في شباط 1848 ظهر (البيان الشيوعي) الذي كتبه كارل ماركس وفريديريك أنجلز في لندن كوثيقة مركزية للحركة العمالية الصاعدة في أوروبا حوت نقدا سياسيا وأخلاقيا لشرور الرأسمالية وأزماتها. وقد حذر البيان من شبح الشيوعية الذي يجول في أوروبا ويهدد النظام الرأسمالي الذي شق طريقه على انقاض التحالف الذي ساد لقرون بين الاقطاع والكنيسة وكانعكاس للوعي السياسي بضرورة وجود وثيقة فكرية تعبر عن رؤية العصبة حول قضايا الثورة والاشتراكية بلغة مفهومة للجماهير في خضم العاصفة الثورية التي سادت في أوروبا.

وقد كتب البيان بتكليف من عصبة الشيوعيين (1847-1852) التي ضمت حشدا من الثوريين وخليطا من الاشتراكيين الطوباويين والفوضويين والانقلابيين، والتي أعقبت تنظيم عصبة العادلين الذين جذبتهم الثورات التي اندلعت في أوروبا نتيجة التناقض الطبقي الصارخ في فترة صعود البرجوازية كطبقة سائدة وتدنى مستوى معيشة العمال بسبب الجشع الرأسمالي ورفعت ولأول مرة شعار (يا عمال العالم اتحدوا).

أما العراق فقد كان يعيش آنذاك واقعا مختلفا حيث لم يصل حكامه بعد الى مرحلة الخوف من شبح الشيوعية. فقد كان رازحا تحت ظلم و قسوة الاحتلال العثماني، احد نماذج  نظم الاستبداد الشرقي التي سادت في الامبراطوريات الإسلامية والذي توسع خلال حروبه مع الدولة الصفوية ليضم العراق اليه عام 1513. ولضمان أن يحقق المحتلون أهدافهم وأهمها جني الضرائب لتمويل المغامرات العسكرية ونفقات البلاط الباذخة وتقويض نفوذ وسيطرة العشائر وتجنيد الشباب العراقيين ونقلهم الى جبهات القتال النائية قامت بتقسيم العراق إداريا الى  ثلاث ولايات (بغداد والبصرة والموصل) تتغير حدودها بين الحين والأخر مع دور خاص لبغداد. ومن مظاهر أزمة الحكم العثماني للعراق هو أنه تعاقب على حكم بغداد 41 واليا منذ 1831 بعد سقوط حكم المماليك ولغاية احتلال بغداد من قبل القوات البريطانية في آذار 1917 وهروب آخر والي عثماني منها.

وفي 1848 عاش أغلب سكان العراق في الريف، وتعود أصولهم الى قبائل رحلت من اليمن والجزيرة طلبا للماء ومناطق خصبة للرعي في ظل احدى الفترات المظلمة تحت سطوة آخر الامبراطوريات الإسلامية، وحيث تجلت التناقضات الطبقية الحادة  بين الأقلية المرتبطة بالاحتلال العثماني المالكة للسلطة و قوة  العسكر وبقية الشعب الذي كان تعداده  عام 1867 حوالي مليونين ومئتين الف نسمة يعيش منهم 76 في المائة في الأرياف سواء كانوا عبيدا أو أقنانا أو حرفيين صغارا أو مهمشين، فريسة الأمراض المعدية والأوبئة والفقر والجوع والموت المبكر والامية والفساد، مع تدني النشاط الاقتصادي نتيجة اهمال واندثار قنوات الري وانعدام طرق المواصلات. ومن تجليات التوتر المجتمعي هو العسكرة وانتشار العنف واتساع الحركات المناهضة لسلطات الوالي وازدواجية السلطة بين المدن التي تتحكم بها إرادة الوالي العثماني والريف الذي كان خاضعا لنفوذ رؤساء العشائر المتمردة.

ولم يكن حال المدن العراقية أفضل بسبب الإهمال و انعدام الخدمات حيث تعاقبت عليها المجاعات والأوبئة كالتيفوس والطاعون والكوليرا  والفيضانات يرافقها القمع والاضطهاد من قبل جهاز الدولة الفاسد والفاشل وانتشار الامية وثقافة الجهل والغيبيات والصراعات المجتمعية.

 وقد انعكس هذا الواقع الاجتماعي على الحياة الروحية أيضا كما حدث في انتقال الحركة البابية التي نشأت في شيراز الى العراق عام 1853. وشهدت كربلاء والنجف، مركز المدارس الدينية الجعفرية، صراعا فكريا وسياسيا. انتهت الحركة بموت قائدها في ظروف غامضة وهو في طريقه مخفورا الى إسطنبول. ومن الشخصيات المميزة التي كتب عنها عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي (1913-1995) هي الشاعرة والاديبة وعالمة الدين زرين تاج بنت ملا صالح القزويني (1815-1852) التي عرفت باسم “ قرة العين” والتي درست البابية في كربلاء، وانتقلت بعدها الى التبشير والقاء الدروس، واهتمت بالشابات بشكل خاص بعد انتقالها الى الكاظمية عام 1846. وانتشر صيت مناقشاتها المثيرة للجدل خاصة بعد نزع حجابها ومناظرة الآخرين وهي سافرة، الامر الذي انتهى بأبعادها قسرا الى ايران ثم قتلها خنقا.

