (ما/ 3 مرّات)، (ماذا/ 2 مرّتان)،(هل/ 2 مرتان)، (أيّ/ 5 مرات)، (كم/ 1 مرة واحدة)، (أين/ 1 مرة واحدة).
ومن هذه الأسئلة: (منْ يعزفُ بعدي؟)، (كمْ هو طويلٌ هذا العناقُ القصير؟)، (منْ سيدفعُ لي ثمنَ هزّتي القديمة؟)، (لماذا نضعُ اعلانات الموت في وجوهنا؟)، (هل للأرضِ ظلٌ نحيف؟)....
رابعاً/ الأنا/ تتضخّمُ (أنا) المتنبي في نصوص الشاعر، فقد صاحبتْ (أناهُ) صوره ومقاطعه، (أناهُ) التي ينزّهها عن الآخر، وعن الكون، فيصوّرُ نفسه هو ولا آخر بعده(وأنا أدوّنُ أيّ اخضرار)، (وأنا أرى وجهي)، (وأنا سيّدُ الموت.
خامساً/ الموروث في الديوان: حشّد الشاعرُ في نصوصه العديدَ من النصوص والاشارات من الموروث(القرآن، الحديث، الأشعار، الأمثال، الحكم، المأثور...)، حيث تلاعب بالألفاظ ونحتها وغيّر فيها وأبدل وأحلّ ألفاظاً عليها كي يستقيم النص في ذاته على وفق ما يراه هو، واستخدام الموروث يعني وجود الكم من الخزين المعرفي لدى الشاعر الذي يسخّرهُ في بناء نصوصه، ويتصرّفُ في انتقاء ما يريد على وفق موضوعه، وهاك مثلاً: (أيتها النّفس الرافضةُ أرجعي) وهي إشارة الى آية في (سورة الفجر/89، الآية:27)، و(بدايةٌ لنهايةٍ أكلَ الدهرُ ثلث جوعها وقفز.)، وهي إشارة الى مثل (أكل الدهرُ عليهِ وشرب)، و(كلّ نفسٍ ذائقةُ النوم)، إشارة الى (سورة آل عمران/3، الآية: 185)، (قبلَ حانةٍ وثلث)، وهي مأخوذة من (قبل ساعةٍ وثلث)، و(انا غايةٌ في نفسِ صعلوك) وهي اشارة الى (سورة يوسف/ 12، الآية 68)،و قوله(لقلتُ لكِ إنّي بكِ/ بعدَ اللهِ أعتصمُ ...) وهي إشارة الى قصيدة (العلم) للزهاوي (عش هكذا في علوٍ أيها العلمُ...)،... وهكذا الكثير، تجدهُ مبثوثاً في نصوص الديوان، أضافت الى النصوص جمالاً وتأويلا وفكراً .