تبدو العلاقة بين السلطة والمعرفة جدلية تحكمها عوامل عدة اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية فعلاقتهما هي علاقة بين منظومتين متضادتين وهذا التضاد متأت من تغيير الايديولوجيا التي تعتمدها كل منهما في صراعها مع الآخر فتاريخية الصراع الإنساني تكشف لنا أن هناك معضلة اسمها (الايديولوجيات) كما أنّ مجمل الجدل ينشأ بين طرفين يتجددان دائماً. ويمكننا أن نستعيد لهما وصفي (نخب آمرة) و(نخب مفكرة) فالنخب الآمرة تنطلق من فحوى الإمساك بمرتكزات القوة دعما لإبقاء سيطرتها وإرغام الطرف الآخر (النخب المفكرة) على الرضوخ على إن السلطة منذ تشكلاتها الأولى وحتى اللحظة الحاضرة لم تستطع أن تحقق علاقات تواصلية أو حوارية دائمية مع الطرف المضاد لها لأنها منكبة على تحقيق ذاتها ومآربها النفعية الخاصة والمغلقة هادفة إلى تحجيم العلاقة في إطار ضيق هو علاقة التابع بالمتبوع.

هذا الهاجس من النخب المفكرة جعل السلطة تعيش رهينة وساوس الشك والريبة وسوء الظن بكل ما يدور حولها مما أبقى شرارة الصراع متوقدة لا تكاد تختفي حتى تظهر مشتعلة مما أبقى سبل الالتقاء مع الطرف الآخر معطلة ومسدودة.

غير إن السلطة في أحيان كثيرة قد تتخلى عن نمطها الإيديولوجي هذا وتتلبس أيديولوجيا مداهنة من أجل استقطاب الطرف المعرفي وتقريبه منها وتأسيس خطاب مداهن جديد يهدف إلى الالتفاف على المثقف وتعطيل طاقاته الثقافية المعارضة وتفعيل أدواره الوظيفية التي تحقق السلطة من خلالها منافعها الخاصة وذلك بجعله بوقاً من أبواق السلطة وأداة مسخرة لتحشيد المد الجماهيري المؤيد لفكر السلطة وتطلعاتها أو مبرراً لأيديولوجيتها وهذا كثيراً ما يحدث على وفق ما يرى ابن خلدون في أيام الحروب.

إذ تستنفر السلطة كل طاقاتها المادية والدعائية من أجل الحصول على رضا المثقف واستقطابه ضمن فلكها، ملوحة له بآمال عريضة، لكن حاجة السلطة إلى مثل هذا المثقف محدودة في إطار زمن ما، أما في أوقات السلم فلا وجود لهذا المثقف إلا من خلال كينونة السلطة، وما أسرع ما تتخلى السلطة عنه تاركة إياه رهين أسفه غارقاً في متاهات التناغم القسري مع هذه السلطة التي احتوته وهشمته وقيضت له وجوداً هلامياً تقليدياً لا يسبح إلا في فلك الامتثال والطاعة معطلاً عن امتلاك الرغبة أو الحافز في التغيير أو الفعل في المجتمع لأنه قد جرد من وعيه الخاص ثقافيا فسلب حينئذ قدرته على فعل له قيمته لأنه لقن انماطاً من الوعي تتناقض مع وعيه الخاص وادراكاته النوعية ليمارس – فيما بعد ادواراً سلبية تكمل ما بدأه في تسويغ ايديولوجيا السلطة، ليقع فريسة (التعالي المعرفي) ضد العامة والبسطاء ممن حوله كردة فعل عنيفة تجاه ما حدث له.

إن افتقار السلطة إلى المعرفة بوصفها وسيلة أيديولوجية لغرض تحقيق الهيمنة بكل أبعادها وحدوث الثبات والاستقرار السلطوي حتم عليها هذا الأمر بأن تقيم علاقات مهادنة أو مخادعة مع المثقف بوصفه أداة تمارس المعرفة وتنتجها فهو المالك لزخم المعرفة، بينما السلطة تتقوقع في مجال الاستهلاك السلبي الأمر الذي حدا بها إلى السعي نحو استعادة المعرفة وربما احتكارها لصالحها كما حصل مع الكنيسة في أوروبا لتدجين الواقع وامتلاكه، هذا فضلاً عن كون المعرفة (سلطة) أيضاً تتجلى ضمن منظومة فكرية أو نسق إيديولوجي تمارسه (النخب المفكرة) كقوة داعمة تؤكد مشروعيتها ومصداقيتها في آن واحد فهي أي المعرفة ضرورية للسلطة كآلية انتاج الوعي) .

إن الحاجة للمعرفة تفرض على السلطة كينونتها وهذا النهج يقوم على إقامة علاقة من نوع آخر، هي علاقة معايشة مع الواقع أو المجتمع وبمختلف طبقاته لأن الفئة السلطوية التي تروم قيادة المجتمع من دون شرط المعايشة والتكيف سوف يلفظها المجتمع ويتمرد عليها و إذا أردت أن تحكمني فدعني أراك تتألم هكذا ينظر الواقع للسلطة وبما إن السلطات عموماً غير قادرة على المواصلة أو المتابعة في تبني منهج المشاركة أو المعايشة إلاّ لفترة محدودة اقتضتها طبيعة النشوء أو التشكل الأولى لها، ذلك انه لا يمكن لشعب حي ومثقف أن يخضع لسلطة دكتاتورية وإن الواقع ما هو إلا تابع ذليل لكل اشتراطاتها وفي إطار كهذا لا يمكن أن تنشأ علاقة تواصل دائمة بين الاثنين سوى علاقة هامشية تفرضها السلطة هي علاقة (التبعية) حيث يسود مفهوم القوة المار عبر بوابات القمع والهيمنة وعندئذ تتحول قضية (الاتصال) إلى شبه مستحيلة، والاستحالة كما يرى أحد الباحثين متأتية من كون السلطة تتعالى على الواقع أو تتحايل عليه حتى توقعه في شرك التبعية والنظر إليه بوصفه أداة للخدمة والتعبئة، أو جعله ميداناً للحراسة والعقاب.

ولعل ارتكاب السلطة لهذه القطيعة مع الواقع يؤدي بها إلى الإخفاق لأن معظم السلطات التي تحكمها هذه الايديولوجيا في التعامل مع الواقع المعيشي سيكون مصيرها العزلة والابتعاد عن حالة الاستقرار وقيام منظومة سلطوية قاصرة ومحكومة بنسق مضمر يخفي سوء النية والشك والريبة ويؤمن بأسلوب (الاحتواء القسري) و(إملاء الشروط) حفاظاً على معطيات قوته، لذا يلجأ المجتمع إلى عملية الانفصال عن هذه السلطة لاسيما إذا ما شعر بأنها تشكل خطورة عليه وتهدد مصيره وتفتت كيانه وتكون النتيجة بعد ذلك تدهور العلاقة بين المجتمع والسلطة فتحدث الثورات على رأي أحد الباحثين ولعل ما حدث ويحدث في بعض الدول العربية كتونس ومصر والجزائر واليمن من تظاهرات حاشدة نعزوها إلى إيديولوجيا السلطة الحاكمة المستلبة حقوق المجتمع والساعية الى إذلاله.

عرض مقالات: