تشكل «معهد الدراسات الاجتماعية» في المانيا عام 1923 وعرف بشكل واسع باسم «مدرسة فرانكفورت»، كمبادرة من بعض الباحثين ومعظمهم من أصول يهودية. 

ولم يكن هناك آنذاك في أوساط اليسار الأوروبي من يرى فكريا ان الماركسية مفهوم مقدس لا يمكن المساس به، او بذل الجهد من اجل تطويره واغنائه بما هو جديد الا القلة في أوساط الأممية الثانية ( 1889-1916)، غير ان القضية العقدية الشائكة التي واجهت المهتمين خاصة في أوساط النخب الاكاديمية كانت «ما المقصود بالماركسية» وماذا يتضمن «التجديد»، وأيضا الموقف تجاه ما سمي   « البراكسيس»، وهو مفهوم  فلسفي موجود في الفلسفات المثالية، ولكن في الفكر الماركسي يعني النشاط الثوري من أجل تغيير المجتمع بأفق اشتراكي عبر انشاء منظمة طليعية مجاهدة تقود نضالات الطبقة العاملة وحلفائها من اجل التغيير.

وكان مؤسس المعهد كارل غورنبيرغ (1861-1940) عضوا في الحزب الديمقراطي الاجتماعي النمساوي واستاذا في جامعة غوته ومن المهتمين بالماركسية ولكن بطريقته الخاصة. وقد ربط المعهد بجامعته وبقرار داعم من وزارة التعليم الألمانية. اما التمويل لتغطية نفقات اجيار البناية ومرتبات الموظفين فقد جاء في بداياته من الطالب الشاب ذي الميول الاشتراكية فيلكس فيل ( 1895-1975 ) و الذي كان والده تاجرا ثريا.

وفي كلمة افتتاح المعهد أشار غورنبيرغ  الى أنه شخصيا ضد «الشيوعية العلمية» التي طورها ماركس، وأوضح أنه لا يسعى المعهد الى كتابة «بيان شيوعي» جديد (أشاره الى البيان الشيوعي الذي كتبه ماركس وانجلز في 1848 كوثيقة برنامجية للتنظيمات الشيوعية والاشتراكية)، بل الى القيام بالأبحاث الاقتصادية والاجتماعية والترويج لها بعيدا عن الحزبية. وقد وضعت ضوابط حدّت من المشاركة الفعلية للعديد من الماركسيين بسبب ارتباطاتهم التنظيمية. فمثلا منع  الكاتب المجري جورج لوكاتش (1885-1970)، وهو احد مفكري الماركسية الأوروبيين المعروفين خاصة ارتباطا بكتبه مثل «الرواية التاريخية» و»التاريخ والوعي الطبقي»، و منع من الانتماء الى المعهد  بسبب عضويته في الحزب الشيوعي المجري، الا في مشاركات محدودة في بعض الورشات الفكرية. وعكست   نتاجات تلك المرحلة خليطا من التصورات حول المجتمع والاقتصاد مغلفة بالفكر الهيجلي والتي يعتبرها البعض بدايات ما سمي مرحلة «الماركسية الغربية». وبعد مرض وتقاعد غورنبيرغ في 1930 أصبح  ماكس هوكهايمر( 1895-1973)  مدير المعهد، وكان من عائلة يهودية ألمانية ثرية واستاذا في الفلسفة وعلم الاجتماع وتعاون، بعد تسلمه إدارة المعهد، مع ثيودور أدورنو( 1903-1962) الذي كان نائبه وأيضا ممع والتر بنجامين (1892-1940).

وكانت اهتمامات هوكهايمر مختلفة كليا، حيث ركزت على الفلسفة والعلوم النفسية، وعليه تحولت اهتمامات المعهد الى البحوث المتعلقة بدراسة الفرد والمجتمع والثقافة. فمثلا يرى هوكهايمر ان الطبقة العاملة فقدت ثوريتها نتيجة نجاح الرأسمالية في دمجها ببنيتها، وان الاشتراكية ليست حتمية وسوف لن تأتي بعد نهاية النظام الرأسمالي.

ومن مساهمات هوكهايمر المهمة تطويره لمفهوم «النظرية النقدية» كبديل عن  الخليط من الأفكار والآراء و النظريات المختلفة التي سادت في المعهد، والتركيز على بحوث مجتمعية تستخدم فيها مقاربات تجمع بين كتابات ماركس «الشاب» في  (مخطوطات 1844) خاصة حول الاغتراب والتشيوء مع بعض من الفلسفة المثالية الألمانية وخاصة هيجل (1770-1831) وخليط من مدارس علم الاجتماع التي سادت آنذاك مثل ماكس فيبر(1864– 1920 ) ونظريات علم النفس من سيغموند فرويد (1856-1939 ) الى المدارس الأخرى التي جاءت بعده  والتي أهتم بها  فيلهيلم رايش( 1897-1957) وهو طبيب ومن الجيل الثاني في مدارس التحليل النفسي واشهر كتبه «النشاط الجنسي والصراع الطبقي»، وإريك فروم (1900-1980) وهو محلل نفسي انتقل بعد هيمنة النازية الى أمريكا. وقد انضم الى المعهد في عام 1930 واشهر كتبه «الهروب من الحرية» وهربرت ماركوزه (1989-1979) وهو فيلسوف وسياسي أمريكي من أصول المانية، وكان موظفا في مؤسسة تجسسية سبقت تشكيل المخابرات المركزية الامريكية وكانت أفكاره مزيجا من نقد المجتمع الرأسمالي الصناعي والاشتراكي في الاتحاد السوفيتي، واعتمدت التحليل النفسي للنزعات الإنسانية في فترة ستينيات القرن الماضي. ومن اشهر كتبه «الانسان ذو البعد الواحد» وقد انتشرت في أوساط الحركات الطلابية اليسارية التي تبنت استنتاجاتها في «أيديولوجيتها» اليسارية الرافضة لهيمنة الدولة التسلطية الصناعية، وبين أوساط المتظاهرين في فرنسا في مرحلة الانتفاضة الطلابية الواسعة في 1968، كما راجت آراؤه النقدية للمجتمع الصناعي في فترة  مظاهرات الاحتجاج على التمييز العنصري، واضطهاد الأقليات، وحرب فيتنام في الولايات المتحدة الامريكية، وهو ما حفز  على انتشار «النظرية النقدية» في داخل الجامعات الامريكية المهتمة بالعلوم الاجتماعية، وأصبحت تعني تحليل  الظواهر المجتمعية عبر استخدام المعارف الجديدة ومن خلال نقد النظامين الرأسمالي والاشتراكي.

 ومن الانتقادات التي وجهت للمجتمع الصناعي الحديث سواء كان رأسماليا أم اشتراكيا هو فرض وتوحيد الأنماط السلوكية للفرد نتيجة النطاق الواسع لعملية الإنتاج السلعي الضخم، وصناعة التسويق والاستهلاك التي تديرها شركات لإنتاج وتوزيع المنتجات تدعمها  مؤسسات دعائية ضخمة تنتج  ثقافة اعلامية تفرض  عبرها النمط السلوكي السلعي للفرد، وحيث تزداد معدلات الاغتراب والتشيؤ بينما ينحط ويتدهور العمل الفني الذي يفقد أصالته وإبداعيته ويتحول الى سلعة للاستمتاع في أوقات الفراغ. كما نشرت مقالات تناولت ظاهرة الفاشية والسلطوية  في مجلة مدرسة فرانكفورت. ويمكن تلخيص  الحصيلة بانها تعدد في الاتجاهات الفكرية ولكنها جميعا ابتعدت عن التحليل الماركسي للماركسية على الرغم من انها انتقدت النظام الرأسمالي. وقد اضطر معظم منتسبي المعهد الى الهجرة من المانيا بعد صعود الفاشية وتسلم ادولف هتلر (1889-1945) زمام الحكم، وقد استقر  أغلب الذين تركوا المانيا في أمريكا.

ومن الكتب المهمة هو النتاج المشترك مع ادورنو (1903-1969) «جدل التنوير» عن تأثير تنامي دور العقل العلمي و التقني.

 وقد تولى هوكهايمر ادارة  المعهد بعد ان وافقت جامعة  كولومبيا على استضافته لغاية 1950 حيث عاد الى المانيا الغربية وتولى بعده  يورغن هابرماس ( ولد عام1929 وكان عضوا في التنظيم الشبابي النازي) إدارة المعهد. وتميز برفض الماركسية كليا وبحوث من سبقه حول حرية الانسان في المجتمعات الصناعية،    والسعي الى مزاوجة النظرية النقدية بالأفكار الفلسفية مثل الظاهراتية والوجودية وفلسفة شوبنهاور (1788-1860) ونيتشه (1844-1900) والهريومينويطيقية ( أو علم التأويل الذي شرحة مارتن هايدجر (1989-1976) عن موضوعات فلسفية مثل الوجود والكينونة)، وكان أيضا في فترة من حياته عضوا في الحزب النازي الألماني. هذا فضلا عن مدرسة  التحليل النفسي الى الحد الذي أدي بالبعض الى القول بان المعهد قد فقد بوصلته.

وكان هابرماس من انصار مدرسة الحداثة، فالمعرفة لديه هي انعكاس للمصالح المشتركة للأفراد في المجتمع، وما يميز البشر عن الحيوانات هو اللغة التي ساتخدامها تتطور العلوم التأويلية التي هي طريق الى التحرر. 

وقد قدمت مدرسة فرانكفورت بديلا نخبويا انتشر بين الأوساط الاكاديمية والمعاهد الامريكية المتخصصة بدراسة ما أطلق عيه في منتصف القرن الماضي «علم الكرملين»، وبتمويل من الجهات المشجعة للحرب الباردة ومساعي التصدي الفكري للماركسية والأحزاب الشيوعية واليسارية، خاصة في نقد الأخطاء الفكرية للمرحلة الستالينية، كالدراسات حول الأنظمة الشمولية، حيث اعتبرت الفاشية والشيوعية  تخلقان أنظمة متشابهة في معاداة الديمقراطية وتكريس اغتراب الانسان. وجرى  أيضا نشر هذه الثقافة في أوساط اليسار الجديد من الشباب في أوروبا التي تبنت هذه المفاهيم وبسببها خسرت انتفاضتها الكبرى في 1968. فقد كانت الانتفاضة رائعة في نشاطاتها الاحتجاجية ولكنها فشلت في تقديم الرؤية التغييرية حول النظام الاجتماعي البديل ماعدا مفاهيم فلسفية حول حرية الفرد وضرورة العدالة الإنسانية ونقد المجتمع الرأسمالي، وقد كانت في غالبيتها طموحات طوباوية.

واليوم، والمعهد يقترب من ذكرى مرور مئة عام من تأسيسه، كيف يقيم أداءه، حيث مر بثلاث مراحل: الأولى السعي لخلق بديل عن الماركسية بحذف المفاهيم التي تجعل منها أيديولوجية لحركة ثورية تسعى لانهاء النظام الرأسمالي وتبشر بالاشتراكية، والثانية ركزت على نقد المجتمع الصناعي ( الرأسمالي والاشتراكي) وتحطيم الثقافة السائدة لتحريك المجتمع من اجل تغييره، لان الطبقة العاملة وحلفاءها غير قادرين على تحقيق ذلك التغيير. وكانت نهايتها وقوع معظم رموزها  في حالة من اليأس والإحباط، والثالثة الحالية، تميزت بنخبويتها ووقوعها في متاهات الميتافيزيقيا والحداثة، فهم «عاطفيون مصابون بالتشاؤم الحضاري والعدمية التاريخية». ومع ذلك تبقى تجربة مدرسة فرانكفورت تجربة ثقافية فريدة جديرة بالدراسة والتقييم.

عرض مقالات: