تطرأ على التشخيص البنيوي مستجدات تستدعي إعادة اكتشاف سمات الوضع الجديد:

مترتبات الحرب العالمية الأولى - الحكومة تريد مواصلة الحرب ضد ألمانيا، والبلاشفة واليسار ضد مواصلتها لأنهم في الأصل يمثلون التيار المعارض للحرب داخل «الأممية الاشتراكية» على اعتبارها حربا بين القوى الاستعمارية المتسابقة على الغنائم، ويدعون إلى تحويلها إلى حروب أهلية بين الشعوب والطبقات الحاكمة.

ازدواجية السلطة - مع ثورة شباط/ فبراير، تولّدت سلطتان: سلطة الحكومة الانتقالية ومجلس الدوما من جهة، والسلطة المجالسية من جهة ثانية. تولّد عن تلك الازدواجية تناقض وصراع بين المؤسستين على الإمرة والشرعية. لم يعد يكفي التنسيق بينهما ولا مجرد فرض رقابة السلطة المجالسية على سلطة الحكومة المؤقتة المتمركزة في الدوما. يجب حسم النزاع لصالح واحدة من السلطتين، بتعبير آخر استيلاء مجالس السوفييت على السلطة.

قوة البلاشفة - إنهم الحزب الأوسع نفوذا في المجالس بسبب صحة شعارهم المركزي الذي يلخص ويكثف مطالب الأكثرية الشعبية: «خبز، سلم، حرية»، وقد كسبوا الأكثرية في سوفييت بتروغراد وسوفييت موسكو، ويملكون فوق ذلك تنظيما مسلحا هو «الحرس الأحمر».

الردة المضادة للثورة - كل ثورة تستدعي ردة ضدها تسعى إلى توظيف قوى أكبر من قوى الثورة بهدف الدفاع عن الوضع القائم أو الارتداد إلى ما سبقه. مع انهيار الحاميات العسكرية الأساسية في المدن، تجمّعت قوات الردة الرجعية، المدعومة من قوات «الحلفاء» (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة) بقيادة الجنرال لافار كورنيلوف الذي تحرك ضد الجمهورية والحكومة المؤقتة في آب/ أغسطس ١٩١٧ وأخذ يهدد بتروغراد. أعلن سوفييت بتروغراد التعبئة العامة واضطرت «الحكومة المؤقتة» برئاسة ألكسندر كرنسكي إلى توزيع السلاح على العمال والاستنجاد بـ«الحرس الأحمر» للمساهمة في المعركة. وقد لعب البلاشفة دورا مركزيا في صد الهجوم الرجعي، مؤكدين أنهم الطرف الأكثر جذرية واستعدادا للدفاع عن الجمهورية الوليدة.

مع إعلان الردة الملكية الحرب على الثورة، بات الخيار الوحيد حاسما: إما تجديد النظام القيصري وإما إطلاق الثورة العمالية. ولا حل وسطا بينهما. هنا برزت مسألة التوقيت: إنها الآن. هكذا تضاف إلى مسألة الثورة عند لينين مسألة الوقت. متى الانتقال من الدفاع إلى الهجوم؟

«الحلقة المركزية» أو «الحلقة الأضعف»

يعرّف لينين روسيا على أنها الحلقة الأضعف في السلسلة الإمبريالية لأنها الحلقة الأقل تطورا، لم يبلغ تطور نمط الإنتاج الرأسمالي فيها كامل مداه لكي يصبح نمط إنتاج استعماريا — احتكاريا. وهذه «هرطقة» ثانية عند لينين. بناء على ما يقوله ماركس، وما ينقله عنه كثير من الاشتراكيين والماركسيين الروس، يجري تصوير البلد الذي بلغ ذروة تطور نمط الإنتاج الرأسمالي، أي بريطانيا، على أنه البلد الأكثر تأهيلاً لقيام الثورة الاشتراكية فيه. عند لينين، العكس هو ما ينطبق على روسيا: إنها البلد الأضعف في سلسلة البلدان الاستعمارية المتحاربة على إعادة توزيع مغانم الاستعمار. لذا كانت فرصة قيام الثورة فيها سابقة على الدول الاستعمارية المتطورة، بسبب ثورتها الأولى والأزمة التي تستدعي مسألة السلطة فيها.

ليس ينتهي الأمر عند هذا الحد، ذلك أن «روسيا المتخلفة اقتصاديا هي روسيا المتقدمة سياسيا». وتقدمها السياسي هو نتاج عناصر «الوضع» المخصوص الذي يسمح بانقلاب في علاقات القوى الطبقية والسياسية لصالح تسلّم الطبقة العاملة وحلفائها للسلطة السياسية. وأولوية السياسة تستكمل «هرطقة» لينين ضد الماركسية الكلاسيكية التي ترهن انتصار الثورة الاشتراكية باستكمال نضج الرأسمالية في البلدان الصناعية الأكثر تقدما. وهي نفسها «الهرطقة» التي لحظها عنده وأيّدها أنطونيو غرامشي في مقالته «الثورة ضد كتاب رأس المال» وروزا لوكسمبورغ في كراسها «الثورة الروسية».

التعلّم من الممارسة

لنتوقف برهة أمام جديد آخر في الوضع: عفوية أو عبقرية الجماهير وما أنتجته من مؤسسات وممارسات وما يستتبعه ذلك بالنسبة لفكر الثورة ومساراتها.

بعد عودته إلى بتروغراد، خاض لينين السجال خلال أيام نيسان/ أبريل ١٩١٧، داخل الحزب بل ضد أكثرية القيادة. من أبرز المعترضين على طرح مسألة استيلاء البلاشفة على السلطة ليف كامنييف، أقرب مساعدي لينين. في ردّ لينين عليه، نبّه إلى ما أنتجته «العفوية» الجماهيرية: مجالس السوفييت. هذه المجالس، التي تنازل عنها القيصر بُعيد ثورة ١٩٠٥ بما هي مؤسسات تمثيلية، وسرعان ما تحولت إلى أجهزة للتمثيل الشعبي المباشر وإلى مؤسسات سلطة بديلة، نشأ عنها ازدواج في السلطة. وصار بإمكان العملية الثورية أن تقوم بتغليب شرعية على شرعية وسلطة على سلطة خصوصا أن للشرعية الجديدة أجهزتها العسكرية وأبرزها اللجنة العسكرية لسوفييت بتروغراد و«الحرس الأحمر» التابع للبلاشفة.

مأخذ لينين على كامنييف أنه يرفض التعلّم من الممارسة. لذا فهو يتجاهل الوضع الجديد: مجالس السوفييت، أجهزة السلطة النقيضة والبديلة التي نشأت بالمبادرات الجماهيرية.

عيّنة عن علم القيادة

ما العمل في حال تعذّر تحقيق هدف من الأهداف أو مهمة من المهمات؟ جواب لينين: عود على بدء. يجدر التوقف عند الطريقة التي فكر بها قائد ثورة أكتوبر بالانعطاف الكبير الذي دعا إليه في العام ١٩٢٢ معلنا اختتام مرحلة «شيوعية الحرب»، المتوافقة مع الانتصار في الحرب الأهلية بأكلاف استثنائية، وافتتاح مرحلة «السياسة الاقتصادية الجديدة» التي أعيد بموجبها العمل ببعض آليات السوق وسُمح بأشكال معينة من الملكية الفردية.

في نصه القصير «ملاحظات داعية» - المكتوب في شباط/ فبراير من العام ١٩٢٢ - استخدم لينين تشبيهَ متسلّق الجبال المضطر إلى العودة أدراجه بعد محاولة أولى لبلوغ قمة الجبل وذلك لوصف ما الذي يعنيه التراجع في المسار الثوري من دون خيانة القضية انتهازيا.

«لنتصور رجلاً يرقى جبلاً مرتفعا وسليطا وغير مكتشف من قبل. ولنفترض أنه قد تجاوز مصاعب ومخاطر غير مسبوقة ونجح في بلوغ نقطة أعلى من تلك التي بلغها أيٌ من سابقيه، لكنه مع ذلك لم يصل إلى القمة. يجد نفسه في وضع لا يقتصر الأمر فيه على مواصلة الصعود في الاتجاه وفي المسلك الذي اختاره وحسب، لكن بات الصعود مستحيلاً بالمطلق أيضا».

ويضيف لينين عن متسلّق الجبل:

«إنه مضطر للعودة أدراجه، للنزول، والبحث عن مسلك آخر، لعله سيكون مسلكا أطول، لكنه مسلك سوف يمكّنه من بلوغ القمة. وربما تبين أن نزوله من ارتفاع لم يبلغه أحد قبله أخطر وأصعب بالنسبة لرحّالتنا المتخيل مما كان صعوده - فأسهل عليه الانزلاق؛ وأصعب عليه أن يجد موطئ قدم؛ أما النزول فليس مثيرا للبهجة، تلك البهجة التي يشعر بها المرء وهو يصعد قُدما إلى أعلى نحو الهدف ... إلخ. على المرء أن يلفّ حبلاً حول جسمه/ خصره، وعليه أن يقضي ساعات يستخدم فيها كامل عدة صعود الجبال ليستطيع حفر موطئ قدم أو ليجد نتوءا يربط الحبل فيه بإحكام؛ وعليه أن يتقدم ببطء حلزونة وهو يتحرك باتجاه النزول، بعيدًا عن الهدف؛ وهو ليس يدري أين سينتهي به هذا النزول بالغ الصعوبة والمشقة، وما إذا كان ثمة عطفة آمنة تمكّنه من أن يصعد بحزم أكبر وبسرعة أكبر وعلى نحو أكثر مباشرة إلى القمة... ».

مع ذلك يختم لينين النص بقوله إن المجاز ليس بمثابة برهان، فـ«كل مجاز أعرج». («دروس الأزمة»، الأعمال الكاملة، الجزء ٢٤).

علم الشعارات.. يطرح لينين فكرتين رئيستين حول الشعارات: الفكرة الأولى - لا يكفي أن تكون الشعارات صحيحة، يجب أن تفهمها الجماهير.

تبدو صحة الشعارات ووضوحها في حالة الثورة الروسية مضمونة، لأننا أمام حالة نادرة حيث الشعارات صحيحة بسبب صدورها عن الجماهير وتلخيصها ما عبرت عنه وهي في ذروة الفعل الثوري. لقد التقى التحليل النظري، وتعيين تميّز «الوضع الراهن»، وما يترتب عنه من تحالف قوى ومهمات ووسائل نضال، مع ما عبّرت عنه الجماهير خلال التظاهرات والإضرابات في ثورة شباط/ فبراير، وعلى رأسها ربّات البيوت والعمال والجنود: الاحتجاج على بؤس الأحوال المعيشية، رفض مواصلة الحرب، والتصميم على إسقاط النظام الاستبدادي القيصري. وقد تحولت هذه إلى الشعارات الثلاثة للثورة بسبب صحتها والوضوح، وتعدّت الحزب البلشفي الذي صاغها لتصير الشعارات - الأهداف لمجمل الحركة الاشتراكية والعمالية والمجالس الشعبية التمثيلية - «خبز، سلم، حرية». وتكثف في ذلك الثالوث تعيين أهداف الثورة ووسائل التوعية والتعبئة والحشد لتحقيقها في آن معا. لكن هذه الحالة هي الشواذ الذي يثبت القاعدة ولا يبطلها. أي أنها لا تلغي الحاجة إلى بناء الصلة المباشرة بين عدة عمليات فكرية: التحليل الاجتماعي- السياسي، تقدير الوضع الراهن، واستنباط الشعارات - الأهداف الملائمة من منظار الطبقة الأكثر تقدما وجذرية.

الفكرة الثانية - يجب أن تخضع سائر الشعارات للشعار الرئيس.

«كل السلطة للسوفييت» هو الشعار الراهن المعد للتنفيذ. وإخضاع سائر الشعارات له مفهوم في هذه الحالة لأن تنفيذ الشعار هو الشرط اللازم لتحقيق سائر الشعارات. لكن هذه القاعدة موجهة لحالات تتعدد فيها الشعارات، الأمر الذي يستوجب تعيين أولويات بينها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجلة "بدايات" – العدد 34 – 2022

عرض مقالات: