ضع المرايا في وجوههم.. حتى يروا حقيقتهم
من بين الكتّاب العرب القلائل الذين تأثرت بهم في مطلع حياتي الأدبية كان الكاتب الكبير الراحل يوسف إدريس، أذكر أنَّني كنتُ مهووسا بأسلوبه الرشيق وجرأة موضوعاته واقتحامه التابوهات، لا سيّما في أعماله العظيمة مثل “لغة الآي آي” و”الندّاهة” و”بيت من لحم” و”الحرام” و”العيب” وغيرها، وأزعم أنَّني قد قرأت له جل أعماله التي وصلت الى العراق آنذاك بتأثر شديد، لا سيّما القصصيَّة منها.
وفي أواخر الثمانينات من القرن الماضي، وكنت وقتها أديبا شابّا يقودني جموحي وتمردي، سنحت لي فرصة لم تكن في الحسبان لمقابلة يوسف إدريس بعد أن تمت دعوته من الجهات المشرفة على مهرجان المربد، وقد جرت العادة على تخصيص أديب شاب لكل زائر من الضيوف الكبار، فاستقتلت من أجل أن أكون مرافقا ليوسف إدريس، وكان لي ذلك في نهاية المطاف، فالتقيته لأوّل مرّة في مكان إقامته في فندق المنصور ميليا في جانب الكرخ وكنت متحرجا ومترددا، لكنّني فوجئت ببساطته وحلاوة روحه وميله الى النكتة والسخرية من الواقع المؤلم الذي كان يحيط بنا.
كان إدريس وقتها من أشدّ المعارضين لاتفاقيات كامب ديفيد، وهو الأمر الذي جعله يحظى بمكانة كبيرة لدى النظام في العراق وصدام حسين تحديدا، حتى أنّني كنت حذرا من مكاشفتي له بكرهي للنظام، لكن حين جمعتنا ذات ليلة جلسة هادئة على ضفاف دجلة في شارع أبي نواس وتكشفت السرائر وأسدل الارتياح أستاره على النفوس، اكتشفت سخريته الكبيرة من الأنظمة والدكتاتوريات، وتعلّقت به أكثر بعد تلك الليلة. كنا نقضي الوقت بالتسكع في أزقة بغداد العباسية القديمة وتناول الأطعمة البسيطة، لا سيما لحمة الرأس التي نطلق عليها في العراق “الباجة” بتفخيم الباء.
ولعل من أكثر الكلمات التي تركت أثرا عميقا في نفسي ووعيي هي تلك الكلمات التي وصف فيها الأدب، عندما عاب على نصّي ـ آنذاك ـ سطحيته وخوفه وجبنه وتردده وخشيته من العيب، على حدّ قوله، “ضع لهم المرايا في وجوههم، سيديرون نظراتهم إلى الناحية الأخرى أو سيتراجعون أو يضعون أيديهم على أفواههم المفغورة دهشة، لكن لا تكن رحيما ولا ترفعها حتى يروا حقيقتهم، الناس تحب من يجرؤ على كشف حقيقتهم يا محمد”.
كانت كلماته عن مفهوم الثورة وعدم جدوى الخطب الرنّانة تلهمني في الحقيقة، على الرغم من ميله الى الانحراف نحو موضوعة المرأة، كما لو كان يستقرئ ميلي الفطري لتلك الموضوعة، لكن أكثر ما كان يدهشني فيه هو حجم التناقض الكبير بين شكله الأرستقراطي وموضوعاته المغرقة في المحليّة وقصص القاع والغوص بعيدا في عمق المجتمع المصري.
وكان يبرر ذلك في القدرة على النظر من مكان مرتفع لرؤية المشهد كاملا “لا تستطيع أن ترى ما هو موجود على تلك الطاولة من أطباق وكؤوس لو كانت زاوية النظر لديك منخفضة يا عزيزي، لكن لو وقفت ستتسلط على المشهد كاملا. هل فهمت ما أعنيه الآن؟” طبعا فهمت ما رمى إليه وقتها، على الرغم من دهشتي الكبيرة من إسباغ الفلسفة حتى على تلك المفردات البسيطة التي تحيط بنا، لكن في المحصلة أستطيع القول إن ذلك اللقاء البعيد والوحيد الذي جمعني مع كاتب بحجم يوسف إدريس، قد غيّر الكثير من المفاهيم لدي، سواء على صعيد النظرة الى الحياة أو على صعيد فهم وظيفة الأدب وجدواه وماهيته.