بداية يمكن القول ان “اقتصاد السوق الاجتماعي” هو مصطلح اشكالي بسبب التناقض الكامن في بنيته حيث يجمع بين مفهومين متناقضين: “السوق” و “الاجتماعي”.
ومصدر التناقض يكمن في ان السوق في الأساس ليست اجتماعية حسب مفاهيم الليبرالية القديمة والجديدة، وهي بالتالي تنافسية واقتصادية في معاييرها، فمن يمتلك قدرة شرائية يستطيع الشراء والبيع، ومن لايملك شيئا لايقبل في التعامل في السوق. من هنا فالسوق ليست اجتماعي ولا يتعامل حسب الحاجات أو الحقوق. و من جانب آخر هو تمييزي وانتقائي، أي انه منحاز الى “الأقوى” و “الأقدر” وهو بالتالي ليست ديموقراطيا كما أنه ليست عادلا.
اما مفهوم “الاجتماعي” هنا فيمكن اختصاره بتدخل الدولة لتوجيه بعض الانفاق والاستثمار لتلبية الاحتياجات الاجتماعية، وهذه اهداف لا تكترث بها آليات السوق الطليقة. وبهذا المعنى فان المقصود بتعبير “اجتماعي” هنا هو:
حماية المنافسة الاقتصادية في السوق وتفعيل آلياتها.
تحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الدخل.
تطوير آليات السوق لتكون عنصرا هاما في تحقيق الضمان والتوازن الاجتماعي.
العمل على تامين حقوق الانسان المثبتة بموجب الشرائع الدولية.
تتيح الملاحظات السابقة بلورة الخلاصات التالية:
- ان اقتصاد السوق الاجتماعي ينطلق من مبادئ اقتصاد السوق ويعمل وفق آلياته من حيث تخصيص الموارد والمنافسة والحرية للمستهلكين والمنتجين، مع محاولة تحقيق التوازن والضمان الاجتماعي وخاصة للطبقات الكادحة، وذلك من خلال الدور الكبير للدولة في المراقبة والتدخل الايجابي مع حالات فشل السوق.
هكذا إذا فان اقتصاد السوق الإجتماعي يقوم على فكرة التفاعل بين (الأسواق وحركتها) و (الدولة وتوجهاتها)، أي الإعتراف برؤية متوازنة لدور الدولة والأسواق واعتبارهما شريكين يجب أن يتعاونا لتحقيق مصلحتها. أما طبيعة هذه الشراكة فتتوقف على أهداف ومستوى تطور النظام السياسي الإقتصادي. ولذلك توجد عدة أشكال لإقتصاد السوق الإجتماعي:
* فتوجد الصيغة اليابانية التي تعتمد في إدارة إقتصادها على (التوجيه الإداري)؛
* كما توجد الصيغة الألمانية القائمة على اعتبار أن العمال وأصحاب العمل هم “شركاء اجتماعيون”. ومن مسؤوليتهم زيادة المردودية وهذا ما عبر عنه المستشار الألماني الأسبق (شرويدر) بـ “الميثاق الإجتماعي”؛
* أما الولايات المتحدة الامريكية وباعتبار أكثر رأسمالييها من الدول الأخرى، فمفهوم “الشراكة الاجتماعية” ليس مهما، ولهذا فإن دور النقابات العمالية فيها محدود وأقل من غيرها.
* ونموذج الدول الاسكندنافية (دولة الرفاه الاجتماعي)، وخصوصاً السويد.
* النموذج الصيني الذي سمي بـ “اقتصاد السوق الاشتراكي”.
لقد ولدت بعض هذه النماذج (نموذج الرعاية الاجتماعية أو ودولة الرفاه) في قلب الصراع بين نظامي الرأسمالية والاشتراكية و”الحرب الباردة” بينهما خلال المرحلة السابقة من العولمة الرأسمالية غير المطلقة وسوقها الدولية غير الشاملة.
- وبما ان اقتصاد السوق الاجتماعي هو شكل من اشكال اقتصاد السوق فهو بهذا المعنى ليس مرحلة انتقالية الى اقتصاد السوق الحرة (لانه ينطلق اصلا من مبادئ اقتصاد السوق ويعمل وفق الياته) او الى الاشتراكية.
ومن الضروري التاكيد هنا على ان العلاقة بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاجتماعي لا يجوز التعامل معها باعتبارها علاقة جامدة بين مكونيها بل يجب النظر إليها في جدليتها وتاريخيتها، بمعنى انها محكومة بالزمان والمكان. فهي في فترة “الحرب الباردة” غيرها في فترة العولمة الرأسمالية وهي في المناطق والبلدان الرأسمالية الصناعية المتطورة غيرها في البلدان النامية. بل إن هذه المعادلة، وكما اشرنا سابقا، محكومة بالتناقض بين طرفيها: طرفها الاقتصادي الربحي فردي النفع المحدد بالسوق الرأسمالية وطرفها الآخر الاجتماعي جماعي المنفعة المحدد بأولوية المجتمع على السوق.
ولابد من التذكير هنا بأن العلاقة بين العدالة الاجتماعية والفعالية الاقتصادية تاريخياً، كانت تحل على حساب أحد طرفي المعادلة، فأي رفع لمستوى العدالة الاجتماعية كان يرافقه تصور أنه يؤدي إلى انخفاض الفعالية الاقتصادية والعكس صحيح.
وإذا كان في السابق، وبسبب المستوى المتدني لتطور القوى المنتجة، يمكن الفصل بين ضرورتي العدالة الاجتماعية والفعالية الاقتصادية سبباً، إلا أنه اليوم، يتضح مع الوقت أن هذين العاملين يندمجان في بعضهما البعض، وأصبح أحدهما يتطلب الآخر، وانخفاض وضعف أحدهما يؤدي تلقائياً إلى ضعف وتراجع العامل الآخر. لذلك تصبح العدالة الاجتماعية بمفهومها الضيق (الأجور وعلاقتها بالأرباح) ومفهومها الواسع (مستوى المعيشة ونوعيتها) جزءاً مكوناً وفاعلاً في عملية الفعالية الاقتصادية، كما أن الفعالية الاقتصادية بتطورها تؤمن أرضية تأمين حاجات العدالة الاجتماعية.
وهنا ثمة سؤال يطرح نفسه وهو: ماهي علاقة اقتصاد السوق، حتى لو كان اجتماعياً، بأشكال الملكية المختلفة (خاص، دولة، عام، إلخ)؟
يحاول البعض أن يتنصل من هذا الموضوع، كي يبقى الطابع الاجتماعي لاقتصاد السوق معوماً؟ والمقصود بالاجتماعي هنا هو: مصالح أية طبقة/فئة اجتماعية يجب أن تخدم السوق في ظل وجود مصالح متناقضة في المجتمع يستحيل التوافق فيما بينها؟ أي بكلام آخر: كيف يجري توزيع الدخل القومي في المجتمع؟ وفي نهاية المطاف ماهي العلاقة بين الأجور والأسعار؟ لذلك يبقى الكلام عن اقتصاد السوق الاجتماعي بلا معنى، إذا لم يلامس أشكال الملكية التي تؤثر على طريقة توزيع الدخل.
واستنادا الى الملاحظات اعلاه يمكن القول إن مفهوم “اقتصاد السوق الاجتماعي” هو من حيث الجوهر محاولة للتوفيق بين قوانين الاقتصاد الحر كما عرفتها الرأسمالية وبين مبادئ تناقضها تتعلق بالجانب الاجتماعي في النظام الاشتراكي، حيث تحتل مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والضمانات الصحية والتعليمية المرتبة الأولى من سلم الاهتمامات. وهذا ما دفع بعض الباحثين الى اعتباره اشبه بمحاولة لخط طريق ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية يتميز باستمرار حضور الدولة والقرار السياسي في صياغة ومراقبة العلاقة بين التنافس والتضامن وبين وحشية السوق والعدالة في الحياة. ولهذا يسمي البعض هذا الخيار بـ “الليبرالية المنظمة” وآخرون يطلقون عليه “الرأسمالية الملطفة”.
وبحسب المفكر الاقتصادي السوري الراحل د.عصام الزعيم، يمكن اعتبار اقتصاد السوق الاجتماعي اقتصادًا مختلطا يجمع الدولة والقطاع الخاص وهجينا يجمع السوق والمجتمع يأخذ مقومات له من نظام السوق وأخرى من نظام الرعاية والتنمية الاجتماعية. لكن آلية تطبيقه تختلف بين دولة وأخرى. كانت المشكلة وما تزال هي حسم الخيار الاقتصادي لكن هذا لا يعني أن الخيار لا بد أن يكون أحاديا بل على العكس إنه يكون خيارا مركبا أي يجمع بين آلية السوق القائمة على التنافس والربحية وغائية التنمية البشرية والرفاهية الاجتماعية.
ولهذا يمكن القول إن مصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي، ليس تعويذة قادرة بلمسة ساحر على إيقاف قوى السوق المحلية المنفلتة والمتوحشة والمرتبطة بقوى السوق العالمية، فالشكل النهائي والملموس له ستحدده على الأرض محصلة صراع القوى الاجتماعية المختلفة، والذي يجري في بيئة إقليمية وعالمية غير ملائمة مؤقتاً للقوى النظيفة في جهاز الدولة والمجتمع.
واخيرا لا بد من ملاحظة سريعة وهي ان اقتصاد السوق الاجتماعي يعود في سياقه المفهومي إلى الليبرالية (كفكرة وكنظام)، إذ انبثقت من “الليبرالية” نُظم ونماذج اقتصادية وسياسية متعددة، خصوصاً، الليبرالية الكلاسيكية، والليبرالية الحديثة (المنظّمة).
وتختلف الليبرالية المنظمة عن الليبرالية الكلاسيكية، من خلال نموذج (الاقتصاد الحر) لعلاقة الدولة بالحياة الاقتصادية، حيث يرفض أنصار الليبرالية المنظمة اقتصاد “دعه يعمل، دعه يمر” الذي طرحه “ابو” الاقتصاد السياسي الكلاسيكي (آدم سميث)، ودور الدولة الراعية للأمن فقط، فالدولة تناط بها مهمة تحقيق الإطار والمناخ، الذي يسمح بإطلاق الحياة الاقتصادية، وضمان المنافسة.
نشأ فكر “اقتصاد السوق الاجتماعي” من مشاعر الخوف، بعد الحرب العالمية الأولى ومآسيها، على انهيار الدولة، وأتى ردة فعل على عدد من التجارب السابقة، طاول بعضها مجمل العالم الغربي الصناعي في حينه، وكان بعضها الآخر خاصا بألمانيا.
بالمعنى التاريخي المباشر، نشأ هذا الفكر في كنف جمهورية فايمر القلقة، وأتى في مواجهة كل من المرحلة البسماركية السابقة، والفكر الاشتراكي الماركسي، والتوجهات النازية السياسية والاقتصادية.