يحتل مفهوم الاغتراب فلسفيا وسياسيا موقعا مركزيا في النقد الماركسي للمجتمع الرأسمالي وفي تطور الوعي الثوري الجماهيري من أجل تحقيق الحلم الاشتراكي. ولم يتوقف الاهتمام بمفهوم الاغتراب بعد وفاة ماركس بل استمر البحث والجدل حول دلالات ومعنى «الاغتراب» في أوساط التجمعات الثقافية الماركسية في أوروبا التي تكاثرت في مرحلة ما بعد ماركس، وخاصة في القرن الماضي بعد نشر تراثه ولأول مرة مثل مخطوطات 1844 في عام 1932. واحدثت نقلة نوعية في تجديد الاهتمام بأطروحات ماركس حول الاغتراب، وانتشر بشكل واسع في الغرب، وكذلك نقل المفهوم الى فضاءات أخرى اجتماعية ونفسية. وكانت احد المتغيرات ما بعد ماركس هو الجدل عن ماذا يعني «الاغتراب». فعلى سبيل المثال تغير مفهوم الاغتراب الذي جاء في كتاب هيجل «ظاهريات الروح» في 1807 ومن ثم لدى فيورباخ في كتابه «جوهر المسيحية» في 1841 الى المنظور الديني  وبعدها السياسي في مناقشة مفاهيم العقد الاجتماعي وفقدان الحرية الفردية، حتى تناولها ماركس واعطى المفهوم بعدا ثوريا في معرض تحليل الدوافع التي تكمن خلف نزوع الطبقة العاملة للخلاص من أغلالها.

وبعد وفاة ماركس ضعف الاهتمام بالمفهوم في الاعمال الفكرية والسياسية في النتاجات الفكرية الماركسية في مرحلة الأممية الثانية (1889-1914) لكنها نالت اهتماما من الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية مثل إميل دوركهايم

(1858-1917) والذي يعتبر احد مؤسسي علم الاجتماع الحديث في اعماله  عن  تقسيم العمل (1897) و»الانتحار» حيث  كتب عن «الأنومي» لتوصيف الحالة التي يتأزم  فيها وينهار ويتحلل التماسك الاجتماعي، بينما تناول الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني جورج سيميل (1810-1874) الاغتراب من منظور هيمنة المؤسسات الاجتماعية على الفرد وسلبه حريته وتأثير ذلك سلبا على  العلاقات الإنسانية. وكتب عنها أيضا ماكس ويبر(1864-1920) وهو عالم اجتماع وسياسي الماني من منظور هيمنة البيروقراطية كأحد سمات المجتمع الرأسمالي التي تفقد الانسان حرية العلاقات الاجتماعية. ولكن المشترك فيها هو سعيها لفهم وتحسين النمط الرأسمالي وليس الإطاحة به وإقامة الاشتراكية كما نظر اليها ماركس «البراكسيس».

ويعود الفضل الى جورج لوكاتش (1885-1971) في كتابة «الوعي والصراع الطبقي» الذي نشر عام 1923، وهو مترجم الى العربية، في اعادة الاهتمام مجددا بموضوعة «الاغتراب»، حيث تناول فيه مفهوم «صنمية أو فيتيشيا السلع» كتوصيف للعلاقة بين الإنتاج والتبادل، حيث يحل النقد والسلعة بديلا عن العلاقات والقيم الاجتماعية التي تقف خلف انتاج السلع والبضائع، وعندما تعطى لقضايا مجردة نفسية او روحية مثل الخوف والسعادة او الشر وجودا ماديا على شكل قيمة عيانية، وينتج عن ذلك خلط بين بين ما هو مادي ونفسي روحي. من هذا المنظور تصبح  قوة العمل سلعة تخضع لضغط خارجي مثلا القوانين

والتشريعات، وهذا هو تفسير لوكاتش لمفهوم التشيؤ الهيجلي.

ولاقت أفكار لوكاتش رواجا بين أوساط اليسار الجديد والشباب وفي فرنسا بشكل خاص، وهو ما حفز لوكاتش لإعادة النشر في عام 1967 مع مقدمة جديدة ذات منحى يتضمن نقدا ذاتيا.

وجاءت بعده مساهمة الاقتصادي الروسي ايزاك روبين (1886 - 1937) والذي اعدم في الفترة التي عرفت بالتطهير في زمن حكم جوزيف ستالين (1878-1953)، حيث نشر في 1924 كتابة «دراسات في النظرية الماركسية للقيمة» الذي ركز فيه على موضوعة» الصنمية السلعية» وكان ردا على الذين ركزوا على كتابات ماركس الاولي حول الاغتراب، حيث اكد أن اعمال ماركس اللاحقة هي امتداد لمشروعة الفكري الذي كرس له كل طاقته من اجل فهم  عملية تتشكل قدرات الانسان الإبداعية وكيف تحد منها البنى المجتمعية  الرأسمالية. وكانت خلاصة ما تناوله أن «الصنمية السلعية» هي الأساس في فهم نظرية النظام الاقتصادي الرأسمالي ونظرية فائض القيمة. فالصنمية ليست فقط احد تجليات الوعي الاجتماعي بل ذات وجود اجتماعي مادي أيضا، حيث  يغترب الفرد عن نتاج عمله ويبتعد عن الاخرين في المجتمع الرأسمالي فيفقد  احساسه بذاته وتتملكه الغربة الذاتية في مكان العمل، مما يؤدي الى حالة   الانهاك والضغط النفسي.

  وفي عشرينيات القرن الماضي أستمر الاهتمام بالاغتراب كأحد مظاهر الوجود الإنساني. فمثلا تناوله مارتن هايدغر، وهو فيلسوف الماني (1889-1976) عرف بتطويره مدرستي الظاهراتيه والهيرمونتيكا والوجودية، ولكن من منظور فلسفي خالص. فكتب مثلا عن»السقوط» الإنساني للفرد الذي يعني انسلاخ الانسان من جذوره وخضوعه «للتوافق» مع محيطه، ألا ان هذا «السقوط» ليس سلبيا بل مجرد توصيف وجودي نتيجة عيشه في المجتمع. غير ان الفرد هنا هو غير العامل البروليتاري في المصنع الذي كان محور اهتمام ماركس.

وقد اهتم بعض باحثي مدرسة فرانكفورت للبحوث الاجتماعية بمفهوم الاغتراب  فمثلا كتب ماكس هوركهايمر (1895-1973) وثيودور ادورنو (1903-1960) في كتابهما «ديالكتيك التنوير» الذي نشر عام 1944 عن نظرية القطيعة الشاملة التي هي نتاج عدوانية أدوات السيطرة الاجتماعية على الفرد والتلاعب باحتياجاته من قبل الاعلام في مجتمع مغترب عن ذاته. ففي المجتمع الرأسمالي المعاصر يصبح الفرد في ساعاته الخاصة التي يتمتع بها خارج العمل تحت سيطرة قوى تحاول ان تفرض عليه الانسجام مع الوعي السائد.

أما هربرت ماركوزه (1898-  1979) فقد تناول الاغتراب لأول مرة في مقالة نشرها في 1933 من منظور التشيؤ نتيجة هيمنة الالة والتكنولوجيا، ولاحقا في كتابه «الحب والحضارة» الذي نشره في 1955، حيث ابتعد كليا عن المنهج الماركسي في أطروحته عن انعتاق الانسان الذي فقط يتم عبر الغاء العمل وتعزيز دور الطاقة الجنسية لأهمية دورها في العلاقات الاجتماعية والإنسانية. وكان استنتاجه الرئيسي ان المجتمع الذي يعتمد على الملكية العامة لوسائل الإنتاج لا يلغي ظاهرة الاغتراب بسبب غياب الشعور بالاكتفاء ونفي أهمية ودور «أيروس» وهو صراع دائم يتحكم بالحضارات الإنسانية حيث يستمر الانسان بوجوده المغترب وينعكس في حالات التمرد والعصيان والذي يرتقى بالمجتمع الى مستويات اعلى. وقد لاقت آراؤه رواجا في أوروبا في حركات اليسار الجديد ومظاهرات الشباب خاصة في فرنسا في 1968.

وبعد الحرب العالمية الثانية اهتم مجموعة من المتخصصين بالتحليل النفسي بموضوعة الاغتراب منهم أعضاء في مدرسة فرانكفورت، وبشكل خاص أريك فروم (1900-1980) وهو عالم نفس أكد، على خلاف الاخرين من مدرسة فرانكفورت، على ترابط الاغتراب بالمجتمع الرأسمالي. وكانت نقطة الانطلاق في التحليل هو اراء سيغموند فرويد (1856-1939) وهو طبيب متخصص بالتحليل النفسي، حيث على الفرد كي يستمتع بمنجزات الحضارة ان يتخلى عن غرائزه. وقد حاول فروم في كتابيه «المجتمع العاقل» 1955 و»مفهوم ماركس عن الانسان» 1961 المزاوجة بين التحليل النفسي والماركسية، وعرف الاغتراب كونه حالة ذاتية داخلية يشعر فيها الفرد انه غريب. وقد حاول البعض الإشارة الى ان حالة الصراع النفسي الداخلي نتيجة الاغتراب تؤدي الى الإصابة بالأمراض النفسية مثل القلق او الاكتئاب او الحالات العقلية مثل الشيزوفرينيا.

عرض مقالات: