عبر تاريخ المعرفة والإبداع، عاش العلماء والفقهاء والفلاسفة والشعراء، وغيرهم ممن يهتمون بالثقافة، أو الثقافة هي مجال عملهم، محناً كثيرة، أصبحت اليوم، تاريخاً، يمكن أن نقرأه بنوع من التأَسي، ليس على من عانوا مآسي السلطة، وما جرته عليهم من سجن وتعذيب وتهميش وقتل، بل على السلطة نفسها، لأن فعلها هذا، كشف عن ضيقها بحرية الرأي والتعبير، وبالفكر النقدي، بما هو اختلاف في النظر، وفي المواقف والاختيارات.

لا أعني أن هذا يخصنا نحن العرب، فقط، لأن مواجهة الدول والأنظمة للمثقفين والفنانين، شملت كل الحضارات والثقافات، وبدأت، بسقراط، الذي هو المثال الصارخ، في هذا السياق، كون المدينة التي حاكمته، هي مدينة ديمقراطية، ومدينة فيها قوانين، وفيها رأي، وسقراط نفسه، في مرافعته، أكد هذا، وهو يدين، بطريقته الخاصة، القضاة، ويدين المدينة، رغم تسليمه باحترام القضاء. لم يفرّ، رغم أن هذا كان متاحاً له. مات برغبته في الموت، حفاظاً على نظام المدينة، وما تجري به القوانين فيها.

في أوروبا، وفي أمريكا، وفي غيرهما من القارات الأخرى، ثمة حكايات في هذا الشأن، يمكن أن نعتبرها جرائم دول وأنظمة ضد العقل والفكر والخيال. وتاريخ الأفكار، في هذه الثقافات، كما في الثقافة العربية، يضيء لنا هذه العتمة، وما فيها من شرور، وتسلّط باسم القانون، تكون تارة سياسية، وتارة اجتماعية، وتارة دينية، كما نرى اليوم، في مجتمعاتنا العربية، التي أصبح فيها الدين، بين أخطر ما يستعمل في إدانة الفكر والخيال.

ربما، أن الدول والأنظمة، وعت خطر الثقافة على الإنسان، وما يمكن أن تحتل به المجال العام، كما حدث لها مع سقراط، فسنّت قوانين، لتردع بها النقد، أو إعمال العقل والخيال، بدل أن تستعمل العصا، أو القمع والتعذيب، وهذا، في حقيقة الأمر، شيء ليس جديداً، بل إن محاكمة سقراط، كانت الدرس الذي ما تزال الدول والأنظمة تعمل به، وترمي الكرةَ في ملعب القانون.

أليس هذا، مثلاً، ما سعى إليه وزير العدل السابق، وهو يساريّ، أو محسوب على الفكر اليساري، حين دعا إلى فرض قوانين على شبكات التواصل الاجتماعي، ليجد نفسه في مواجهة سيل من الانتقادات، جراءها، تمّ التراجع عن هذا الفخ الذي هو فخ لتكميم الأفواه، ولوضع حد للنقد، رغم أن النقد في هذه الوسائط، فيه تسيّب، وسوء تقدير للمسؤولية.

عاد وزير الثقافة، في آخر جلسة بالبرلمان، ليتكلم عن متابعة كل من مسّ بأعراض الناس أو شهّر بهم، لأن هناك قوانين تكفل حق الناس في رد الاعتداء، أو التهم التي تمسهم.

حرية التفكير والتعبير، هي حرية مسؤولة، حينما تكون نقداً مؤسساً، ومبنياً على معرفة وفهم، وعلى حجج وبراهين، ومعطيات، وعلى لغة لا تجرح، رغم ما قد يكون فيها من سخرية، ولو كانت سوداء، كما يقال. والثقافة والفكر والفن والإبداع، لا اعتداء فيها على أحد، لأنها رأي آخر، يرفض أن تحتكر السلطة، كيفما كانت، «الحقيقة» وحدها، أو تدعيها لنفسها، وتكون هي من يرسم حدودها.

الثقافة، إذن، اجتمعت عليها كل السلط، سلطة السياسة، وسلطة الدين، وسلطة المجتمع، التي تستعمل، هي والدين، الأخلاق كرادع، كما تابعنا فيما جرى من نقاش حول أحد المسلسلات الرمضانية بالتلفزة المغربية، وهو ما سماه رواد الوسائط الاجتماعية بـ “الشيخ والشيخة”.

لن أذكر أسماء من كانوا ضحايا هذه السلط، وما فعله بهم جوراً، سأكتفي بالحلاج، فقط، الذي تبيّن أن محاكمته كانت مهزلة، مثلما كانت محاكمة سقراط مهزلة، والتاريخ، هنا، يلعب دوره في إخراج الشمس من جيبه، ليفضح ما جرى، ويرمي الكثيرين في مزبلته، لأن التاريخ، مهما زوّرناه، أو حذفنا منه، أو كتبناه بدون دم، لا يفتأ هذا الدم يطفر ويطفو على سطحه، خصوصاً حين يكون دم المثقفين، والعلماء والمبدعين، والفقهاء، من كانت أفكارهم لا تسايِر أفكار الحاكمين، أو تنصحهم وتفضحهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “المساء” المغربية – 30 نيسان 2022

عرض مقالات: