قبل انهيار الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن الماضي كان العمل من اجل فهم اعمق لصيرورة وتطور الفكر الماركسي احدى الجبهات المستعرة على الصعيد الفكري مع التيارات المبشرة بالأفكار المعادية للشيوعية المغلفة بالليبرالية السياسية والتبشير بخليط من الفكر الميتافيزيقي والتجريبي والنفعي على الصعيد الفلسفي. واحد اشكال هذا الهجوم كان هي حول كتابات ماركس المبكرة.
بعض هذه الاتجاهات مثلا تغالي في مدح ماركس ونتاجاته قبل ١٨٤٨ وقبل ان ينشر مع رفيقه انجلز بيان الاممية الاولى الذي مثل البيان السياسي لعصبة الشيوعيين آنذاك نحول التغير الجذري للمجتمعات، و تعتبره منعطفا تحول فيه ماركس الانسان المرهف الحس والرومانسية والمهتم بدراسة النفس البشرية واغترابها الى ماركس المتوحش عندما بشر بأفكاره عن تقسيم المجتمع الى طبقات متناحرة ومتصارعة من اجل النفوذ والسلطة وأكد ان المهمة الرئيسية هي في التحويل الثوري للمجتمع بالاعتماد على الفكر الفلسفي المادي الديالكتيكي. وبعض أشكال الهجوم ذات جذور دينية اعتبرت كتابات ماركس مخالفة للشرائع السماوية. فالبشر غير متساوين حيث هناك من هو اقدر وافضل في ان يكون ثريا او حاكما بفعل تكوينه او تربيته او قدراته، او بما قدر له، وما عليه الا الاذعان والرضوخ وطاعة اولياء الامر خاصة من جمع بين السلطتين الدينية والدنيوية.
ويقسم البعض مراحل تطور ماركس ما قبل ١٨٤٨ الى مرحلة الصبا (١٨٣٧-١٨٤٢) والتي سادت فيها تطلعات تعتمد الافكار الديمقراطية الثورية، وتليها مرحلة تشكل الفكر الماركسي (١٨٤٢-١٨٤٨) حيث تحول من ديالكتيك هيغل المثالي الى الديالكتيك المادي وتبني الافكار الشيوعية والتي عكستها كتاباته في مجلة الحوليات الالمانية الفرنسية في ١٨٤٤ الصادرة في باريس مع ارنولد روج وهو كاتب و فيلسوف الماني (١٨٠٢-١٨٨٠) وكان داعيا لألمانيا حرة موحدة وشارك في التظاهرات مع الطلبة. وهنا كتب ماركس المخطوطات في فترة مايس - آب ١٨٤٤، وأيضا مؤلف (العائلة المقدسة) الذي تضمن تطويرا للمفاهيم المرتبطة بالماركسية. ولم يعد ماركس المخطوطات للنشر بل هي اشبه بدفتر ملاحظات لكتابة ملاحظات وتعليقات، يلاحظ فيها التأثر بأفكار هيغل (نسبة الى الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم هيغل ١٧٧٠-١٨٣١) وفيورباخ (فيلسوف وأنثروبولوجي الماني واشهر كتبة “جوهر المسيحية” 1804-1872) وقد نشر لأول مرة بالروسية عام ١٩٢٧ وبالألمانية عام ١٩٣٢ كما تمت ترجمته الى العربية ثلاثة مرات.
في هذه المخطوطات يشير ماركس الى الانعتاق الانساني الذي يعكس روحية فيورباخية انثروبولوجية بدلا عن مفهوم الثورة البروليتارية التي طورها لاحقا، والانتقال من الملكية الخاصة الى الملكية الانسانية الحقة كجزء من عملية تكامل الانسان والعودة الى الذات عبر الغاء الاغتراب الذي كانت المخطوطات أولى محاولات ماركس لدراسته عبر تطوير اطروحات فيورباخ، وذلك لان ماركس في حينها لم يتوصل بعد الى المفاهيم الاساسية للديالكتيك المادي. وقد سبق ماركس عدد من الفلاسفة الذين تناولوا مفهوم الاغتراب من منظور مختلف اجتماعي او نفسي. الا ان الاختلاف هو من زاوية الفهم الماركسي لهذا المفهوم لتفسير جوهر التناقض الحاد بين بين العمل و راس المال، فنتاج نشاط العامل العضلي لا يعود له بل الى من يملك وسائل الانتاج، ولهذا يعتبره البعض يمثل الجوهر الحقيقي للاشتراكية الحقه ذات البعد الانساني - الاخلاقي وليست الصياغات الثورية للبيان الشيوعي التي تشجع على العنف والتناحر المجتمعي. وليس من الغريب ان نجد لها صدىً في بعض كتابات المنظرين الاصلاحيين مثل ادور برنشتاين ( ١٨٥٠-١٩٣٢) في المانيا او هربرت ماركوز ( ١٨٩٨-١٩٧٩) في تعليقه على المخطوطات. ففي رأيه انها ركزت على الانسان لذاته وليس كممثل لطبقة معينة. ووجدت لها صدى ايضا في كتابات المنتمين الى مدرسة فرانكفورت للأبحاث الاجتماعية مثل الفيلسوف الالماني ماكس هوركهايمر ( ١٨٩٥-١٩٧٣) او ثيودور ادورنو ( ١٩٠٣-١٩٦٩) وهو فيلسوف وعالم اجتماع ونفس الماني ترك المانيا في عام ١٩٤٣ الى امريكا وعاش فيها حتى مماته. عرف بنظريته النقدية الاجتماعية والتي شكلت خزينا للترسانة الايديولوجية ضد الماركسية في ايام الحرب الباردة. بينما عمد اخرون الى تناول المخطوطات باعتبارها شكلا من اشكال الفكر الوجودي على غرار سورين كيركيجارد (١٨١٣-١٨٥٥) وهو فيلسوف دانماركي ولاهوتي يمثل مدرسة الوجودية المؤمنة، أو ما تحتويه من اشراقات في الفكر الديني على نمط القديس الايطالي توماس الاكويني ( ١٢٢٥-١٢٧٤). ولدى اخرين كان ماركس متأثرا بإيمانيات كانط وهو فيلسوف الماني من ابرز ممثلي حركة التنوير الفلسفية في الفلسفة الاوروبية (١٧٢٤-١٨٠٤) ويوهان جوتليب فيخته وهو احد رموز الفلسفة المثالية الالمانية التنويرية (١٧٢٦-١٨١٤) واللذين درس ماركس افكارهما بشكل نقدي، ولكن على خلافهما رفض وجود افكار اخلاقية او قانونية مسبقة وصالحة لكل مكان و زمان بل نظر اليها كمفاهيم مجردة تعكس مستوى معينا من العلاقات الاجتماعية، اي كجزء من البنية الفوقية والتي دفعته الى دراسة المنظومة الفلسفية الهيغلية (التي كان يقدسها الهيغليون الشباب وهم أعضاء في نادي الدكاترة)، ولكن من خلال الجدل الذي ساد بين اوساطهم وشارك فيه ماركس تبلورت الملامح التقدمية خاصة في مفهوم الديالكتيك وفي نقد افكار الخلود اللاهوتية ومقاربات هيغل لمضامين الفلسفة والدين حيث تبلور تيار في داخل الهيغليين الشباب يشير الى ان مصدر الاناجيل حكايات اسطورية رسمتها الجماعات المسيحية الاولى التي كانت تعيش حياة المشاعية.
الان ان القراءة الحقيقية عبر الفهم الموضوعي لماركس هي ليس تناوله بشكل متقطع بل بمقاربة كلية تأخذ مراحل تطوره الفكري والسياسي كي تتكامل الصورة الحقيقية لدوره الثوري في اثراء الفكر البشري. فلا يمكن قراءة و فهم اعمال ماركس الا من خلال التعرف على مسار حياته. ومن حسن الحظ ن هناك العشرات من الكتب التي تتناول حياته وأحدها ما كتبه الشيوعي الالماني فرانز مهرنغ (الذي شارك في تشكيل عصبة سبارتكوس وانضم بعدها الى الحزب الشيوعي الالماني ١٨٦٤-١٩١٩). ولكن معظم ما كتب يجب قراءاته بشكل نقدي لان بعضه يعكس وجهات نظر متحيزة تجاه الفكر الماركسي كمنهج او مرشد للعمل خاصة في الكتابات التي ظهرت منذ تسعينيات القرن الماضي
ومن جهة أخرى بجب ان تتم قراءة اعماله عبر التصدي لنزعات التقديس التي تنظر اليه معصوما من الاخطاء أو التفسيرات الخاطئة لما طرحه. فمثلا جاء مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا في مقطع في كراس نقد برنامج غوتا حول المرحلة الانتقالية الثورية بين المجتمعين الرأسمالي والشيوعي في انها لا يمكن ان تكون سوى دكتاتورية ثورية تقودها البروليتاريا ولم يعطها صفة الاطلاق الذي أدى التمسك الخاطئ بها في النموذج السوفيتي الى حذفها من معظم برامج الأحزاب الشيوعية في العالم باعتبار ان المهام الأساسية اليوم التي تواجهها تختلف عما كانت في زمن ماركس وانجلز او مرحلة نموذج الاشتراكية القائمة والتي تتطلب دراسة معمقة للظواهر الاقتصادية الاجتماعية لكل بلد ورسم السياقات والتكتيكات بما ينسجم و ظروف وخصائص المرحلة الانتقالية بما يحافظ على الجوانب الإنسانية في الماركسية التي كانت (مخطوطات 1844) أحد اشكال التعبير عنها.