ما هو «المنطق» الذي يميز «رأس المال» لكارل ماركس، من حيث هو بناء فكري، ومن حيث الأدوات المنهجية، التي قادت الى هذا البناء؟

هذا السؤال ما يزال موضع بحث ثري، منذ صدور «رأس المال» في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى اليوم.

ولعل بوسع القراء اقتفاء آثار البداية من إشارات ماركس الصريحة، بالأحرى شكواه الواضحة (في مقدمته للطبعة الألمانية الثانية) من ان المنهج Methode المطبق في رأس المال «لم يُفهم إلا فهما ضئيلاُ، ودليل ذلك التصورات المتضاربة التي تكونت عنه» (رأس المال، المجلد الأول – طبعة 1984، برلين، صفحة 25).

في ذلك العهد، اتهمته المجلة الوضعية الباريسية بأنه يتناول الإقتصاد السياسي «تناولاً ميتافيزيقياً»، ويكتفي بالتحليل النقدي لـ «المعطى»، في حين يشخص البروفيسور زيبر منهج ماركس بأنه «منهج استدلالي» [deductive methode] جرياً على تقليد المدرسة الإنجليزية.

أما موريس بلوك فيرى ان منهج ماركس «تحليلي» [analytisch] وان ماركس «يتبوأ مكانة بارزة بين أعظم العقول التحليلية» (نفسه). بالمقابل اتهمه النقاد الألمان بـ «السفسطة الهيغلية».

ولعل النقد الوحيد الذي أدرك ملامح منهج ماركس الديالكتيكي، هو النقد أو التقريض الذي نشرته مجلة “الرسول الأوروبي” الروسية.

ثمنت المجلة طريقة ماركس «الواقعية» في البحث، لكنها أخذت عليه «منهج الديالكتيك الألماني» بالمعنى السيء. بعد ذلك تمتدح المجلة العرض، فتطري، المنهج الديالكتيكي، دون ان تدري، على غرار برجوازي موليير النبيل، الذي لم يكن يعرف انه ينطق “نثراً” إلا بعد ان أخبروه بذلك!

وعلى التباس المجلة الروسية يعلّق ماركس: «تُرى أي شيء وصفه (كاتب المقال في المجلة المذكورة) بتصوير ما يعتقد انه منهجي في البحث، بمثل هذه الدقة، ومثل هذا اللطف، فيما يتعلق بتطبيقي له، أي شيء وصف غير المنهج الديالكتيكي؟» (نفسه ص 27).

انها بداية كبيرة للالتباس، قادت الى دراسات متشعبة. وهي، كما يتضح، تُبقي السؤال قائماً: ما المنهج، وما المنطق المستخدم في “رأس المال” وما هي مصادره؟

ان الاكتفاء بالقول انه منهج ديالكتيكي، أو منطق ديالكتيكي (يتساءل عدد من المنظرين الماركسيين ان كان هناك شيء اسمه: منطق ديالكتيكي – كتاب كومبف مثلا الموسوم: المنطق الديالكتيكي)، أو انه ديالكتيك هيغل مقلوباً، أي «بعد ايقافه على قدميه» (حسب التعبير الشهير لماركس: ديالكتيك هيغل يقف على رأسه....الخ) ان الاكتفاء بذلك، يعادل قول لا شيء!

وإذا قبلنا بهذا التكرار، أو الحشو (أي القول بأن ديالكتيك ماركس هو ديالكتيك هيغل مقلوباً، وحسب) فثمة سؤال مشروع آخر يبرز على الفور: ما هو ديالكتيك هيغل؟ وما طبيعة “القلب” الماركسي؟

وهذا بدوره يفتح ملف علاقة هيغل – ماركس، وأيضاً علاقة هيغل – أنجلز، التي يرى البعض انها متماثلة عند الأثنين، فيما يرى آخرون (المفكر لوشيو كوليتي مثلاً) انها متباعدة أو غير متطابقة.

كما يفتح السؤال، أيضاً، ملف علاقة ماركس ليس فقط بالمنطق، بل أيضاً بنظرية المعرفة، وبكامل تاريخ المادية الإنجليزية – الفرنسية، وتاريخ المثالية الألمانية.

ان الإجابة المبسطة الأولى عن “منطق” ماركس، والقول بانه منطق هيغل مقلوباً، كما نرى، تطرح أسئلة شائكة لم تُحل كلها بعد، أو إذا كانت قد حُلّت، فبصورة أبعد من ان تكون مرضية للفكر الماركسي المعاصر.

وليس مردّ ذلك ان الجهود النظرية في هذا الصدد ناقصة أو كليلة، بل لأن السؤال الأول نفسه، برأي الكثير من النظريين، مطروح بطريقة خاطئة، أو غير شافية.

والسؤال، كما يرى مؤلف هذا الكتاب، الفيلسوف والمنظر: ي. زلني، ينحصر أساساً في الآتي: ما هي أشكال “المنطق” التي كانت متبلورة في عهد ماركس، وما الجديد الذي فعله، أو ما هو المحتوى المنطقي لهذا الجديد؟

لقد خلّف أرسطو عمارة منطقية عملاقة (الأورغانون) بقوانين صارمة، هي ألفباء المنطق الصوري: قانون الهوية، قانون عدم التناقض، قانون الثالث المرفوع، اضافة الى أشكال القياس، مقرونة بصياغات صارمة للمقولات (المقولات العشر الشهيرة التي حاول كانط اختزالها). ولم تكن عمارة أرسطو المنطقية – المقولاتية سوى تركيب بالغ الرهافة لكامل الابداع المنطقي الذي تحقق، نتفاً نتفاً، على مدى تاريخ تطور المدرسة الاغريقية.

ولو جرى ترك اسهامات الحضارات الاخرى (العربية – الاسلامية مثلاً) في المعمار المنطقي، فأن الضرورة تتطلب الإشارة، وإن يكن في عجالة لغة البرقيات، الى اسهامات بيكون (الأورغانون الجديد)، واسهامة ديكارت المنهجية (اطروحة في المنهج) و (مبحث) جون لوك (في الفهم البشري)، التي وسّعت جميعاً حدود نظرية المعرفة وبالتالي وسّعت، ضمناً أو صراحة، حدود المنطق الصوري الارسطوي. وبالفعل تبرز هنا بيئة جديدة للمنطق، وهي بمثابة أدوات قَبَلية apriori لأي مفكر جديد يبرز على المسرح، عهد ذاك.

ولا تكتمل الصورة بدون لايبنتس (اطروحات جديدة)، وسبينوزا، وأخيراً اعمال كانط، رغم لا ادريتها، ونعني بالتحديد (نقد العقل الخالص) و (نقد العقل العملي) اللذين يمسّان نظرية المعرفة والمنطق، في الصميم.

وبعد اجتياز حلقة وسيطة (فعالية الذات، أو الأنا في عملية المعرفة – فيخته، شيلينغ) نصل الى هيغل: علم المنطق، فينومينولوجيا الروح (أو تجليات الروح) والموسوعة.

ان منطق ماركس في “رأس المال” يمدّ جذوره في هذه الشجرة المتشعبة. وحصره في “قلب” ديالكتيك هيغل ينطوي على تبسيط لا علمي.

بل ان هذه الشجرة ذاتها لا تكفي اذا لم يُضف المرء انجازات العلوم الطبيعية (في القرنين 17 و 18 غاليلو، نيوتن، في الأقل)، ونتائج هذه الانجازات في الفلسفة، وبالتحديد في نظرية المعرفة، والمنطق.

هذه هي رؤية زلني في إطارها العام. وهي محاولة جسورة تقوض التبسيط النظري السائد الحائز، شأن كل تبسيط سهل المنال، على رواج وقبول واسعين، يقربان من الإيمان. وهي أيضاُ محاولة مضنية، لأن إقتفاء أثر الروابط في هذا الميدان يحتاج، كموضوع للدراسة، الى حياة أكثر من جيل.

لقد كتب الكثير عن المنهج والمنطق في “رأس المال”، من زوايا مختلفة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، حسبنا ذكر بعض الأسماء: فيغودسكي، لوكاش، الينكوف، غروشن، الثوسير، هيبوليت، كومبف، سبتولين، روزنتال...الخ. وركّز كل مؤلف، الضوء على ما يرى انه الجانب الأهم: فيغودسكي على تباين منهج البحث عن منهج العرض وتاريخ تبلور المفاهيم، ولوكاش على علاقة انطولوجيا ماركس بانطولوجيا هيغل، والينكوف على تاريخ مفهومي “المجرد” و”الملموس” وعلاقتهما المتبادلة في منظومة هيغل ومنظومة ماركس، وغروشن على العلاقة المتبادلة بين “ المنطقي” و “التاريخي”....الخ. وكومبف وشبتولين على العلاقة بين المنطق الصوري (الشكلي) الأرسطوي والمنطق الديالكتيكي، وهيبوليت على علاقة ماركس بهيغل....الخ.

وهناك حشد آخر من الأبحاث في هذا الباب. وما نقدمه هنا ليس جرداّ، بل نتف وإشارات.

معروف ان من بين تنبيهات لينين وصية هامة حول ضرورة دراسة منطق ومنهج ماركس من رأس المال، أو بتعبير أدق البنية المنطقية لرأس المال (دفاتر فلسفية) وهذا الكتاب الذي يقدم مركز الأبحاث ترجمته للقارئ هو، بمعنى معين، تنفيذ لهذه الوصية، الى جانب ما قُدم من انجازات سابقة في بحث هذا الموضوع.

ان كتاب “منطق ماركس”، يُعنى أولاً بالمنهج والمنطق وادواتهما: المنطق الصوري، المنطق الرياضي، الاستدلال والاستقراء والاستنباط، التحليل والتركيب، العلاقات السببية، المجرد والملموس، التاريخي والمنطقي، الخ.

وتتركز دراسة هذا المنطق واشكاله في القسم الأول من الكتاب. ومن بداهة الأمور ان تقترن هذه الدراسة المنطقية بفحص المقولات الأساسية، وتعيين مضامينها المتباينة بتباين النظم الفلسفية، وبخاصة مفهوم الجوهر، كشيء ثابت سكوني، من جانب، ومفهوم الجوهر، بوصفه علة ذاته Causa Sui (حسب سبينوزا)، أو “واجب الوجود” (حسب تعبير الفلاسفة العرب العظام)، وبوصفه ذاتي التطور بفعل منطقه الداخلي (هيغل).

ويخلُص الفيلسوف زلني من مجمل العرض والمحاججات، والتدقيقات الرهيفة، الى ان ماركس أرسى نمطاً جديداً للمنهج طبقه في رأس المال هو “ التحليل البنيوي – التكويني” Structural – genetic analysis، كما أرسى منهجا فلسفياُ جديداً لبحث المبادئ الأولى في المنطق، يطلق عليه زلني أسم: علم الممارسة – الأنطولوجي – المنطقي Ontopraxeologic فالمنطق، بأعتباره علم أشكال الفكر المفضي الى ادراك الحقيقة الموضوعية، لا يقتصر على قيود اجرائية “قَبْلية” في الذهن، بالمعنى الكانطي للتعبير، بل يتعداه الى الممارسة (كوسيط)، والى علاقة الفكر بالوجود، وبالتالي فأن المنطق لا يشكل غير جزء من مكونات عملية الإدراك. من هنا هذا التركيب في المفهوم الذي يصوغه زلني: ممارسة – انطولوجيا – منطق.

وبديهي ان دراسة هذا الموضوع تعني، أو بالأحرى تقتضي، بحكم منطقها الداخلي، وأبعادها التاريخية، دراسة علاقة ماركس بأشكال المنطق (ونظرية المعرفة) والتي تفترض بدورها دراسة علاقة ماركس بأرسطو (على نحو غير مباشر) وبكانط وهيغل ( على نحو مباشر). من هنا انتقال الكتاب في جزئيه، الثاني والثالث، الى بحث علاقة ماركس – هيغل، التي يعرض تشابكها ](1) ماركس هيغليا بمسحة نقدية (2) ماركس ناقداً هيغل من منظار فيورباخ (3) ماركس ناقداُ هيغل بتجاوز فيورباخ...الخ[ ويوجه الضوء النقدي على فرضيات لوكاش وألثوسير ولوفيفر وآخرين بهذا الشأن.

كما يبحث الكتاب علاقة ماركس – كانط، وهيغل – كانط، وهيغل – سبينوزا، وهيغل – فيخته، وفيورباخ – هيغل، ثم ماركس – فيورباخ، ماركس – هيس، ليعود الى اغناء علاقة: ماركس – هيغل. وبهذا يشكّل الجزء الثاني والجزء الثالث، الخلفية النظرية – التاريخية للجزء الأول.

ما من شك في أن ثمة صعوبة أو لربما صعوبات في قراءة هذا الكتاب. غير أن ثمة ثقة في أن القارئ الجاد يقبل التحدي. فعلى حد تعبير ماركس، ليس ثمة طريق ملكي الى العلم، ولبلوغ الذرى، لابد من اجتياز المسالك الوعرة!

أخيرا لابدَّ من نبذة عن حياة وأعمال مؤلف الكتاب، الفيلسوف يندريش زلني، المولود في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 1922 والمتوفي في 11 كانون الأول (ديسمبر) 1997.

ينصب اهتمام زلني، فلسفيا، على قضايا العقلانية وانماطها التاريخية، والقضايا الأساسية للديالكتيك المادي، وأشكال التفكير العلمي، وعلاقتها بالمنطق، وتطور الانطولوجيا التقليدية. وتأتي عناوين أهم مؤلفات زلني بهذه الاتجاهات:

  1. علم المنطق عند ماركس و “رأس المال”.
  2. الممارسة والعقل. مفهوم العقلانية وتجاوز الانطولوجيا التقليدية في النقد الماركسي لهيغل.

3.ديالكتيك العقلانية؛ وغير ذلك من المؤلفات.

ونترك للقارئ ان يستشف ما يتميز به ي. زلني من علمية صارمة، ناقدة، ونفاذة في آن. وإن كان زلني يفتقر الى شيء فهو افتقاره الى المدائحية المفخمة لأشخاص مؤسسي الماركسية. ويتجلى ذلك في تبيانه لنواقص معينة في بعض معالجات ماركس (الطابع الصحفي لسجالات أيام الشباب على سبيل المثال). وهو بهذا الأسلوب، وبالصرامة المدققة في المعالجة، يتمسك بعقلانية الماركسية ذاتها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مقدمة الباحث الراحل فالح عبد الجبار لكتاب يندريش زلني الموسوم (منطق ماركس) الصادر عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي عام 1990، بترجمة ثامر الصفار.

عرض مقالات: