من العنوان ينطلق الكاتب طه رشيد في تشييد مضمون "نقطة ضوء عراقية" في افتراض حلكة داكنة لا نرى فيها سوى بقعة الضوء او ربما يدعونا الى رؤية الجانب المضيء منه التراجيديا العراقية المستمرة وان هناك نورا سينبثق حتما ويشع في نهاية النفق.

هو يكتب في فصول الكتاب الثلاثة في السياسة والفن وفي تأبين واستذكار الآخر، بين هذه المثابات الثلاثة وعليها يجلس طه رشيد متربعا على عرش لغة سهلة ثرية (منحازة لوجع الناس كمزاج بساتين وبيوت بعقوبة) كما يشير الشاعر رياض النعماني، يستعير في كتاباته السياسية في الفصل الأول ما هو مأخوذ من التاريخ السياسي العراقي الحديث كاستشهادات وقرائن حوادث ذات مزاج ساخر وتهكمي ولكن هدف المؤلف من الاتكاء ليس الماضي، انما يسقط ما يريد وينتقي من خزين الماضي على وقائع الحاضر اليومية، فالحاضر لديه اهم من الماضي. فيكتب في "بعير السيد الرئيس" وعن الفساد في الزمن العارفي عندما يشتكي الجندي لدى الرئيس عبد الرحمن عارف الذي زار وحدة من وحدات الجيش العراقي الذاهبة الى صحراء الأردن في حرب حزيران 1967 عن غياب اللحم في مؤونته اليومية مدة طويلة؟ فأجابه الرئيس:

- ابني احنه مخصصين لكل جندي بعير، لكن عضة على عضة من بغداد للأردن لم يبق من البعير سوى هيكل عظمي.

دلالة على عظم الفساد الذي ينخر مؤسسة الجيش من ذلك الزمن الى اليوم. او ان يسقط تجاربه وحياته في المهجر الفرنسي على كتاباته اليومية ويقارن شأن العارف المتبصر بين مشاهداته في باريس ومشاهداته في بغداد مقارنا ومقاربا للحوادث. فقد يعتذر الرئيس الفرنسي ماكرون بعد خمسين عاما من زوجة ناشط يساري فرنسي قضى خلال حرب التحرير الجزائرية حيث قاتل في صف الجزائريين، ويكافئها ماديا ومعنويا.. فأين نحن من شهدائنا التاريخيين هل استردوا حقوقهم، هل اعتذر من عوائلهم شهداء 1963 و 1979 و 1991 وشهداء تشرين؟

اصبح طه رشيد حقيقة هو نافذتنا اليسارية المثقفة والمطلة على الوضع الفرنسي من الداخل لينعش أذهاننا واسماعنا بكل ما هو جديد وحيوي من التجربة الثقافية والسياسية والاجتماعية في بلدان العالم الغربي. وهذه مهمة المثقف العضوي الذي يهمه وضع بلاده الام أولا.

لم يكن طه رشيد مثقفا متروبوليا، بل كان منحازا للداخل العراقي لوضعه ومثقفيه ويومياته، ولم يفضل يوما حياة باريس الليلية بسهراتها وملذاتها على المشي سيرا على الاقدام من المسرح الوطني الى الكرادة او الى ساحة الاندلس، بل عاش محنة صيف بغداد القائظ.

وفي الفصل الثاني يحكي المؤلف حال الفن والثقافة والمسرح بخاصة في بلادنا من خلال مشاهداته لعروض مسرحية ومعارض تشكيلية ومهرجانات عربية شارك فيها فاعلا ومواظبا على ارسال الرسائل اليومية الى هذه المهرجانات لنرى عن قرب عروضا مسرحية نقرأها وحراكا فنيا نشاهده من خلال ما يكتب ويدون، او عندما تحط ادواته في المسرح وقضاياه اليومية والاستراتيجية كـ (المسرح بوابة للمصالحة) و (العروض المجانية وداعاً) داعما للعروض المسائية لان المسرح هو ابن الليل وهدأته المبدعة.

وفي الفصل الثالث المعنون "خالدون في الذاكرة" يشرع الكاتب بكثير من الوفاء في تأبين واستذكار ورثاء مجموعة كبيرة من فنانينا وادبائنا وملحنينا الراحلين كيوسف العاني وطه سالم وفاضل خليل وسامي عبد الحميد وإبراهيم الخياط وخليل شوقي وعبد الحسين السماوي وسامي عليوي وفالح عبد الجبار وخضير ميري، ولم ينس قضاياه المباشرة واليومية الساخنة في ثورة تشرين الغراء حين استذكر شهداءها ولملم جراحاتها ودعمها ايمانا منه بان التظاهر السلمي والاحتجاج الشرعي هو السبيل الأمثل للحرية من الأنظمة الدكتاتورية.