وفي  فترة صدور البيان في 1848 شهد العراق احدى الفترات الأكثر عنفا ودموية وصراعا بين الدولة العثمانية والعشائر التي تعززت مكانتها في الريف بسبب سياسات الولاة المتعاقبين حكم العراق، وطورت عرفها الخاص لإدارة شوؤنها، وعقدت تحالفات قبلية لمواجهة الخطر المشترك مثل عشيرة “الخزاعل” في الفرات الأوسط واتحاد قبائل “المنتفق”  كجزء من محاولاتها لصد حملات الجيش العثماني لفرض سطوته وتقويض سلطة العشائر وسواء الإدارة و فرض الضرائب والاتاوات التي ينوء بها كاهلهم والتجنيد الاجباري كما حدث عند نشوب حرب القرم بين تركيا وروسيا عام 1853.

وقد تغيرت حدود العراق حسب صراع المصالح العثمانية والفارسية ولاحقا البريطانية والفرنسية، حيث جرى خوض حرب دبلوماسية بعد سقوط الدولة العثمانية والمراوغة لإنكار حق الشعبين العربي والكردي في تقرير المصير وفرض شروط لمنح الشركات البريطانية حقوق التنقيب في حقول نفط كركوك. الا ان حدود العراق الحديثة هي جمع للولايات الثلاث مع التعديلات التي جرت عليها.

اقتصاديا شهد العراق تطورا في تصدير  المنتجات الزراعية والحيوانات نتيجة تخفيض الرسوم بعد عام 1861 وتطور النقل النهري ومد اسلاك التلغراف وهيمنة راس المال الأجنبي والبريطاني بشكل خاص وبدايات انشاء ورش ومشاريع صناعية صغيرة مثل المطاحن ومكابس الصوف ومعامل الثلج ونصب النواعير والمضخات التي لعبت دورا في تطوير القوى المنتجة. ورافق الاحتلال البريطاني بدخول الجنرال مود بغداد في اذار 1917 تغيرات سياسية و اقتصادية واجتماعية عميقة عززت نفوذ وسيطرة الاستعمار البريطاني وجعلت من العراق سوقا لتصريف البضائع المستوردة على الرغم من ظهور بعض الصناعات الوطنية المحدودة مثل السكائر والنسيج  والدباغة. وفي الريف تسارع الانقسام الطبقي نتيجة التشريعات التي زادت من هيمنة الاقطاعيين وزيادة ملكياتهم للأراضي الزراعية الخصبة. 

ومن المحطات المهمة آنذاك تأثير ثورة أكتوبر على حركة التحرر الوطني العربية ووصولها الى العراق وحدوث الانتفاضات الجماهيرية مثل ثورة العشرين. كذلك النمو التدريجي للطبقة العاملة العراقية خاصة في المؤسسات العائدة للاستعمار البريطاني مثل قطاع النفط والنقل، وبدأت الطبقة العاملة تخوض نضالات مطلبية لتحسين ظروف العمل.

وكان للمثقفين المتنورين الذين تأثروا بالفكر الاشتراكي الأوروبي دور في نشره في العراق بدءا من تشكيل نواد اجتماعية وثقافية الى النشاط السياسي اليساري. ومع نمو الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة والكادحين برزت الحاجة الى قيام حزب شيوعي عراقي تأسس في 31 اذار 1934 بقيادة يوسف سلمان يوسف (فهد) الذي يعتبر مؤسسة وباني كيانه وموطد تنظيماته، ولاحقا اشرف على عقد الكونفرنس الأول عام 1944.

منذ ذلك الحين بدأ شبح الشيوعية يجول في مدن وقرى العراقز وتحول في عام 1948، بعد مئة عام من صدور البيان الى كابوس للحكم الملكي، خاصة بعد قيام الشيوعيين وبالتحالف مع  الأحزاب الوطنية الأخرى بتفجير وثبة  كانون التي كان فيها للطلبة والشباب والنساء دور بارز،  كأحد معارك الشعب العراقي المميزة ضد الحكم الملكي ومعاهدة بورتسموث الاسترقاقية، وأجبرت النظام الملكي والحكومة البريطانية الى التراجع عنها.

وبرهن الحزب خلال عقود من النضال المستميت على توجهه في الدفاع عن الوطن وحقوق الشعب العراقي بتكويناته القومية المختلفة ومن اجل الهوية الوطنية، طور خلاله رؤاه السياسية والاقتصادية وتطبيق العدالة الاجتماعية لإنجاز مهمات المرحلة الانتقالية وتحقيق الهدف الاشتراكي بخصوصياته المستندة الى واقع العراق وتاريخه وتقاليد الشعب العراقي النضالية وتراثه الثوري.

عرض مقالات: