ما أكثر الموبقات والممارسات الشوهاء التي تصادفنا ونحن نتابع تلك الفوضى العارمة على صعيد النشر، أقصد تلك التي تبدأ من النشر على حساب ـ المؤلف ـ ولا تنتهي بالناشرين المرتزقة الذين دخلوا مهنة النشر من باب الشطارة والارتزاق من دون تأسيس يذكر أو ثقافة لازمة. وفي تمحيص الظاهرة، لا بد من محاولة التأمّل في معنى الأدب وماهيته.

يستخدم الباحث والمحلل النقدي الإنجليزي ويليام ج. لونغ القياس على وصف مشهد عابر لصبي ورجل مسن يتمشيان على طول شاطئ البحر، وفجأة يعثر الصبي على قذيفة غير منفلقة من مخلفات الحرب العالمية، فيلتقطها ويضعها على أذنه في تصرف تلقائي، ثم يصف الأصوات الغريبة التي يسمعها وهدير البحر ونعيق الغربان للرجل بجانبه وعلامات الدهشة بادية على وجهه كما لو كان يسمع أصواتًا تأتي من العالم الأخر، قبل أن يتدخل الرجل بوعيه ليخبر الصبي بأنّ تلك الأصوات التي سمعها ناجمة عن المنحنيات في جسم القذيفة حين تمرّ فيها الريح فتترك أصداءً لا حصر لها. إن هذه التجربة، من وجهة نظر لونغ تصلح مدخلاً لفهم ماهية الأدب على وفق آليتين مختلفتين، الأولى عفوية من المتعة البسيطة والاكتشاف التلقائي، والأخرى عميقة من التحليل والوصف الدقيق، فحقيقة كون ما عثر عليه الصبي قنبلة لم يحل دون أن تكون سببًا لتخيّل عوالم مختلفة كما لو كانت مكانًا للأحلام والسحر.

إن الدخول إلى هذا العالم الجديد والاستماع للأصوات هو ما يجسد ماهية الخيال الخلاق، بينما التحليل، على الرغم من ثقله أو محبطاته، لا يزال مسألة مهمّة في الحقيقة على وفق هذه النظرية قد نصل نسبيًا إلى فهم متعة الأدب كخطوة أولية، لأن التعريف الدقيق مستحيل من دون تحديد بعض صفاته الأساسية.

وبالنظر للجودة الفنية التي تعدّ أساسًا للأدب، فأنّه يبقى، كما هو الفن عمومًا، نوعًا من التعبير عن الحياة والجمال بطرق مختلفة، على الرغم من أنه انعكاس لبعض الحقائق ـ وليس كلها بالضرورة ـ تلك التي تكون موجود طول الوقت أمامنا لكن لم يلحظها أحد، حتى يتم لفت الانتباه لها على يد بعض الأرواح البشرية الحساسة.

إن معجزة الأدب تتلخص في اكتشاف طريقة مثيرة للدهشة، وبالتالي يجب أن يكون أيّ عمل فني ـ أدبي نوعًا من الوحي، يعبر عن الحياة في الكلمات التي تستجيب لإحساسنا بالجمال. يقول ويليام ج. لونغ نفسه: لدينا الكثير جدًّا من الكتّاب ولكن عددا قليلا من الفنانين. بمعنى أوسع فأن الأدب هو السجل الفني للحياة وتدوين معانيها وقوّتها وجاذبيتها لمشاعرنا وتمتعنا بالخيال بدلا من الفكر، فنحن عندما نقرأ التاريخ على سبيل المثال نكتشف أفعال ومآثر أسلافنا، حشد هائل من الوقائع وتفصيلات الأحداث وكل ما هو مثير للاهتمام، لكنّه لا يخبرنا كيف كانت أرواحهم ومشاعرهم ورغباتهم وكيف نظروا إلى الحياة والموت وماذا كانوا يحبّون أو يكرهون أو يخشون، فقد كانوا اناسًا مثلنا وليسوا من الحجر على أيّة حال، من هنا جاءت مقولة "من أجل فهم الشعوب علينا ليس قراءة تاريخها الذي يسجل أعمالهما فقط بل آدابها التي تسجل أحلامها التي جعلت تلك الأفعال ممكنة". لذلك كان أرسطو على حقّ عندما قال إن "الشعر أكثر خطورة وفلسفية من التاريخ". أو غوته عندما وصف الأدب على أنه "إضفاء الطابع الإنساني على العالم كله". أو وليام لونغ الذي يرى أن أهمية الأدب نابعة من كونه يحافظ على المثل العليا للشعوب، تلك المثل التي تتلخص في الحب والإيمان والواجب والصداقة والحريَّة والتبجيل وهي الأكثر جدارة بالحفظ بالنسبة للبشريَّة.

عرض مقالات: